شعراء ما بعد نیما یوشیج .. الجیل الثانی / أبو الفضل باشا

شعراء ما بعد نیما یوشیج .. الجیل الثانی / أبو الفضل باشا
إستعرضت مجلة شیراز فی أعداد سابقة المشاریع الأدبیة لدى نیما یوشیج وأربعة من الشعراء الرواد المعاصرین فی إیران هم: أحمد شاملو، فروغ فرخ زاد، مهدی إخوان ثالث وسهراب سبهری.
سه‌شنبه ۲۶ اسفند ۱۳۹۹ - ۱۲:۳۹
کد خبر :  ۱۶۷۵۳۹

 

 

شعراء ما بعد نیما یوشیج .. الجیل الثانی

 

 

 أبو الفضل باشا

تعریب: حیدر نجف

                                              

ونستعرض فی هذه الصفحات مشاریع وأعمال جیل آخر من الشعراء المعاصرین، ونحن مضطرون هنا لمراعاة الایجاز والاختصار، إذ من دون ذلک، سیستدعی تعریف ومعالجة کل واحد منهم مجالاً أوسع، حتى نستطیع رسم صورة أکمل وأشمل لهؤلاء الشعراء، فالسبیل الذی أسس له نیما وواصله الشعراء الذین جایلوه، بلغ أطواره التکاملیة الناضجة وإقتحم مساحات أرحب على ید شعراء لاحقین سنتطرق لهم فی بحثنا هذا، وبعبارة أبسط فان کل واحد من هؤلاء الشعراء المنتمین للجیل الثانی من أجیال الشعر الایرانی المعاصر، قدم تجارب جدیدة، وأضاف عناصر مهمة إلى ما جاء به نیما، وأثرى الشعر الایرانی الحدیث من نواح متعددة... وسوف نخوض تتمة للمقال فی المشوار الأدبی لکل واحد من هؤلاء الشعراء.

 

1- نصرت رحمانی (1930 – 2001 )

فی ظلمات مضغوطة تطرزه الأوهام

سقطت قطرة دم من حنجرة طائر اللیل

ونمت شوکة على رأس متاه الصحراء

وإنسحقت قصیدة فی طاحونة أضراسی

 

فی نعرات الانطفاء وإنطفاءة النعرات

خاطت مدیة الصمت شفاه الأمل

سقطت دمعة وأغفت الشموع وقضى القمر نحبه

وإلتهم الضبع جیفة رجل فقید

 

أیتها القطرات الداکنة.. ماذا حلَّ بالملاحم

وأین هو القائد المخضرم فی مدینة الذهب الأسود؟

لماذا لا تشرق الشمس؟

أین هو المداح الرخیص.. أین شاعر البلاط الوفی؟

 

        السطور أعلاه بدایة قصیدة من "الرحیل" المجموعة الشعریة الأولى لنصرت رحمانی والتی قدم لها نیما یوشیج. نصرت رحمانی من الشعراء المهمین فی الجیل الثانی الذی أعقب نیما. شاعر تتصاعد تجلیات الحیاة العصریة فی أعماله بکثرة، فالجرأة التی أبداها فی إستخدام العناصر المدینیة والأشیاء المحیطة به تستدعی الإعجاب والتأمل بحق  شاعر إستضاف فی قصائده کثیراً من المفردات التی قد لا تبدو شاعریة للوهلة الأولى، وأنتج منها أبیاتاً جمیلة:

 

ما عادت الریح تکسر غصن السفرجل

ما عادت القطة تقفز من القرمید على المیزاب

ما عادت مرساة الأیدی تغوص فی میاه الباب

ما عادت الشمعة تقطر النور على " الدهلیز "

 

الموقد المتجمد یکنز فی فؤاده الرماد

الغراب الأسود العجوز مات على شجرة " الحَوْر "

قفل الباب القدیم یختنق ببکاء حبیس

الغبار یستریح على "الغربال" و "الصینیة" و "الجفنة"

 

دخان المصباح الزیتی یغلی زخارف السقف

الدخان لا زال، ولا دفء یبعثه المصباح

بجوار الستار المزرکش وعلى الوسادة الناعمة

خالٍ مکان رأسکَ ولکن لا مکان للاکتواء

 

        أصدر رحمانی ما عدا "الرحیل" مجامیع شعریة أخرى منها: "الصحراء، أغطیة الجنائز، میعاد فی الوحل، حریق الریح، ودار الکأس، السیف معشوق القلم" وقد صدرت مختارات من أشعاره فی مجموعة بعنوان "الحصاد" أبان فترة شبابه وحظیت باهتمام جمهوره فی حینها. ونشر أیضاً کتاباً نثریاً باسم "رجل ضاع فی الغبار" یمکن المرور فیه بلحظات شاعریة شدیدة النقاء.

