دیوان عمر الخیّام
(دراسة و ترجمة منثومة)
جلال زنکابادی
مسرد: شیراز
لقد صار من المسلّمات أن عمر ابراهیم الخیّام النیسابوری(؟1021-؟1123م) حکیم، فیلسوف، عالم ریاضیّات و طبیعیّات و فلک، و شاعر رباعیّات بلا نظیر. و هو الذی ألّف أغلب رسائله العلمیّة و الفلسفیّة باللغة العربیّة، أمّا رباعیّاته و (نوروز نامه) و إحدى رسائله الفلسفیّة فباللغة الفارسیّة، وترجم إلى الفارسیّة خطبة التوحید(الغرّاء) لأستاذه الشیخ ابن سینا.
و منذ اکتشافه من قبل الغرب شاعراً - قبل قرابة القرنین- مابرح الخیّام مالیء الدنیا و شاغل المترجمین و الباحثین و الفنّانین. فقد تناولته آلاف الکتب و الدراسات و المقالات بعشرات اللغات الغربیّة و الشرقیّة، لکنّما الکتب التی تناولت معضلة اختلاط رباعیّاته الأصیلة بالدخیلة و فرزها لتحقیق و ضبط دیوانه، قلیلة جدّاً، و هذا الکتاب یدور فی هذا الفلک، الذی لم یلتفت إلیه أغلب المترجمین و الباحثین فی اللغة العربیّة منذ قرن.
و فی مسردنا هذا نحاول تلخیص ما جاء فی محاور هذا الکتاب، رغم أن أسلوب مؤلّفه یتمیّز بالشمولیّة و الترکیز و التکثیف فیکاد أن یکون عصیّاً على التلخیص أو الإیجاز، علماً إن تنتظم صفحاته الـ 269 تنتظم فی الأبواب الآتیة:
عَتَبَة / هذه الترجمة لماذا؟ وکیف؟(صص 11- 19):
یرى مترجمنا جلال زنکابادی أن النصوص الأدبیة الإبداعیة الحیّة الراقیة، التی تکون قابلة لتعدّدیة القراءة تفسیراً و تأویلاً و تعدّدیّة الترجمة حتى إلى اللغة الواحدة؛ مهما تقادمت، و فی مختلف الأزمنة، بالعکس من النصوص الضحلة التی تنفق بعد أول قراءة، ثمّ یطرح مثاله و أسطع دلیل على مصداقیة رأینا هو شعر- الخیّام- الأصیل. ثمّ یستشهد برأی الفیلسوف الفرنسی جاک دریدا: «لا یحیا النص إلاّ إذا بقی ودام. و هو لایبقى و یتفوق على نفسه إلاّ إذا کان فی الوقت ذاته قابلا للترجمة و غیر قابل. فإذا کان قابلا للترجمة قبولا تاما؛ فإنه یختفی کنص و کتابة و جسم للغة. أما إذا کان غیر قابل للترجمة کلیة، حتى داخل ما نعتقد أنه لغة واحدة؛ فإنه سرعان ما یفنى و یزول». فالمترجم تأسیساً على هذا؛ مبدع فی لغة أخرى، أو على الأصحّ مبدع فی اللغة حسب المفکّر المغربی عبدالسّلام بن عبدالعالی بتفسیره لقولة دریدا السّالفة، ثمّ استطراده مضیئاً إشکالیّة الترجمة والتباساتها المتشابکة؛ حتى استنتاجه «تغدو الترجمة لعنة ورحمة فی الوقت ذاته!»
