ضفة ثالثة: خالدة حامد

نعیش الیوم عصر الترجمة بامتیاز

نعیش الیوم عصر الترجمة بامتیاز
على مدى عقدین ونیف، استطاعت المترجمة العراقیة خالدة حامد تسکام (أستاذة الترجمة فی جامعة بغداد) السهر على مشروع یتسم بالجدیة، بخوضها میادین ترجمیة على درجة عالیة من الأهمیة والنخبویّة، ما بین آداب الإنکلیزیة وآداب لغتنا التی ما زالت شحیحة التصدیر إلى العالم من حولنا.
شنبه ۲۷ فروردين ۱۴۰۱ - ۱۰:۰۸
کد خبر :  ۱۵۶۷۳۳

 

 

 

 

 

 

فی عام 1998، انطلق مشروع خالدة حامد الترجمیّ، بدءًا بـ"سیرة ت. س. إلیوت"، لیصل مجموع ما أنجزته حتى الآن إلى نحو 20 کتابًا فی الشعر وترجمته والروایة والنقد والنظریة الثقافیة والهرمنیوطیقا الفلسفیة، فضلًا عن عشرات المساهمات الترجمیة فی الصحافة الثقافیة العراقیة والعربیة.

أخذ هذا الحوار منحًى عمیقًا عندما دافعت خالدة عن الترجمة کفعل إبداعی أسهم فی تعزیز التواصل الحضاری بین اللغات والشعوب. وفیما قالت إن مفردة "خیانة" النص باتت "منبوذة فی نظریة الترجمة الحدیثة"، أکدت، فی المقابل، أننا نعیش الیوم "عصر الترجمة بامتیاز". کما تحدثت عن قضایا ترجمیة غایة فی الأهمیة، لا سیما ندرة ترجمة أدبنا العربی بلغات الآخر، و"ترجمة الشعر"، أو: "المهمة المحفوفة بالمخاطر"، على حد قولها.

هنا حوار معها:

(*) لنبدأ الحدیث معک من "جائزة الإبداع العراقی" التی منحتک جائزة فرع الترجمة مناصفة مع مترجم آخر فی دورة عام 2021.. ومعلوم أنها أهم جائزة (حکومیة) للإبداع الثقافی فی العراق؟

للجوائز عمومًا أهمیّة خاصة فی الارتقاء بالحقل الذی تحتفی به، والعمل على شحذ الإبداع وتحفیزه، ولا تُستثنى من ذلک جوائز الترجمة التی تُسهم فی إعلاء شأن الترجمة لأنها تُسهِم بوضع المترجم فی دائرة الضوء والاعتراف بأهمیة ما یقوم به فلولاه لما ظهر العمل المترجَم للوجود وصار مُتاحًا، والدلیل أن الجائزة التی فاز بها الکاتب الکبیر نجیب محفوظ أوصلته للعالمیة وکان لها تأثیر واضح فی القرّاء فأسهمت بذلک فی تسلیط الضوء على الأدب العربی عمومًا. ولا یخفى على أحد أن الجوائز المهمة التی حظیتْ بها بعض الأعمال الأدبیة هی فی الحقیقة ما کانت لتتم لولا براعة مترجمیها وبسبب ذلک عمدَتْ جائزة "مان بوکر" إلى جعل الجائزة مناصفة بین کاتب العمل ومترجمه!

بالنسبة لی، أرى أن لإدراج الترجمة کفرع فی جائزة الإبداع العراقی معنًى کبیرًا إذا علمنا مکانة هذه الجائزة وقیمتها، وما مِن شک فی أنی سعدتُ جدًا لحظة الإعلان عن فوزی بهذه الجائزة التی تعنی لی الکثیر لأنها أولًا صادرة عن مؤسسة رسمیة معنیّة بالثقافة والنتاج الإبداعی، ولأن الجوائز عمومًا حافز للمترجم الذی یعمل دومًا فی الخفاء وما من أحد یلتفت لعمله إلا لحظة اقتناء الکتاب المترجم ورؤیة اسم المترجم علیه إن کان محظوظًا کفایة لیسمحوا له بإبقاء اسمه مع اسم الکاتب، لأن السائد أن اسم المترجم یقبع فی مکانٍ آخر! فضلًا عن مسألة أن تلقی جائزة رفیعة کهذه یعنی الاعتراف بقیمة نتاجی الترجمی الذی امتد لسنوات، وهذا له أهمیته أیضًا لأن الترجمة عمل فردی شاق یودی بالمترجم أحیانًا إلى الشعور بأنه منسی أو غیر مرئی تمامًا ولا أحد یلتفت له، ولذا تأتی الجائزة على صورة إعلان صادح بأن المترجم موجود.