        رحمانی شاعر جریء إستطاع التأثیر فی طیف واسع ممن عاصره من الشعراء الشباب وتفرد بأسلوب خاص کدّسه بمضامین إجتماعیة هامة لینتج بذلک قصائد جمیلة ومؤثرة وذات هموم إنسانیة عامة، ترکت بصماتها الجلیة على الشعراء من بعده:

 

الأرض مزرعة المقابر

والزمن عجوز غبی ضعیف السمع والبصر

ما عاد ثمة کلام خلف خندق الأسنان

منذ أمد والأفواه تنبت السلاسل

والألسنة حبیسة الأفواه

یغزوها القرح والتهرؤ

إذ نفتح بالوعات الشفاه

تتدافع السموم والدماء

 

        النقطة المهمة فی أعمال رحمانی أنه إستخدم لغة الشارع الدارجة التی وظفها بعفویة من دون إنزلاق إلى هاویات التکلّف والاصطناع، ولهذا تقاطر على منجزه شعراء وقراء کثر ما جعله وهو فی مستهل مشواره الأدبی أحد الرموز الشعریة المرموقة فی إیران.

 

2- ید الله رؤیائی ( ولد سنة 1932 )

أفکاره تتراکض فی کنه اللیل

وید الهموم تسند حنک الظنون

بکل نظرة من نظراته تقفز فراشات الأفکار على الجدران.

 

        السطور هذه من قصیدة لـ "یدالله رؤیائی" الذی یلاحظ على منجزه الشعری تحول کبیر حققه بمرور الزمن. وحینما ولج عالم الشعر بنحو جاد، کان قد نشر فی الصحافة قبل ذلک مقالات نقدیة ممیزة. ولذلک عندما صدرت مجموعته الأولى "على الطرق الخالیة" مثلت خطوة متأخرة عن کتاباته النقدیة لکنه تقدم الى الأمام بعد ذلک مستعیناً بمطالعاته لأعمال الشعراء العالمیین ولا سیما الفرنسیین منهم، فوصل به المطاف الى مجموعة "بحریات" ومنها هذه المقاطع:

 

أربعة وعشرون بیتاً مضیئاً

مَرَّرَت جسد الضیاء

فی دماء اللحظة الصفراء

 

حلَّ النهار!

وکأن ذهن البشر

جالس على جسد الماء البارد

إنها الضفة!

                - مرآة یقظة –

الانسان * شجرة الصورة *

والکلمات کلها زهور وفواکه

فرس أبیض یمرُّ من هناک

 

        توصل رؤیائی بمرور الوقت الى تجلیات قشیبة فی اللغة فکان بذلک أحد الشعراء المهمین بعد نیما، حتى أن من الصعب رصد مثیل لسلوکه الخاص فی مضمار اللغة لدى أیٍّ من شعراء تلک الفترة. قدّم رؤیائی أعماله التالیة فی مجموعتی "الحسرات" و "مِنْ حبی لکِ" فلفت أنظار العدید من الشعراء والمتلقین الى ماضمّته هاتین المجموعتین:

 

والریاح...

حین کانت تعلِّم الأخطاء للأغصان

والطائر وسط الریاح

حین یهز مهد الخطأ

حین أفکر بالحجر

یختبىْ القذف فی یدیّ

 

حین أفکر بالحجر

تختفی العلاقة فی کفیّ

یختبىء فیهما عشُّ القذف

القذف الذی هو العلاقة

حین أفکر بالحجر

 

        أسس رؤیائی فی تلک الأعوام نمطاً من الشعر أطلق علیه " قصیدة الحجم " فانضمت إلیه کوکبة من الشعراء وقّعوا بیان " شعر الأحجام " وکان منهم شعراء معروفون نظیر برویز إسلام بور، بهرام أردبیلی وسواهم ممن رافق رؤیائی وکان لهم الدور البارز فی نشر وتطویر شعر الأحجام. من الأعمال الأخرى لرؤیائی " من الرصیف الأحمر" و "هلاک العقل عند التفکیر" (کتب نقدیة) و "ما یتساقط عن الشفاه" و " سبعون شاهدة قبر" و(مجامیع شعریة).

 

3- منوجهر آتشی ( 1932 – 2006 )

حصان أبیض وحشی

واقف على المعلف بکبریاء

یفکر بصدر السهوب العلیل

حزین على قلعة الشمس المحترقة

کبریاؤه فی رأسه، وحسراته فی قلبه

أریج الأعشاب الطازجة لا یستفزه.