ثمّ یعرض المؤلف أهمّ الآراء المتباینة عن إشکالیّة ترجمة الشعر، فالدکتور عبدالغفار مکّاوی یرى «... فالشعر لا یُستَطاعُ أنْ یُتَرجَم و إنّک لنْ تلقى هذا الشاعر أو أیَّ شاعر آخر إلاّ فی لغته؛ إنطلاقاً من قولة الجاحظ الشهیرة: ولایجوز علیه النقلُ. و متى ما حُوِّل تقطّع نظمه و بطل وزنه و ذهب حسنه، و سقط موضع التعجّب» و هذا یؤکّد أنّ الشعر فی رأی الأستاذ مکّاوی: «وزنٌ و موسیقى، و جرسٌ و إیقاع، و صور و رموز مرتبطة بالألفاظ" أی انّه یعنی القریض على الأغلب، فی حین یخالفه الشاعر و الباحث أدونیس فی الحکم على ماهیّة شعریّة القریض أصلاً، ولیس على ترجمته نظماً فحسب: إنّ تحدید الشعر بالوزن تحدید خارجی، سطحی قد یناقض الشعر. إنّه تحدید للنظم، لا للشعر؛ فلیس کلُّ کلام موزون شعراً بالضرورة، و لیس کلُّ نثر خالیاً بالضرورة من الشعر و انّ فی قوانین العروض الخلیلی إلزامات کیفیّة تقتل دفعةَ الخلق أو تقتلها أو تقسرها؛ فهی تجبر الشاعر أحیاناً أن یضحّی بأعمق حدوسه الشعریّة فی سبیل مواصفات وزنیّة کعدد التفعیلات أو القافیة؛ و لذا فهناک شعر جمیل لیس منظوماً، و هناک نظم جمیل لا شعر فیه.
أمّا مترجمنا زنکَابادی فیعتقد بالصواب النسبیّ للرأیین رغم اختلافهما؛ إذ یمکن لـ شاعر مترجم، أو مترجم شاعر، أن یترجم القریض ترجمة منظومة ما بین اللغات المتقاربة عائلیّاً والمتجاورة ثقافیّاً- حضاریّاً، مثلما الحال بین اللغتین الفارسیّة و الکردیّة، و بین اللغتین الإسبانیّة والبرتغالیّة، بشرط أن یکون ضلیعاً فی اتقان کلتا اللغتین و متعمّقاً فی تفاصیل ثقافتیهما؛ و إلاّ لن یفلح فی نقل المحتوى المعنى من لغة الإرسال، بأقصى دقّة وأمانة ممکنتین، مع مراعاة جرس و إیقاع المبنى الجدید فی لغة الإستقبال، ولایُستَبعَد أن یبتکرأحیاناً شعراً مترجماً یضاهی متنه الأصلی، أو یفوقه فی بعض الحالات الإستثنائیّة النّادرة.
ثمّ راح مترجمنا یوضح طریقته المبتکرة الموسومة الترجمة المنثومة ویعلّلها أیضاً :
لئن واجهتنی اشکالیّة الترجمة عن الفارسیّة إلى العربیّة (وهما غیرمتقاربتین عائلیّاً، لکنّهما متجاورتان ثقافیّاً- حضاریّاً)؛ فقد اضطررت إلى اختیار طریق یتوسّط القریض الصّارم والنثر الفضفاض، وهو الذی استدرجنی إلى المزج بین البحور الثلاثة: المتدارک/الخبب، الرجز والمتقارب، حتى أقصى الأوجه الممکنة، و لست أوّل من یمزج بین بحرین و أکثر؛ فقد سبقنی الکثیرون منذ عقود طویلة، بل منذ قرون... و مع ذلک لمْ أنعت ترجمتی بـ المنظومة إنّما بـ المنثومة المازجة بین النظم والنثر المسجوع؛ مادمت لمْ ألتزمْ إلتزاماً أرثدوکسیّاً باستخدام کلّ بحر على حدة. طبعاً لإیلائی الإهتمام بترجیح أولویّة نقل المعنى على الإنصیاع لجمال المبنى. ومن هنا أعتقد أنّ المزج بین البحور المذکورة ینطوی على امکانات جدیدة هائلة لرفد البنیة الإیقاعیّة لـ الشعر المنثوم، حیث یکون فی وسع الشاعر أن یستحضر و یجسّد رؤیته و رؤیاه المتلاحمتین دون التفریط بالجرس و الإیقاع الضروریین للشعر، مع تلافی الإنزلاق فی النثریّة المنفلتة الفضفاضة.