(*) من واقع تجربتک، ما الفرق بین أن تترجمی روایة أو شعرًا؟

الروایة عمومًا تُغری أکثر بالترجمة لأنها تحفل بتفاصیل الحیاة وتلامس الواقع بعینٍ مبدعة ثاقبة، ویکون ذلک کلّه مندرجًا فی بساطتها وانسیابیتها على نحوٍ یشی بخوض مغامرة ممتعة من دون وجلٍ أو خوف. ومن جهةٍ أخرى، للروایة سحرها أیضًا لأنها، بتعبیر الروائی الکبیر ماریو فارغاس یوسا، وسیلة لعیش حیوات کثیرة نودّ أن نحیاها حینما بالکاد تتاح لنا حیاة واحدة فقط. أما الشعر فیحضر بقوّة لغته المکثّفة کنصّ متشابک بعید الغور تُحیل ترجمته إلى مغامرة مخیفة تتطلب درجة عالیة من الجرأة بما یکفی لدخول هذا العالم الغامض الذی تتحول فیه الترجمة إلى مهمّة مضنیة تتطلب الکثیر من الوقت والجهد وحرق الأعصاب لفکّ أختام نصّ محکم الغلق والبوح باللامُعبّرِ عنه. النص الشعری، باختصار، مُخاتل ومراوغ ولا یُفصح عمّا بداخله بسهولة وربّما نُسلم بأن المعنى یکون أحیانًا أشبه برمال متحرکة لا بدّ لنا من الخروج منها سالمین کی نصل ضفة الفهم والتواصل، ولن یکون خروجنا ممکنًا لولا وسیلة الترجمة. ولا تخلو هذه المحاولة من التحدیّات؛ فالمترجم یقف بین نجدین؛ إما أن یخلق قصیدة لها ملامح جسدها القدیم کلها وبلا روح، أو أن یعید خلقها من جدید مانحًا إیاها شیئًا من روحه وهی تحمل اسمه وبعض، أو جمیع، ملامحه. ولأن لکلِّ لغة ثقافة خاصّة بها تختلف عن الأخرى، ولأن لغة الشعر تحدیدًا لها سماتها الممیّزة، صار نقل الأثر الذی یحفل به النص الأصل إلى جمهور النص المترجم تحدیًا آخر للمترجمین أشبه بالعقبة الکأداء. والطریف أن الناقد والشاعر الأسکتلندی روبرت روبرتسون Robert Robertson دعا السلطات لمنع أی ترجمة حَرفیّة للشعر ترکز على معناه الخارجی ولیس على روحه وموسیقاه!

وجدیر بالذکر أن الروایة الیوم تهیمن على المشهد الإبداعی انتشارًا وترجمةَ ومکانة تفوقت فیها على الشعر الذی یتربع طیلة عقود طویلة على عرش دیوان العرب؛ فبینما یُعلن جمال الغیطانی عن نهایة الشعر والقصة بقوله إنهما یلفظان أنفاسهما الأخیرة أمام الروایة، یحسم جابر عصفور الموقف فی کتابه "القص فی هذا الزمان" بتنصیب الروایة دیوان العرب الجدید مُعلنًا أن "زمن القص هو شعر الدنیا الحدیثة"! وهذا الانحراف فی الذائقة نحو الروایة هو الذی یفسر الانشغال بترجمتها. 