 

        هذه السطور مستهل إحدى القصائد المعروفة لمنوجهر آتشی... الشاعر الذی یعد بحق أحد أهم رموز الشعر الایرانی بعد نیما. نظم آتشی قصائد جد موفقة إستوحاها من البیئة المحلیة لمسقط رأسه ومن دون إقتباسات من أشعار الآخرین، حتى أنه إبتکر أسلوباً خاصاً سجل بإسمه، وقد أبدى براعة منقطعة النظیر فی إستخدام العناصر المحلیة، ومن الشواهد على ذلک أبیاته التالیة:

 

صدقونی! الحیاة لیست جواداً متعباً

یرشدونه الى معلفه بلا فارس

الدنیا لیست طائراً

جاء من قمم الجنوب العاریة المتوحشة

یدفعون أنثاه الرقیقة

من عشه

ومن کنز البیوض المزحوم بالخفقان

لتتمدد على موائد الضباع

 

        حملت المجموعة الشعریة الأولى لآتشی عنوان "لحن آخر"، وقد وظف فیها أشیاء کالفرس والسیف والمعلف و... توظیفاً ذکیاً جاء طبیعیاً وبعیداً عن التکلف الى درجة حظیت معها مجموعته الأولى بإعجاب ومبارکة الکثیر من شعراء تلک الفترة، وإستطاعت فتح طریق ممیز أمام فن الشعر، محققة لصاحبها أنصاراً وجمهوراً ومحبین.

        مجموعته اللاحقة حملت عنوان "أغنیة التراب" وأثارت هی الأخرى إهتمام کثیر من الشعراء والجمهور والمهتمین بقضایا الشعر. لکن الشاعر إتخذ فی مجامیعه التالیة منهجاً مهجناً سرَّب العناصر غیر المحلیة الى شعره بشکل تدریجی. ومع ذلک بقی آتشی معروفاً بوصفه مؤسس نمط شعری یولی أهمیة کبیرة للعناصر المحلیة . من مجامیعه الشعریة الأخرى تتسنى الاشارة الى "لقاء فی الفلق" و "وصف الوردة الحمراء" و "القمح والکرز" و "الشکل القدیم للعالم" و "کم هی مُرّة هذه التفاحة" و... لنقرأ مقطع آخر من شعره:

فی سحر خریفی مضبب

إسأل میاه الصباح المتدثرة بالعُقد

کم من الصرخات الغاضبة العابسة تتذکرها صخور وادی "دیزاشکن"

أطلقها أصحاب قبعات صوفیة رخیصة

لم یطلبوا الخبز الرخیص لأنفسهم فقط...

 

4- احمد رضا أحمدی ( ولد سنة 1941 )

حین فتحت النافذة کان للیل رائحة الحزن

حین قطفت النجوم تهرأت فی منادیل الغجر

الجنابذ الیافعة کانت متعبةً

فماتت فی صقیع اللیل

ساعة الجدار الخرساء تشتاق للضجیج

وأحزان الحدیقة أذابت زهور الثلیج

لکن الطریق المظلم أفضى الى أحزان الشوق

 

        السطور أعلاه من نظم احمد رضا أحمدی الذی أسس فی الستینیات لنوع شعری یعتمد فی جمالیاته على أسس من إنتاجه الذاتی. وببیان آخر: أسّس أحمدی لنمط من الشعر یقترح مواضع جمالیة جدیدة بغض النظر عن جمالیات الشعر الایرانی القدیم. طبعاً لم یکن لهذا الشاعر باع یذکر فی حیّز النقد، فلم یطلق إدعاءات کبیرة بخصوص الانجاز الذی قدمه للساحة، بید أن الشاعر والمترجم فریدون رهنما وفی ضوء ما جاءت به السینما الفرنسیة الرائدة التی حملت عنوان "الموجة الحدیثة" أطلق على هذا النمط الشعری عنوان "الموجة الحدیثة"، وبادر الناقد إسماعیل نوری علاء بعد ذلک لعرض خصائص هذا النمط بنحو أکمل وأوفى فدفع جهده هذا أنصار الموجة الحدیثة الى التعمق فی أغوارها أکثر. وهذه سطور أخرى للشاعر احمد رضا أحمدی:

 

لا تنقبوا فیَّ

بل أغرسونی

فأنا الآن بذرة صالحة

قیدونی على جذوع الضیاء

إصنعوا من أصابعی أقلاماً خشبیة للأطفال

ضعوا أذنی حارسة لأزهار الصوت

إجعلوا عیونی زهور نیلوفر

وعلقوها على کل جدار ینتظر ذکریات الطفولة

إنثروا بذور المحبة فی صدری لیلعب

فی مزرعتی أطفال سئموا الأبجدیة

 

        صدرت المجموعة الشعریة الأولى لأحمد رضا أحمدی بعنوان "إطروحة" بنفس هذه الشجاعة. وکانت مجموعته الثانیة "الصحیفة الزجاجیة" والثالثة "وقت جید للمصائب" أصدر بعدها مجموعة "بکیتُ بیاض الفرس فقط" وبقى فی کل مجامیعه هذه وفیاً للمنحى الذی أسسه فکان محط إهتمام الشعراء والجمهور الذین نوّهوا دوماً بأسلوبه الممیز.