ولئن استندت طریقة مترجمنا المبتکرة إلى المزج بین ثلاثة بحور والنثر المسجوع؛ فقد إبتکر أیضاً تسمیة (أوقیانوس المخر) و علّلها: حیث کوّنت کلمة (مخر) من (الأحرف الأوائل للکلمات: متقارب و خبب و رجز) أمّا تأکیدی على تسمیّة منثوم، فلإحتواء (أوقیانوس المخر) على بحر الرجز (حمار الشعراء) و إباحة استخدام جوازات(زحافات) البحور جمعاء! و لقد رجّحت تسمیة(المخر) على تسمیة أخرى هی(المتخازب)؛ لکونها ذات معنى ودالّة أیضاً على طبیعة مزج البحور الثلاثة فی أوقیانوس، و لیست هی مجرّد تجمیع أحرف. و هکذا یمکن للشعراء و المترجمین الماخرین و المخّارین أن یمخروا عباب هذا الأوقیانوس الرحیب، و کلّی ثقة و آمل بظهور ماخرین و مخّارین مبدعین یصولون و یجولون فیه بأقصى حریّة ممکنة...
و من ثمّ بیّن مترجمنا ما یتغیّاه من (الترجمة المنثومة):
لقد بذلت قصارى جهدی فی ترجمتی المنثومة هذه؛ لعلّنی أحقق القسط الأکبر من طموحی، فی التوفیق بین روحیّة المتن و حرفیّته و إقامة التوازن و الإنسجام بین المعنى و الجرس دونما تضحیة نافرة بأیّ منهما، و أینما أضطررت إلى إضافة غیر موجودة فی المتن الفارسی؛ لجلو معنى حیناً، و حیناً لاستکمال مبنى (تقفیة أو تسجیع) وحیناً لکلیهما، وضعت الکلمة بین قوسین مقرونین [ ] أمّا التسمیة (ترجمة منثومة = نظم + نثر مسجوع) فلم تخطر على بالی و لمْ أهتد إلیها إلاّ منذ مطلع تسعینات القرن الماضی، رغم ممارستی لفحواها أحیاناً، منذ أواسط سبعینات القرن الماضی، فی کتابة شعری و ترجمتی للشعر إلى اللغتین العربیّة و الکردیّة عن لغات أخرى. و مع ذلک لا أستبعد وجود من سبقنی إلى ابتکارها، إنّما حسبها أن تکون فی شعری و ترجماتی الشعریّة إسماً على مسمّى برسوخ تطبیقیّ مُجدٍ؛ إذ لایهمّنی بطبعی شأن التجاریب العابرة، و لا تسجیل الریادات الآنیّة العابرة فی هذا المضمار أو ذاک، ناهیکم عن اصدار المانیفستوات الخلّبیّة و التصاریح النفّاجة!
و یؤکّد مؤلّفنا زنکَابادی على أهمیّة هذا المسعى قائلاً:
لاشکّ فی إنّ رباعیّات الخیّام الأصیلة المحققة والمترجمة هنا؛ تجلو خصوصیّة لغة الخیّام وصوره الشعریّة وأسلوبه، بل وأفکاره الفلسفیّة إلى حدّ لابأس به؛ بحیث تکون أفضل مفتاح مع مقطوعاته الشعریّةالعربیّة و الفارسیّة و رسائله العلمیّة و الفلسفیّة و غیرها؛ لکشف و معرفة و تصحیح غیرها من الرباعیّات المحوّرة لشتى المقاصد، و لفرز الدخیل و المغشوش المدسوس عن الأصیل
و یستطرد قائلاً:
و یقینا سیدرک القرّاء الأکارم وستدرک القارئات العزیزات کیف تدحرجت رباعیّات الخیّام الأصیلة، على مسار صیرورتها، ککرة ثلج صغیرة، ثمّ کیف تعاظم حجمها، عبر بضعة قرون، فضلاً عن تعددیّة روایات هذه الرباعیّة أو تلک، ناهیکم عن التنسیبات المختلفة لهذا الشاعر أو ذاک، کما لو أنّها من الأدب الفولکلوری الإیرانی! و هذا ممّا دفعنی إلى السعی بأقصى ما متاح لی من مصادر ومراجع، لحدّ الآن، حیث اتخذت من تحقیق الباحث الأستاذ رحیم رضازاده ملک بصفته منطلقاً أرأس؛ للملمة شتیت و شذرات الرباعیّات الأصیلة و القطع الشعریة المبعثرة، هنا و هناک؛ بغیة تشیید، و الأصح إعادة بناء دیوان الخیّام الأصیل الأقرب إلى الواقع و الحقیقة، إستناداً إلى محصّلة ماحققه رعیل من المحققین و الباحثین الإیرانیین و الأجانب الأفذاذ.