 

ترجمة الشعر

(*) تحدثتِ فی مقدمة کتابک "فی الشعر وترجمته" عن صعوبة ترجمة الشعر، "وخصوصًا حینما یکون المترجم على یقین بأن الشعر لا یترجمه إلا شاعر"، على حدّ تعبیرک. لماذا برأیک یسود بین القرّاء الاعتقاد باستحالة ترجمة الشعر؟

أشکرک على هذا السؤال. هذا الاعتقاد سائد بین القرّاء فعلًا على نحوٍ أضحى أشبه بالمسلّمات، مع أن معظم الناس لیست لدیهم أدنى فکرة عن الترجمة ومدى صعوبتها حتى عند التعامل مع نص "بسیط"، ناهیک عن الشعر! الکثیر لا یُدرکون حجم المهارة التی یتمتع بها المترجم وهو یعبر بالنص من ضفة إلى أخرى، لکنهم برغم ذلک یقولون باستحالة ترجمة الشعر، مُردّدین أصداء مقولة روبرت فروست بأن الشعر یضیع فی الترجمة. لا یخفى على أحد الأثر الکبیر الذی ترکته الترجمة فی الشعر، ولعلّ المتتبع للأدبیات النقدیة الشعریة الحدیثة یُدرک حجم الخدمة الهائلة التی أسدتها الترجمة للحداثة الشعریة ولیست مجلة "شعر" وشعراؤها الأوائل ببعیدین عن هذا الأمر؛ فقد أطاحت الترجمة بالنظرة القدیمة الجامدة التی أماتت الرغبة بترجمة الشعر وجعلتها ضربًا من المستحیل وأقصت أفعال الخیانة.



(*) لِم کل هذا الخوف؟

فی رأیی أن الخوف من ترجمة الشعر ربّما مردّه المکانة التی یتمتع بها الشعر نفسه؛ فهذا ریلکه ینصح الشاعر بألّا یکتب الشعر إلا إذا شعر بأنه سیموت إن لم یفعل ذلک! مثل هکذا نص مکتوب بلغة موت الشاعر وحیاته لا یمکن أن یفک شیفرته سوى مترجم بارع تتحول فیها الترجمة، بتعبیر ریلکه نفسه، إلى قلب الشعر النابض. فکیف یمکن الإبقاء على هذا القلب نابضًا بعد نقله من جسد القصیدة الأصل وزرعه فی جسد القصیدة الجدیدة؟ مثل هذه الترجمة لن تتحقق إلا بشروط لعلّ من أهمها الموهبة الشعریة والإحساس والذائقة والشغفُ بالترجمة وبالشعر معًا على نحو یحلّ فیه المترجم فی الشاعر فیشعر بما شعر به واختلج له.

ترجمة الشعر أشبه بخلطة سحریة تجمع فیها روحین معًا فی جسد واحد؛ روح الشاعر والمترجم فی القصیدة المترجمة. إنهُ خَلق من نوع ما یتطلب من المترجم أن یتمتع بالقدرة على بذل مجهود هائل دونما کلل، وبصبر وطاقة حُب وشغف بالنص المراد ترجمته وإن لم یبدُ مثیرًا أو جاذبًا للوهلة الأولى. ومع أن المترجم یدرک جیدًا أن الحُب وحده لا یکفی لخوض هذه المغامرة، لکنه یشرع فی مهمته متقفّیًا أثر بعض الکلمات التی تکون مکتنزة بأفکار وصور یصعب ترجمتها بسهولة، لکن الممتع فی الترجمة أنها تبوح لمُریدیها عن أسرار تجعلهم یصلون للمعنى من طُرق مختلفة تکون فیها کلمة واحدة بدیلًا عن جملة بأکملها! وهذا یعنی أحیانًا إلباس النص شیئًا من الغموض الذی أراده کاتبه، لأن هذا أیضًا أحد معانی الترجمة بأن تکون أداة لتزوید القارئ بمنظار لرؤیة العالم على نحو مختلف؛ فیتحرک المترجم عندئذ داخل النص دون أن یترک أثرًا وراءه لیبدو النص فی النهایة کما لو أنه مکتوب أصلًا بلغته الجدیدة. مثل هؤلاء المترجمین هم السحرة الذین ینتقلون بالنص من أرضٍ ما إلى أخرى بطریقة لا یمکن للقارئ أن یشعر بها أو یکتشفها، بل نادرًا ما یفکر بوجود مترجم فی الصفحة.