        لم یغیّر أحمدی منحاه الشعری على مدى أعوام طویلة، ولم یستطع مواکبة تطورات الشعر التدریجیة فی العقود التالیة، الأمر الذی آل به إلى الاخفاق وببیان آخر، مع إن شعره لم یضعف بمرور الوقت، إلاّ أنه لم یلبّ تطلعات المتلقین فی العقود التالیة حین أطلقت الأجیال اللاحقة أطواراً شعریة أحدث وأکثر توفیقاً، لذلک یتسنى القول إن شعره لم یستطع رغم قوته الصمود فی حلبة التنافس. وهذه سطور أخرى من شعره:

 

عَلِم الشفاءُ بسهولة تدبیر إسمک

إسمک

شافى المهانین

والمسحوقین تحت أنقاض الأخبار

والآن یدخل الزقاق شخص ینادیک بإسمک

ولا یدری

أن الشباب والعطف والشوق

ستلد منائر الشرق

فی کل لغة

بسهولة الثقة.

صدرت مختارات من قصائد أحمدی بعنوان "کل تلک السنوات" ومن بین أعماله الأخرى نشیر الى "القافیة تضیع فی الریاح" و "أذرّ فی الریح أنقاض القلب".

 

5- فریدون مشیری ( 1926 – 2001 )

مررت لیلة مقمرة أخرى فی ذلک الزقاق من دونک

جسدی کله صار عیناً یبحث عنکِ

شوق لقائک فاض من کأس وجودی

وصرت العاشق المجنون الذی کنته دائماً

 

شعت وردة ذکراک فی سریرة الروح

وضحکت حدیقة مائة ذکرى

وفاح عطر مائة ذکرى

 

تذکرت تفسحنا فی الخلوة المحببة

جلسنا ساعة على حافة ذلک الجدول

 

أسرار العالم کلها إنسکبت فی عینک السوداء

وأنا کنت غارقاً فی نظرتک

 

        الأبیات هذه بدایة واحدة من أشهر قصائد فریدون مشیری الشاعر الغنائی ذی اللغة الجزلة والحلوة التی لم یتخل عنها طوال عمره، وإستطاع بواسطتها فی عقود خلت شدّ أذواق عدد کبیر من جمهور الشعر الحدیث الى منجزه، وتأسیس عالمه الخاص.

        یشبه شعر فریدون مشیری من حیث الظاهر والمضمون شعر عدد من الشعراء المعاصرین لنیما، والذین إعتبروا أنفسهم – دون نیما – مؤسسی التجدید الشعری!

        برویز ناتل خانلری کان على رأس هذه الجماعة، وفریدون توللی من أشهر رموزها ولکن ینبغی الاعتراف أن شعر مشیری تجاوز هذه الجماعة لیلامس جمالیات جدیدة، کما إن سعة الأفق التی تمیز بها وإقباله الخاص على الشعر الغنائی مثلت أهم السمات التی میزت تجربته الى درجة یمکن معها القول ان أیاً من الشعراء الحداثیین الذین سبقوه لم یتفاعلو مع الشعرالغنائی بهذه الطریقة الایجابیة الشاملة. فهو القائل فی إحدى قصائده:

 

إملأ الکأس

فهذا الجرعة الناریة

ما عادت تستطیع فهم حالی الموحلة

 

هذه الکؤوس التی تفرغ تلو بعضها

بحر من النار أسکبه فی فمی

تتخطفنی الدوامة ولا تمنحنی جرعةً من الماء

 

على فرس الشراب الجامح السحری

أسافر الى نهایات عالم الظنون

الى سهوب الأفکار الدافئة

الأفکار المرصعة بالنجوم

الى التخوم المجهولة

تخوم الموت والحیاة

الى أزقة الذکریات المسرعة الخطى

الى مدینة الخواطر...

حتى الشراب

ما عاد یأخذ فی لأکثر من سریری!