و کذلک یتساءل زنکَابادی مؤشراً إلى ظاهرة زیغ أکثر الباحثین والمترجمین عن الحقیقة: هل یمکن الحکم أدبیّاً ودینیّاً وفلسفیّاً على الخیّام بموضوعیّة باتخاذ رباعیّاته فقط (وغالبیّتها منحولة) معیاراً، و تهمیش و استبعاد رسائله العلمیّة و الفلسفیّة و حتى أشعاره العربیّة و مجمل آراء معاصریه فیه...؟!
و من ثمّ یعد زنکَابادی بتآلیف و تراجم أخرى لاحقة:
«و لا شکّ فی انّ تراجمی و تآلیفی بهذا الخصوص ستصدم أغلب الناس عامّة و خاصّة ممّن تآلفوا مع صورة الخیّام المشوّهة (السّائدة) التی روّجها الغربیّون أساساً؛ لمقاصد لاتخفى على أیّ لبیب، بل و ساهم فیها المشارقة أیضاً مساهمة کبیرة؛ لهذه الغایة أو تلکم... و لذا أیضاً لا أستبعد استهجان مسعای المخلص.»
عمر الخیّام شاعر العلماء و عالم الشعراء (صص 21-61):
یکتب زنکَابادی مشخصاً منزلة الخیّام الشعریّة: لمْ یحظ أیّ شاعر شرقی، لاسیّما من شعراء الرباعیّات الإیرانیین المشاهیر أمثال: أبی سعید أبی الخیر(967- 1049)، بابا طاهر الهمدانی (؟1000-؟1075)، الشّیخ عبداللّه الأنصاری (1005- 1088)، مهستی کَنجوی(1096-1181)، بابا افضل الکاشانی(؟1185-؟1256) و جمال الدین سلمان ساوجی(1300-1376) لا بل لمْ یحظوا أجمعین بما حظی به عمر الخیّام (؟1021-1122) منذ قرن و نصف، من اهتمام وعنایة المترجمین و الباحثین فی أرجاء المعمورة؛ حتى کاد أن یختطف الأضواء کلّها من عمالقة أوربا الأفذاذ أمثال: دانتی (1265-1321) ، ســرفانتس( 1547-1616) ، شیکسبیر(1564-1616)، کَویته (1749-1832) و المتنبّیء الشهیر(الطبیب و الشاعر) نوستر آداموس(1503- 1566)!
ویعلّل ما سلف بـ بفضل منظومة فیتزجیرالد؛ راحت رباعیات الخیّام تترجم إلى العشرات من لغات العالم الحیّة، و التی ناهزت الخمسین من اللغات الأوربیة، مروراً باللغات الشرقیّة حتى لغة الإسبرانتو! بل و طبعت بخط بریل الخاص بالعمیان، ناهیکم عن تعدّدیة الترجمة فی کلّ لغة؛ بحیث تجاوزت الأعداد الخیالیة لنسخها المطبوعة جمیع الکتب الرائجة باستثناء الإنجیل! فقد ورد فی مقدمة طبعة(بنکَوین) لرباعیات الخیام: .. و تعد ترجمة فیتزجیرالد لعمر الخیّام أشهر الترجمات الادبیة الى الانجلیزیة طرّاً. و لمْ تضاهها فی ذلک حتى أشهر الترجمات شعبیة مثل ترجمة (هومیر) لشابمان أو ترجمة (اوفید) لفولدنک. فقد تغلغلت فی النسیج العام للغة الانجلیزیة و صارت تشکل جزء لا یتجزأ من رصید العبارات و الأقوال الإنکَلیزیة المأثورة، التی تجری مجرى الامثال، حتى ان طبعة معجم أکسفورد لسنة 1953 قد تضمّنت تسعاً و خمسین رباعیة کاملة من جملة( 188اقتباسا مأثوراً) أی ان الرباعیات بلغت نسبة الثلثین من جملة الأمثال التی ضمّها هذا السفر، و هی نسبة تفوق ما ورد عن الکتاب المقدس و شکسبیر!