(*) وماذا عن تجربتک أنت، فی هذا السیاق؟

ترجماتی للشعر دائمًا أشعر أنها غیر مکتملة لأنی شخصیًا أفتقد لعدّة الشاعر، بل فی معظم الأحیان ینتابنی شعور بالخیانة لأنی أدخل منطقة ربّما غیر مسموح سوى للشعراء التجوّل فیها بحریّة. إنها إذًا مُهمة محفوفة بالمخاطر ولهذا تتملکنی قناعة أن الشعر لا یترجمه سوى شاعر اکتوى بنار الشعر وذاق ألمها، ولأن المترجم الشاعر یدخل النص وهو عارف بطیّاته وانحناءاته وما یکتنزه من صور واستعارات وأصوات وموسیقى. إنها المنطقة عینُها التی لا ینبغی لغیر من یحمل لواء الشعر تخطیها.


إجحاف

(*) ثمة من یقول بأن کل ترجمة هی خیانة للنص (الأصلی). لا بد أنک لا تتفقین مع قول کهذا..

هذا السؤال یُسلِّم بدءًا بأن الترجمة خیانة! ولعلّ الجمعُ بین الترجمان والخوّان هو الإجحاف بعینه إذا ما استعرضنا تاریخ الترجمة الطویل وما قدّمته للإنسانیة من علوم ومعارف وفنون نقلتها من الظلام إلى النور، وجمعت بین أممها وشعوبها بعد أن حرّرتها من قید العزلة الذی قد یُودی بها إلى الموت والنسیان. هذا الارتیاب إزاء فعل الترجمة هو الذی وصمها بالخیانة طیلة عهود طویلة، هذا الجدل العقیم بخیانة الترجمة وبأنها تُسهم فی ضیاع الأصل جرى تقدیمه وکأن القضیة محسومة أصلًا! هذه النظرة التسطیحیّة تتعامل مع الترجمة وکأنها "شرٌّ لا بدّ مِنهُ" أو لعنة أو خطیئة، وترى فی المترجم محض وسیط وناقل للنص قد یطال قیمه الأخلاقیة شیء من النقص فیبتعد عن الأمانة ویسقط فی فخ الخیانة التی قد تُودی به إلى القتل أحیانًا مثلما حصل مع کبار مترجمی القرون الوسطى الذین دفعوا حیاتهم ثمنًا لهذه التهمة.

لا یمکن أن تکون الأمانة نقیض الخیانة إن کانت تؤدی فی النهایة إلى الإبقاء على جسد النص وتفریغه من روحه، ولعلّ القول بخیانة الترجمة ینبع من وهم مفاده استحالة الوصول إلى المکافئ التام فی الترجمة. ألا ینطبق هذا القول على فعل القراءة أیضًا؟ ألیست کل قراءة للنص لا تتماثل تمامًا مع أی قراءة أخرى له؟ ثمّة نصوص نقرأها للوهلة الأولى بانبهار لکننا نعزف عنها بعد قراءة ثانیة أو أکثر، فهل یجوز لنا القول بخیانة القراءة للأصل؟ من البدیهیات فی الترجمة أن النص المترجم، ولا سیّما العمل الأدبی، لا یمکن أن یکون نسخة من الأصل إطلاقًا، فلیست اللغة هی وحدها التی تُضفی على النص ملامحه، بل هی روحه فی مجملها وإیحاءاته وصوره ومجازاته المبثوثة بین ثنایاه، فضلًا عن الجینات الثقافیة التی یحملها.

شُبهة الخیانة انتهت حینما تحرّر المترجم من کابوس التحاور مع کاتبٍ یقدم نفسه فی النص کمعصوم من الخطأ ولیس للمترجم الحق بالتصرف إزاءه؛ وتحرّر أیضًا من سجنه الذی کان یرغمه فیه على الانصیاع لأوامره وتنفیذ إرادته بأن یردد ما یقوله ویکرره فی النص من دون أن تکون له القدرة على الإتیان برأی أو تغییر شیء. صار المترجم الآن یتعامل مع النص بوصفه کاتبًا شریکًا یعیش مخاض النص ویشعر بآلام ولادته وقلقها ویتخوف على صحة المولود الذی یُرید له أن یُولد سلیمًا معافى، لا مُشوهًا ضعیفًا. 