 

        النقطة المهمة هی أن مشیری لم ینظم شعراً ضعیفاً داخل نطاق المنحى الذی إختاره لنفسه على الاطلاق، ولا یزال لقصائده أنصارها وجمهورها لحد الآن. ومن النقاط التی تضفی الأهمیة على شعره هی أن طیفاً واسعاً من عموم الجمهور راحوا یقرأون قصائد مشیری ویجدون فیها متعة بالغة، ما دفعهم تالیاً للاقتراب من بعبع الشعر الحدیث (أو النیمائی کما یسمى فی الفارسیة) ورواده وتجاربهم غیر المألوفة.

من بین المجامیع المهمة لمشیری یمکن الاشارة الى: "الظامىء للطوفان" و "خطیئة البحر" و "الغیم" و "صدِّق الربیع" و "الطیران مع الشمس".

 

6- بیجن جلالی ( 1927 – 1999 )

لیس للشعر

نهایة ولا بدایة

فالشاعر کبستانی

یصنع باقة ورد

من دون أن یعلم

لمن سینتهی أمرها

أو على أقدام من سینثرها

        هذا بعض ما نظمه الایرانی بیجن جلالی شاعر المقاطع القصیرة الذی قدم ضمن نطاق تجربته الشعریة الخاصة أشعاراً بسیطة بلغة واضحة وشفافة ومفاهیم إنسانیة عمیقة. ثمة فی کل ما نظمه بیجن جلالی مفهوم أبدی رحب یتبدى ببیان شاعری أصیل. وجلالی من هذه الناحیة شاعر متفرد یتحاشى الإطناب والزیادات ویرکز على لباب الموضوعات. وهذا طبعاً لا یعنی موقفاً سلبیاً من المحسنات الکلامیة لسائر الشعراء، إنما هو إشارة الى تکثیف متمیز یمکن رصده فی أعمال بیجن جلالی.

        الأسلوب الذی إتبعه بیجن جلالی فی إستخدام لغة قریبة للغة الناس المفهومة، إستمر على ید شعراء من أجیال لاحقة أی أن جلالی ترک بصمات غیر مباشرة على کوکبة من الشعراء الذین أعقبوه، أو لنقل إن شعر جلالی کشف النقاب مبکراً عن جوانب من إمکانیات وفرص الشعر المستقبلی، الأمر الذی أسبغ أهمیة مضاعفة على الشاعر ومنجزه. من قصائده الأخرى:

 

ما عاد ثمة حاجز

بینی وبین الموت

سوى الشعر

وعندما سأزیح هذا الستار المزرکش

سأرى الرحاب اللامتناهیة للموت

لکننی لا أزال واقفاً أمام الستار

بإسم الأمل الأخیر

وبإسم الربیع الأخیر

وبإسم الحب الأخیر

وفی ضوء الموت

أرى بکل یأس

أن العالم جدیر

بأن نتفرج علیه

 

        رغم کل الأهمیة التی حظی بها جلالی، إلا أنه لم یبق بمنأى عن بعض التبسیط، فلم یکن لیراعی مثلاً ترکیبة الأشطار الشعریة أو تقطیع المصاریع بنحو صحیح ، فکان یقطع الشطر فی وسط الجملة بدون سبب ویکمله فی الشطراللاحق. وربما أمکن کتابة شطرین أو ثلاثة من أشطره فی مصراع واحد.

        من هذه الناحیة عانى الشکل والقالب فی شعر جلالی بعض الهزات الخفیفة وربما کان بحاجة الى إعادة تشکیل. غیر أن هذه النقطة تختص کما هو واضح بالمظهر الخارجی لشعره ویبقى المضمون قمیناً بالتأمل والتدقیق. من بین مجامیعه الشعریة تمکن الاشارة الى: "الأیام، قلبنا والعالم، لون المیاه".

 

7- عمران صلاحی ( 1946 – 2006 )

کنا نسیر على إحدى الحافات

النهر یشطر التراب شطرین

نحن فی هذه الجهة

وهم فی تلک

حراس برج متکبر

یرصدوننا من بعید

وأنا أرصد مذهولاً عصافیر

تسافر کلها بلا جوازات

 

        هذا نموذج من شعر عمران صلاحی الذی یتوزع الى قسمین رئیسیین: الشعر الساخر والشعر الجاد. المنحى فی الأشعار الساخرة لعمران صلاحی کان محکماً ورصیناً الى درجة أنست أشعاره الجادة للأسف، فظهر صلاحی الى الساحة شاعراً ساخراً قبل أی شىء آخر. وینبغی الالتفات الى أن منجزه من هذه الناحیة فرید ومنقطع النظیر وأدبه الساخر ممیز حقاً من حیث الجدة والابداع.

