الشعر الأفغانی تحت المجهر !
تألیف: أبو طالب مظفری
شاعر وباحث أفغانی مقیم فی ایران
تعریب: عقیل خورشا
إشارة
استوعبت اللغة والشعر الفارسیان فی القرون الماضیة مساحات أوسع بکثیر من الجغرافیا الحالیة لایران. ومع أن نفوذ اللغة الفارسیة تقلص الیوم أیضاً فی المواطن البعیدة بسبب عوامل اجتماعیة وسیاسیة مختلفة، إلاّ أنّ بلدی أفغانستان وطاجیسکتان المجاورین لایران عادا لاختیار اللغة الفارسیة لغة رسمیة لهما وذلک بعد منعطفات عدیدة طوال القرون الماضیة. مصیر اللغة الفارسیة واتجاهاتها فی هذه البلدان لها أهمیتها عند الباحثین فی قضایا الأدب، خصوصاً وأن مسار التطورات الأدبیة والفنیة فی هذین البلدین کان موضع اهتمام ونقاش فی ایران، حیث انبعثت تدریجیاً حالات تعاطٍ وتواصل جید بین الفنانین والأدباء من ایران وأفغانستان وطاجیکستان.
تعتزم مجلة شیراز، وبهدف تعریف قرائها بأحد التفریعات الجغرافیة للغة الفارسیة، استعراض أطوار الشعر الفارسی الحدیث فی أفغانستان عبر سلسلة مقالات قصیرة ننشر فیما یلی القسم الأول منها:
أرضیة التجدید:
لم یکن« الأمیر حبیب الله خان»، سواء فیما یتعلق بمیوله الفطریة، أو بسبب تغییر الظروف السیاسیة، یرید، أو یستطیع أن یواصل طریق أبیه الملطخ بالدماء. ولذلک فقد أذعن لبعض قواعد مشروع تجدید بناء أفغانستان. «وقد کانت «ثانویة حبیبیة» التی أسسها الأمیر حبیب الله من روافد التجدید، حیث مارست نشاطها على غرار الثانویات المعاصرة ، ولحسن الحظ فقد کانت قد تجمعت فی عصره مجموعة صغیرة من النخبة فی کابل آنذاک طالبت بالإصلاح والترقی. ومن ناحیة أخرى فقد کانت هناک مجموعة متعلمة من بین الأحداث الذین احتجزهم الأمیر عبدالرحمان، سواء من أصاحب المناصب، أم السیاسیین، وکانوا موضع ثقة الملک على مایبدو؛ ذلک لأنهم کانوا قد نشؤوا وترعرعوا فی قلب النظام وکانوا یعتبرون فی نفس الوقت من الذین تعرضوا لأذى النظام، حیث کانوا یفتلون حبل مشنقته فی قلوبهم. وکان اتحاد هاتین الفئتین فی الأفکار والتطلعات هو الذی أشعل سراج الحرکة المطالبة بالحکم الدستوری. وکان المطالبون بالحکم الدستوری عموماً قد تجمعوا أولاً حول محور جریدة باسم «سراج الأخبار» وکان المولوی عبدالرؤوف خان القندهاری یتولى إدارة هذه الجریدة. وقد طبع العدد الأول منها بتاریخ «کانون الثانی ١٩٠٤م، وأوضح المولوی عبد الروؤف الهدف من نشرها بقوله:
«لقد عرضنا نحن أقل عباد الله وأصغر سکنة البلاد، أعضاء جمعیة سراج الأخبار، موضوع إنشاء هذا الأمر السدید على جلالة الملک، فمن المناسب أن ننقل إلى أسماع عقلاء العالم والعارفین من الجمهور کل الأخبار الجدیدة التی یلیق نقلها إلى أفغانستان وذلک کلما بلغنا عن الدول الأجنبیة البهیة أخبارها ووقائعها وحوادثها بملاحظات مختلفة ولغات متعددة من البلاد المتفرقة، وحتى یطلع العقلاء فی داخل البلاد والمحبون لبلدهم على زبدة وقائع وطنهم وأحداثه أولاً، ویحیطوا علماً بأطوال أهل العالم وأدوارهم ورفعتهم من الضعف والانحطاط والخوف والوضاعة إلى أوج مراتب الدعة والنعمة والاقتدار فی السلطنة والاتساع التدریجی للمصالح والممالک والرفعة المتنامیة للمداخل والمسالک فی بحار الکرة الأرضیة وبراریها وتنفذ العزیمة على إکمال قواعد الحضارة البشریة وتحسین قوانین المعیشة وتزیین مصاحبتهم ومعاشرتهم. ولم یمانع جلالة الملک الراعی للإسلام، ففتح طریق الإخبار لأعضاء الجمعیة» .