لقد حاز الخیّام شهرة خارقة عجیبة بالمقارنة مع شعراء الشرق العظماء، رغم انّه حسب رأی احمد حامد الصرّاف «لمْ یکن ألمعْ عبقریّة من أبی العلاء، و المتنبّی، و ابن الرومی، و أبی نؤاس، و حافظ، و سعدی، و الخاقانی، و النظامی... و لکنّ الخیّام أسعد منهم حظاً؛ إذ أُتیح له من أشاد بأدبه، و الدّنیا حظوظ و قِسَم» و کان الحریّ به أن یضیف اسماء الفردوسی و ناصر خسرو و مولانا جلال الدین. أمّا رأیه فلیس صائباً، و لو ربعه، على علاّته؛ إذ لم یکن الحظ سبباً جوهریّاً فی الإجتیاح الخیّامی عالمیّاً، و إنّما کان سبباً عارضاً، رغم ضرورته؛ لأنّ الخیّام بمجمل أعماله علم إیرانی-إسلامی-شرقی عظیم، بل فی مصاف أعظم سالفیّ الذکر، إنْ لمْ یبز أکثرهم بمجمل آثاره، و حتى فی الشعر حصراً، فإنّه رغم صغر حجم دیوانه؛ لایقلّ شأناً عن بعضهم، مثله مثل: لاوتسی (القرن5أو6ق.م) فی الشعر و الفکر الصینیین، خورخیه مانریکی (؟1440-1479) فی الشعر الإسبانی و رامبو (1854-1891) فی الشعر الفرنسی. هذا من حیث شأنه الأدبی، أمّا من حیث شأنه الفکری، فثمّة سبب أرأس و جوهری یتعلّق بالبیئة الأوربیة(على کلّ الصّعد) فی النصف الثانی من القرن التاسع عشر، على وجه الخصوص، و هی البیئة التی واءمت مضامین رباعیّات الخیّام و تشرّبتها أیّما تشرّب؛ فقد کانت أوربّا تشهد قرنذاک مدّاً ثوریّاً حداثویّاً ممثلاً بتقهقر إمبراطوریّاتها سیاسیّاً، و تصاعد النزعة العلمانیّة و انحسار السلطة الدینیّة، حیث عصفت ریاح الثورات: السیاسیّة، الأدبیّة، الفنّیّة، العلمیّة، الإقتصادیّة و الفکریّة، و لنا المثل السّاطع بانتشار طروحات: مارکس و دارون، فروید و روّاد الفلسفة الوجودیّة.
ثمّ یؤکّد زنکَابادی على فضل الخیّام المتمیّز:
وهنا یکمن أیضاً فضل الخیّام الذی قد یتجاوز فضل شعراء إیران المذکورین، فی ترویج اللغة الفارسیّة عالمیّاً؛ برباعیّاته الخفیفة ترجمةً والقیّمة مضموناً، لاسیّما فی التراجم الحاویة على المتن الفارسی، بحیث راح یجتذب أبناء الشعوب الأخرى إلى نشدان الأدب الإیرانی و الإطلاع علیه و دراسته بصفته أکبر البوّابات إلى الحضارة الإیرانیة؛ ممّا أفضى ذلک و سیظلّ یفضى إلى التآلف و التعاطف و الصداقة مع الإیرانیین، و هذا یعنی فی آخر المطاف إعلاء اسم وطنه إیران؛ و إلاّ لماذا حظی بتمثال رابض فی جامعة فلورنسا فی إیطالیا، و آخر فی بوخارست عاصمة رومانیا، مثلاً؟ و لماذا یزور الکثیرون من الأجانب- لاسیما من الإنتلجنسیا- ضریحه فی نیسابور سنویاً؟ ووووو... ؟
فحقّاً و یقیناً قد قارب الخیّام بدیوانه الصغیر جداً (ألف بیت من الشعر فی أکبر مجموعة مختارة) بین إنتلجنسیات و ثقافات أمم العالم و شعوبها قاطبة، بازّاً حتى الکتب المقدّسة! و لایدانیه فی هذا المضمار غیر بضعة أدباء عالمیین آخرین کدانتی و شکسبیر و سرفانتس... و لاغرو فی کلّ ذلک؛ فإنّ غیاث الدین أبو الفتح عمر بن ابراهیم الخیّام النّیسابوری(عالم الشعراء و شاعر العلماء) بحق و حقیقة، إذْ کان عالماً، فیلسوفاً، فلکیّاً، طبیباً، کاتباً و شاعراً.