        تمیز شعر صلاحی بهذه الخصائص فی کل أطواره ومراحله، ولا یمکن رصد فترة إفتقر فیها للنصاعة والتوثب، خصوصاً حین یمتزج بعنصر الهزل حیث تتضاعف حرکیته وطراوته، وهذا ما إستقطب لأعماله طیفاً واسعاً من الجمهور وجعلها موضع إهتمام دائم من المهتمین.

        إشتهرت قصیدة "أنا من حی جوادیة" لعمران صلاحی الى درجة أن کثیراً من الناس یتذکرونها بمجرد أن یذکر إسم شاعرها. و "جوادیة" حی فقیر من أحیاء طهران تمر سکة الحدید بالقرب منه. أشار صلاحی فی هذه القصیدة الى طبیعة حیاة الناس فی هذا الحی وهذا نموذج منها:

 

صفیر القطار

معناه ذلک الطفل الذی یفقأ بقوسه ونشابه

عیون مصابیح المحلة

صفیر القطار

یساوی طفلاً تشطب کرته الموحلة

على قاماتنا الفارغة

القطار هنا حیاة الناس

على صوت صفیره یستیقظون

القطار هنا سمیر طیب القلب

أنا من حی جوادیة

أعشق صوت القطار

 

        عمق الرؤیة لدى صلاحی ملفتة للنظر، الى درجة أنه إستطاع إبتکار مساحة جدیدة فی الشعر الایرانی بعد نیما. السخریة فی شعره معنی بقضایا المجتمع والساعة أکثر من إهتمامه بشؤون الشاعر الفردیة، وهذا ما ساهم فی قطفه أزهار الشهرة أکثر فأکثر فحقق له میزة على جانب کبیر من الأهمیة تتمثل فی توزع جمهوره على شتى شرائح المجتمع وفئاته – شعراء، وکتّاب وطلبة جامعیین وموظفین وحتى الناس العادیین فی المجتمع – ما یعد نجاحاً کبیراً یسطع فی ملف هذا الشاعر.

 

8- وآخرون ...

        ما عدا الشعراء المذکورین، تتاح الاشارة لشعراء من هذا الجیل نشطوا فی تلک الفترة إلاّ أن أعمالهم سجلت أهمیة أقل ممن أتینا على ذکرهم، فهم لم یؤثروا فی غیرهم مثلاً، أو لم یأتوا بجدید لافت، إنما إکتفوا باتباع خطى نیما وشعراء الجیل الأول. طبعاً إکتسبت أعمال البعض منهم أهمیة أکبر فی عقود لاحقة حین إستطاعوا إدخال تغییرات معینة على منجزهم الأدبی بتأثیر من أشعار الأجیال التالیة ومواکبتهم لهم، وسنشیر فی تتمة المقال لنماذج من ذلک.

        محمد زُهَری ( 1926 – 1994 ) صاحب مجامیع "الجزیرة" و "العتاب"، و "قبضة فی الجیب" شاعر مُقل تقریباً ولم یقدم طروحات جدیدة فی دائرة الشعر الایرانی إبّان تلک الفترة، لذلک لم یستطع أن یکون مؤثراً وصاحب قصائد عصیة على النسیان.

        محمود مشرف آزاد طهرانی، المعروف بـ " م . آزاد " ( 1934 – 2006) وصاحب المجامیع الشعریة  "دیار اللیل" و "قصیدة الریح الطویلة" و "المرایا خالیة" و "أشرِق معی" إستطاع تسجیل مساهمة أکثر فاعلیة وإجتذب جمهوراً أوسع، وأصاب ذیاعاً أکبر الى حد ما. بید أن ما قیل حول شعر محمد زهری یصدق على "م. آزاد" أیضاً، إذ لم یکن شاعراً مؤثراً.

        حمید مصدّق ( 1998 – 1939 ) بمجامیعه الشعریة "کاوه" و "أزرق، رمادی، أسود" و "فی طریق الریح" لم یکن شاعراً مکثراً، لکن قصائده حظیت باقبال نمط معین من الجمهور بسبب صبغتها الغنائیة. أشعاره بسیطة وشیقة وذات قدرة على التواصل مع القارىء. هو طبعاً لم یقدم أشیاء جدیدة ومبتکرة فی الشعر، لکن ذلک الطابع الغنائی الرقراق أکسبه أهمیة ملحوظة بین الشعراء.