بإقصاء وصمة الخیانة غدت الترجمة إذن خطوة نحو الکمال واستعادة الثقة بالمترجم الذی صارت له القدرة على أن یُمیت النص ویموت معه إن أخفق، أو یَکتِب له الخلود (ویُخلّد معه) إن أصاب، ولیس ببعید عنّا المترجم غریغوری راباسا الذی أثنى علیه غابرییل مارکیز بعد ترجمته لروایته "مائة عام من العزلة" قائلًا بأن الروایة فی نسختها الإنکلیزیة أجمل منها فی الأصل! إن قول مارکیز هذا یمیط اللثام عن ثنائیّة الفناء والخلود التی یُمسکُ بخیوطها المترجم الذی بمنحه الحیاة لنصٍ ما یُحیی الترجمة نفسها ویُغرقها بالنور.

خلاصة القول إن الاتهام بالخیانة صار بلا معنى عندما بتنا نُدرک أننا بقبولنا بهذه التهمة المجحفة سنُسلِّم بنکران تاریخ حافل بالترجمات الکبرى فی الفکر والأدب والعلوم والفنون، وسنسلّم بعجزنا عن فهم الآخر والتکلم إلیه، وسنُسلِّم بعدم القدرة على قراءة الآخر والکتابة له وعنه. الترجمة ببساطة لیست خیانة لأنها لا تُسهم فقط فی تجسیر الهُوّة مع الآخر وتعرفنا بثغراته، بل تُسهم أیضًا بتعریفنا بثغراتنا نحن وموضع الضعف والقوة فینا.

وعلیه، أضحت مفردة "خیانة" منبوذة فی نظریة الترجمة الحدیثة بعد أن تحولت الترجمة إلى ضیافة لغویة، مثلما یقول الفیلسوف بول ریکور، تعمَدُ فیها کل لغة إلى استقبال الأخرى والترحیب بها وتوطینها لفتح باب الحوار والتفاهم. لکن الحدیث عن الخیانة یصبح مُسوّغًا عند تقدیم ترجمة تُخفق فی استقبال الآخر وتحقیق شرط الضیافة فتعجز بذلک عن تشیید جسر التواصل بین اللغة المنقول منها واللغة المنقول إلیها فیسقط النص فی الهوّة التی تفصل بین اللغتین ویضیع، أو یعبر کمهاجرٍ لاشرعی یحاول العبور خائفًا من دون أن یلقى دعوة ضیافة من اللغة المنقول إلیها التی تترکه عند الحدود غریبًا منبوذًا لا یحملُ شیئًا یُثبتُ انتماءه للغة التی جاء منها، ولا اللغة التی وفدَ إلیها. فی هذه اللحظة تتحقق خیانة الترجمة عندما یتمکن القارئ من التقاط إخفاقات اللغة المُترجَم عنها وهِناتها وقصورها عن الوصول إلى المعنى الذی أراده کاتبه الأصل على الرغم من عدم معرفته بها.





(*) بالحدیث عن أدبنا العربی، الذی یکاد لا یُقرأ عالمیًا، ألیس مؤسفًا أننا ما نزال مجهولین ولا یقرؤنا الآخر؟ فما أسباب شحة وندرة ترجمة ما هو مکتوب بالعربیة؟