ثمّ یطرح باحثنا زنکَابادی الآراء المختلفة بشأن أصل الخیّام ولقبه ویفنّد حجج القائلین بأصله العربی أو الکُردی مبرهناً أن لقب الخیّام لایدلّ على عشیرة أو قبیلة عربیّة، و لا حتى على قریة أو قصبة أو مدینة عربیّة، و إنّما هو لقب (حِرَفی) إذ کان والده و ربّما جدّه صانع خیم شهیر(خیّام/ خیّامی) فانسحب اللقب على عمر، و ربّما استحبذه بنفسه لاعتزازه بمنبته االکادح.
و یضیف باحثنا: و مثلما تضاربت الآراء فی الأصل القومی للخیّام، فقد تضاربت أیضاً فی تاریخیّ میلاده و وفاته، و حتى مسقط رأسه، إذ قیل ولد فی قریة شمشاد ببلخ، أو فی قریة بسنک التابعة لأسترآباد، ومع ذلک یترجّح الإجماع على ولادته و وفاته فی مدینة نیسابور، التی کانت فی العهود الإسلامیّة الأولى أحد المراکز الثقافیّة الکبرى، و قیل أنّها احتضنت أکثر من أربعة آلاف أدیب و عالم و حکیم ترعرعوا و نشطوا فیها، علماً أنّ بعض الشعراء ذمّوها و منهم: أبوالحسن الأسترآبادی و معن الشیبانی!
ثمّ یستنتج تتلمذ الخیّام فی نیسابورعلى أیدی الإمام موفق النیسابوری(؟!) وإمام الحرمین الجوینی (ت: 1085م) وأبی الحسن الأنباری(؟!) حیث اغترف المزید من علوم عصره، ثم قصد سمرقند؛ لإستکمال دراسة الجبر. و لما ذاع صیته فی الفلک و التنجیم و الریاضیات؛ علا نجمه؛ إذ «کان الخاقان شمس الملوک فی بخارى یعظمه غایة التعظیم، ویجلسه معه على سریره» کما جاء فی نزهة الأرواح وروضة الأفراح للشهرزوری، و من ثم استدعاه جلال الدین ملکشاه (ت: 1092) فی عام 1074 و کلّفه - مع بضعة علماء آخرین- بتعدیل التقویم الإیرانی فی1079 و بناء مرصد فلکی فی أصفهان. و کان ملکشاه ینزله منزلة الندماء حسب قول الشهرزوری. کما ورد ذکر الخیّام بإجلال فی بضعة مراجع أخرى معتبرة، منها: خریدة القصر، و مرصاد العباد، و تاریخ جهانکَشای، و تاریخ کَزیده، و نزهة المجالس، و مؤنس الأحرار. و هناک بضع شهادات معتبرة لکبار رجالات زمانه تشید بعلوّ مقامه وعظمة شأنه فی علوم وآداب عصره؛ فقد أشار أبوالقاسم الزمخشری(ت:1143م) إلى مناقشاته معه و وصفه البیهقی(1106-1170م) بأحد أکبر قرّاء القرآن و أجود بنی زمانه، و یُذکَر أنّ الإمام أبا حامد الغزالی قد أخذ دروساً عنه، أو ناقشه فی علم الکلام. و کان الخیّام یُذکَر بإجلال قلّ نظیره: الإمام، و حجّة الحق والیقین، و غیاث الدین، و نصیر الدین، و ملک الحکماء، و فیلسوف العالم، و الشیخ الأجلّ، و سیّد المحققین، و الأدیب الأریب الخطیر، و الفلکیّ الکبیر.