        محمد علی سبانلو ( ولد سنة 1941 ) شاعر مکثر له "آه أیتها الصحراء"، "التراب"، "الشآبیب"، "منظومة الرصیف "، "السندباد الغائب" وست قصائد أخرى. ویمکن ملاحظة أطروحات جدیدة فی منجزه الشعری مقارنةً بغیره من الشعراء، ولکن بسبب ضآلة تأثیره ومیکانیکیة أشعاره وبعدها النسبی عن الرقة الشاعریة، لم تکتسب هذه الأعمال أهمیة تذکر ولم تستقطب متلقین کثار. طبعاً من أسباب أهمیة سبانلو وإسهامه الثقافی معرفته باللغة الفرنسیة وترجمته نصوصاً شعریة ونثریة من تلک اللغة ما أکسبه ذیاعاً إضافیاً کرس مکانته الثقافیة والأدبیة فی الساحة.

        شاعرمکثر آخر هو سیاوش کسرائی أصدر مجامیع "آوا" و "آرش رامی النبال" و "دماء سیاوش" و "مع دماوند المنطفىء" و "الأهلی" و "بحمرة النار، بطعم الدخان" و  "من حظر التجوال الى الفجر" وإستطاع بسبب میله لمفاهیم من قبیل الکفاح ضد النظام السابق ونظمه قصائد اجتماعیة – سیاسیة لفت کثیر من الأنظار. من هذه الناحیة کان سیاوش کسرائی أهم شعراء هذا النمط الشعری ، وقد حظیت أعماله باهتمام الشرائح المتعلمة والجامعیة.

        منصور أوجی (ولد سنة 1938) شاعر قلیل التأثیر له "حدیقة المساء" و "المدینة المتعبة" و "وحدة الأرض ونوم الشجرة". لم یقدم أشیاء جدیدة لحرکة الشعر الایرانی فی ذلک الأوان، بل کان متأثراً بالآخرین قبل کل شیء، وجمهوره القلیل هم من ترضیهم الأشعار البسیطة السهلة.

        مفتون أمینی (ولد سنة 1928) بمجامیعه الشعریة  "حدیقة الرمان" و "عاصفة الثلج" کان یعد شاعراً عادیاً ینتمی لتلک الحقبة، لکن تجربته شهدت فی العقود اللاحقة تحولاً واضحاً بتأثیر من شعراء أجیالها، وإستطاع تقدیم قصائد أکثر نجاحاً أدرجته ضمن قائمة الشعراء المهمین، لکنه کما مرّ بنا ظلّ فی عهده شاعراً غیر مثیر له أعمال بسیطة وقلیلة المیزة.

        سیمین بهبهانی ( ولدت سنة 1928 ) شاعرة " غزلیة " لم تنظم منذ مستهل مشوارها الأدبی والى الآن سوى "الغزل" وإعتبرها البعض حداثیة بسبب تجدیدها فی أوزان  "الغزلیات" الفارسیة، بید أن هذا الرأی ذو نصیب ضئیل من الصحة.

        یعتقد آخرون أنها کانت صاحبة نظرة جدیدة للغزل ، وقدمت مفاهیم غیر مسبوقة فی إطار هذا النمط من الشعر الایرانی، واذا کان هذا هو المعیار لوجب إدراج شعراء آخرین من قبیل محمد علی بهمنی، وحسین منزوی، وولی الله درودیان، وأصغر واقدی، وسیاوش مطهری، و... فی عداد الحداثیین، وهذا ما لم یحصل!

        أیاً کان، بقی التجدید فی شعر سیمین بهبهانی فی السطح ولم ینفذ الى الأعماق، ومن الصعب جداًَ إعتبارها شاعرة حداثیة مجددة.

        أعلن إسماعیل نوری علاء عن شاعریته بمجامیع "غرف مقفلة الأبواب" و "مع أهالی اللیل". وکانت میوله للنقد أهم من أعماله الشعریة، لذلک ذاع صیته ناقداً أکثر مما إشتهر کشاعر. وکان لصدور کتابه النقدی "الصور والأسباب فی الشعر الایرانی المعاصر" دور فی تکریس مکانته کناقد أدبی. وبکلمة واحدة:

لم تسترع أشعار نوری علاء إهتمام الجمهور بشکل یذکر ولم تترک بصمات ملموسة فی المجتمع.

        أما إسماعیل خوئی ( ولد سنة 1939 ) فرغم أنه شاعر مکثر له مجامیع "التائق"، " على صهوة جیاد الأر " و "من صوت الحب" و "على سطح الإعصار" و " من مسافری البحر" و "بعد مساء الحاضرین "، أن تجربته تفتقر لعناصر تجدیدیة حقیقیة، حیث ظل ینظم متأثراً بتجارب شعراء الجیل الأول، لذلک لم یکتسب إنجازه أهمیة تذکر، ولم یحقق لنفسه جمهوراً عریضاً.