هذا أحد الأسئلة المهمة لأن الترجمة من العربیة من الروافد المهمة التی تُسهم فی تعریف الآخر بثقافتنا ولغتنا فتخلق وسیلة للحوار والفهم. من المؤسف القول إن قلّة الترجمة من العربیة یرجع لأسباب کثیرة لعلّ من أهمها غیاب الدور الحکومی والمؤسساتی الرسمی الذی ترافقه قلّة اهتمام بالمترجم نفسه. الترجمة عمومًا تُسیّرها جهود فردیة یسعى فیها المترجم للتواصل مع دور نشر خاصة والتی غالبًا ما تتبع سیاسات وخُطط ترتکز على تفضیلات القارئ والربح المادی. لا یمکن للترجمة بلوغ المستوى التنویری الذی تطمح له من دون أن تکون عملًا جماعیًا تضطلع به المؤسسات؛ فما نحتاجه بصراحة لا ینحصر فی ترجمة الکتب من العربیة إلى الإنکلیزیة أو اللغات الأخرى؛ ما نحتاجه یتعدى ذلک نحو اهتمام رسمی جاد بالنشاط الترجمی عمومًا، ولا بدّ من تفعیل الدور المؤسساتی بالأکادیمیات المختصّة بالترجمة، وبإقامة مراکز ترجمیة متخصصة أو هیئات ترجمة تتمتع بسیاسات ثقافیة ومالیّة وقانونیّة تکفل للمترجم الدعم والحمایة وفرص العمل الکریمة ومن شأنها النهوض بالترجمة معترفةً بدورها الکبیر فی نقل المعارف. ولا یخفى على أحد أن الترجمة، فی سبیل التعریف بجهود العرب وإبداعهم ونقل ثقافتهم الإنسانیة إلى الأمم الأخرى، مارست دورًا مضیئًا فی تاریخ الحضارة العربیة عِبرَ بیت الحکمة الذی عمد فیه المأمون إلى منح المترجم وزن الکتاب الذی یترجمه ذهبًا، أو مدرسة طلیطلة إبّان حکم عبد الرحمن النَّاصر والتی شکّلت نقطة تتلاقح عندها الثقافات وتنتقل، تمّ فیها تقدیم أرقى الترجمات لأمهات الکتب العربیة فی العلوم والفلسفة والفنون وغیرها.

هذا الفعل المؤسساتی المذهل بالأمس یغیب عن المشهد الترجمی العربی الیوم الذی یشهد نُدرة فی المؤسسات الترجمیة عبر مناطق مختلفة من العالم العربی، سوى بعض الحالات التی تُعدُ على أصابع الید، والتی تفتقد عمومًا لأیّ جهود تنسیقیة فیما بینها. هذا کلّه أسهم من جهة فی تحجیم النقل من العربیة إلى اللغات الأخرى، وفی ضیاع جهد المترجم من جهةٍ أخرى.

وثمّة أسباب أخرى ربما تتعلق بطبیعة اللغة العربیة نفسها وأنساقها الرمزیّة ومرجعیّاتها وخصالها الثقافیة المختلفة جدًا عن الإنکلیزیة تحدیدًا، وهی تُسهم فی توسیع الهوّة بین اللغتین وتُحیل فعل الترجمة نفسه إلى واحد من أبرز التحدیات التی یواجهها المترجم.

ولمّا کان مقیاس انتعاش الترجمة مرتبط بانتعاش الأدب نفسه؛ فعصر ینتعش فیه الأدب على حدّ تعبیر عزرا باوند هو بلا أدنى شک عصر لانتعاش الترجمة، إلّا أن الواقع یشیرُ إلى خلاف ذلک؛ فالخلل الواضح فی موازین القوى بین الثقافة المُهیمنة والثقافة الخاضعة، أی ما اصطلح على تسمیته بثنائیّة المرکز والهامش؛ انعکس بدوره على الأدب المترجم من العربیة بعد أن أضحت الثقافة المُهیمنة لا تختار من الثقافة الخاضعة للترجمة سوى ما یتلاءم والصورة النمطیة التی رسمتها لها وصدّرتها إلى قرّاءها عبر خیارات مدروسة مادیًّا بعنایة بغرض الربح. وربّما ما أسهم فی ضعف حضور الآداب العربیة فی ضیافة اللغات الأخرى هو نطاق المحلیّة الضیقة الذی تنطلق منه وتبتعد فیه عن تقدیم أفق کونی شامل یسع التجربة الإنسانیة عمومًا ویحترم فکر القارئ وتوقعاته، فضلًا عن تفاقم النظرة الدونیة نحو الأدب العربی عمومًا بسبب ترجمة بعض النصوص الردیئة إلى اللغات الأخرى والتی أسهمت أیضًا فی الإحجام عن نشر النصوص المترجمة من العربیة. ویقع عبء هذا الأمر على المترجم نفسه الذی ینبغی له التحلی بالالتزام الأخلاقی الذی یحتم علیه أن یُحسن اختیار ما یترجمه، بمعنى أن یکون اختیاره نوعیًا لا استهلاکیًا ربحیًا، وأن ینأى بنفسه عن کل ما یودی بالترجمة إلى الانحدار نحو مستوى "السُوقیّة" التی تتعارض وهدف الترجمة الأول، وأعنی به إحداث نهضة ثقافیة وفکریة، لأن النزول بالترجمة إلى الدرک الأسفل من الأعمال الردیئة یُسهِم فی تشویه صورة الثقافة المحلیة نفسها بدلًا من الارتقاء بها ونقل صورتها للآخر. ولا شکّ فی أن الأسباب الآنفة کلّها تؤثر فی حجم الترجمة من العربیة، مضافًا لها دور الناشرین وتفضیلاتهم وتقدیراتهم المالیة التی تدفع باتجاه ترجمة أعمال معینة فی العربیة دون سِواها.