        إنطلق علی بابا جاهی ( ولد سنة 1943 ) فی تلک الفترة إنطلاقة جیدة نسبیاً بمجامیع مثل "بلاسند" و "العالم والأضواء الحزینة" و "من جیل الشمس" ونظم الشعر بلغة مبسطة جزلة لکنه لم یقدم جدیداً یذکر فی تلک الآونة ولم تؤثر أعماله فی الساحة الأدبیة الایرانیة. إلا أنه إستطاع فی فترات تالیة وبتأثیر من إنجازات شعراء الأجیال اللاحقة إجتراح تحول فی تجربته، بل والتوصل الى آفاق جدیدة.

        تمکن محمد حقوقی ( تولد 1938 ) بمجامیعه "زوایا ومدارات" و "فصول شتائیة" و "الشرقیون" من الاعلان عن شاعریته بنحو جاد، وکان شعره فی بدایاته بسیطاً، غیر أنه توصل فی مجامیعه اللاحقة ولا سیما مجموعته الشعریة "مع اللیل" مع الجرح، مع الذئب" الى إمکانیات لغویة جدیدة فتجلت فی أعماله آفاق شعریة لافتة. وبسبب نزعته للنقد وإصداره سلسلة کتاب "الشعر الحدیث من البدایة الى الیوم" حقق هذا الشاعر لنفسه موقعاً أکثر تمیزاً فی الساحة الأدبیة الایرانیة وسجل إسهاماً أوضح فی أوساطها.

        وبدأ شابور بنیاد ( 1947 – 1999 ) بدایة بمجموعته "خطبة فی المهجر وقصائد أخرى" وکرّس دوره الأدبی بمجامیعه اللاحقة "قصائد فی أقلیم کتاب الحب والعین" و "الموت – اللوحة" التی ولج عبرها الى آفاق شعریة جدیدة، ولکن لا یمکن فی الوقت ذاته رصد لإضافات مهمة جاء بها هذا الشاعر، إنما ظل متبعاً للتیار السائد فی الشعر الایرانی.

        إنطلق جواد مجابی ( تولد 1940 ) فی مشواره الشعری بمجامیع "سهم فی قلب الخریف" و "طیران فی الضباب" أضاف لها فی العقود اللاحقة مجامیع أخرى، لکن شعره إفتقر لعناصر مؤثرة غیر مسبوقة، ومع ذلک یلوح ظاهر شعره مختلفاً بعض الشیء کمیله لاستخدام أشعار طویلة، بید أن هذا یحسب على المظهر الخارجی للشعر، ویبقى مجابی متأثراً بالرکائز التی أرستها التیارات الأدبیة السابقة.

        وکانت إنطلاقة میرزا أقا عسکری بمجامیعه الشعریة "غداً أول أیام الدنیا" و "أنا على علاقة بالماء" جیدة هی الأخرى، لکن شعره کان متأثراً بشعر شاملو وغیّر أسلوبه فیما بعد لیحقق لنفسه درجة أکبر من الاستقلال ولینظم قصائد لها سماته ولهجته الشعریة الخاصة. وکان من شأن هذا التحول فی مشوار میرزا أقا عسکری أن نال إهتمام عدد من شعراء الأجیال اللاحقة الذین أخضعوا أسلوبه للنقد والتحلیل بشکل جاد مؤشرین الى جوانبه الایجابیة والسلبیة.

        إفتتح کاظم سادات أشکوری ملفه بمجموعته "من بدایة الصباح" و "رمال الساحل" وکانت میوله للطبیعة جلیة فی أعماله، المیزة التی حافظ علیها وقدم فی إطارها قصائد جیدة. ورغم ذلک لم یتمکن من إطلاق عناصر تجدیدیة مؤثرة یشار إلیها بالبنان ، لکن شعره جدیر بالتأمل من زاویة فردیة الشاعر.

        وفی خاتمة المقال نشیر الى أسماء أخرى مثل فرخ تمیمی، إسماعیل شاهرودی، جعفر کوش آبادی، وفریدون کار، ومنصور برمکی، وبرویز خائفی و.... ممن سجلوا إسهاماً وتأثیراً أقل فی الساحة الشعریة الایرانیة. وکان هناک طبعاً شعراء آخرون کثار إقتصر نشاطهم على الصحافة والأمسیات الشعریة ولم تصدر لهم مجامیع یمکن عبرها تقییم تجاربهم. إنهم شعراء ترکوا قلیلاً من التأثیر والوجد على جمهور الشعر وربما کانت أعمالهم العادیة أکثر بکثیر من إنجازاتهم الجیدة.

 

ارسال نظر