 

مُتعة معرفیّة..

(*) انطلق مشروعک الترجمی فی عام 1998 بترجمة "سیرة ت. س. إلیوت" وبحلول عام 2022 الجاری بلغت ترجماتک نحو 20 کتابًا.. ما الذی یقف وراء هذا التنوع وکیف تختارین ما تترجمینه؟

ینتابنی شعور دومًا بأن ثمّة شیئًا من المتعة فی المعارف کلّها، ولهذا أستمتع حقًا بترجمة الفلسفة أو التاریخ أو التصوف أو الأنثروبولوجیا... إلخ. أنا أنال عذوبة الکتابة دون أن أقاسی عذابها الذی کابده الکاتب؛ کونی مترجمة یفتح لی أبواب التجربة الإنسانیة على مصراعیها التی کانت ستغلق بوجهی لولا ذلک. 

فی السنوات الأولى التی بدأتُ فیها الترجمة، کنتُ أترجم بنهم فی مختلف الحقول المعرفیة حتى تحولت الترجمة إلى أشبه بممارسة حیاتیة تتیح لی أن أتوازن وأتخلّص من کلّ ما ینغص علیّ من مشاعر السلبیّة حینما أعکفُ على العمل على نصّ أحبه وأنفرد به بعیدًا عن زحمة الحیاة ومتاعبها. ولا أخفیک، الکتب التی صدرت لی بدایة مشواری جاءت بصورة تکلیف من دور نشرٍ بعینها، لکننی صرتُ فی الآونة الأخیرة أکثر انشغالًا بترجمة الإنسانیات لأنها مثلما تقول الفیلسوفة الأمیرکیة مارثا نوسبوم بالغة الأهمیة وإن ما تقوم به لا یُقدّر بثمن لأنها تخلقُ لنا عالمًا جدیرًا بالعیش، وأناسًا یرون بقیة البشر أناسًا بمعنى الکلمة لدیهم أفکارهم ومشاعرهم التی تستحق الاحترام والمودة. السبب الآخر الذی أغرانی بترجمتها هو رغبتی الشخصیّة بها، فضلًا عن اعتقادی بأن المکتبة العربیة بحاجة لها فأحببت أن أقدم کتبًا متنوعة تُظهر جوانب مختلفة من المعرفة.

الیوم صرتُ أتفق مع من یقول بأن هذا العصر هو عصر الترجمة بامتیاز بعد الثورة التکنولوجیة التی حققها الإنترنت والتی أتاحت للجمیع فرصة الوصول للمعارف بضغطة زرٍ واحدة. صار بالإمکان الولوج إلى ثقافات جدیدة وعوالم جدیدة وأمم جدیدة. صار أثر الإنترنت واضحًا فی المترجم نفسه، لیس فی سباق التنافس المحموم فی الأداء بین العقل الإلکترونی الذکی وعقل الإنسان، بل فی الانطباع الذی أصبح یتعاظم الآن من أن الآلة لا یمکن أن تحلّ محل المترجم فی یومٍ من الأیام. 

ارسال نظر