ولکن هذه المجموعة لم یسعفها الحظ للأسف، فلم یصدر من هذه الجریدة، سوى عدد واحد. وفارق المولوی عبد الرؤوف الحیاة فی ١٣٣٣هـ و واجه مساعده المثقف والضلیع المولوی محمد سرور واصف القندهاری غضب الملک هو الآخر، وانهالت علیه قذائف المدفعیة وهو یردد هذه الرباعیة:
«فی ذلک الیوم، حیث إذا السماء انفطرت. ثم إن اقتفاه إذا النجوم انکدرت.
سوف أمسک بتلابیبک فی العرصات.
لأقول لک: أیها الصنم! بأی ذنب قتلت!»
ولم یستطع الأمیر حبیب الله أن یلعب دور السیاسی المترقی لأکثر من ذلک، ولذلک فقد سجن، أو أصدر حکم الإعدام على عدد کبیر من المثقفین المطالبین بالحکم الدستوری بتهمة أنهم کانوا قد دعوه فی رسالة بعثوها إلیه، برعایة بعض قواعد الحکم الدستوری.
محمود طرزی وجریدة سراج الأخبار الأفغانیة
رغم أن «شمس النهار» (١٢٩٠هـ) تعد أول جریدة مطبوعة فی أفغانستان، إلا أن معظم الباحثین فی مجال الثقافة والاجتماع یعزون مشروع التجدید فی هذا البلد إلى المساعی الواسعة التی بذلها محمود طرزی. کان طرزی (١٨٦٦– ١٩٣٥م) نجل القائد غلام محمد خان شیخ قبیلة محمد زالی الشاعر الشهیر والذی کان ینظم الشعر باسم محمد طرزی. وفی سنة ١٨٨٢م فإن عبد الرحمان خان، الملک المستبد، اتهم القائد بالتجسس ضد الحکومة، ونفاه هو وأسرته إلى خارج البلاد. وکان قد أدرک فی ترکیا مجلس المصلح الکبیر، السید جمال الدین الأفغانی، وقال هو نفسه فی ذلک: «کان العلامة السید جمال الدین معدناً من العرفان (العلم). ومصاحبتی له هذه لمدة سبعة أشهر، تعدل سبعین سنة من السیاحة... والنقاشات السیاسیة، العلمیة، الحکمیة، الفلسفیة، الاجتماعیة وغیرها، والتی کانت تجری کل یوم فی مجلس هذا العلامة الأوحد فی زمانه، کانت کل جملة وعبارة منها بحاجة إلى تحریر الکتب والرسائل» والأشخاص العارفون بحیاة السید جمال یعلمون أن سبعة أشهر کانت تکفیه لأن یغیر الدعامة السیاسیة لدولة بأکملها، فما بالک بایجاد التغییر فی فرد واحد.
وقد خاضت أسرة طرزی غمار السیاسة والاجتماع فی أفغانستان عندما کان هذا البلد یجتاز عهداً دکتاتوریاً أسود من الدرجة الأولى. کتب الأستاذ نجیب مایل هروی فی کتاب «أفغانستان ، تاریخ وزبان» قائلاً: «عندما عمد الأمیر عبدالرحمان خان إلى القضاء على حملة الأقلام بإشارة من الإنجلیز، وبادر إلى تقیید حریات الشخصیات الشعبیة، فإنه قام بنفی وتغریب البعض الآخر أیضاً، وقد کان محمد طرزی (المولود فی ١٢٤٤) حدثاً یبلغ من العمر سبعة عشر عاماً، وکان والده تساوره الأفکار، ربما أفکار الفوضى التی کانت تعم البلاد. ولذلک کان یجب نفیه. فشد طرزی الرحال هو وأسرته إلى الهند واتجه منها إلى الإمبراطوریة العثمانیة. وفی هذه الإمبراطوریة التی کانت جسراً بین حضارة الشرق والغرب، تعرف على الأفکار السیاسیة والاجتماعیة الجدیدة، وعلى إثر علاقة الصداقة بین أبیه وبین السید جمال الدین وعلاقته هو نفسه بحکیم الشرق ذاک، فقد اطلع أیضاً على مقاییس الکفاح وقیمه آنذاک. وعندما حل الأمیر حبیب الله محل أبیه، دعا عدداً من المنفیین للعودة إلى الوطن، کما یذکر التاریخ، وذلک بهدف التخفیف من مظاهر السخط الاجتماعی. فما کان من طرزی إلا أن عاد إلى أفغانستان محملاً بالأفکار التی کان قد حصل علیها فی تلک البیئة، وعمد إلى إصدار جریدة باسم «سراج الأخبار الأفغانیة»...».
ولقد دفع استمرار وشمولیة سراج الأخبار ونفوذها، الباحثین إلى أن یعتبروا محمود طرزی بحق أب الصحافة الأفغانیة. یقول فارتن غریغورین فی کتابه «ظهور أفغانستان الجدیدة» قائلاً: «کانت سراج الأخبار الأفغانیة التی کانت تصدر خلال سلطنة خلیفة عبدالرحمان، حبیب الله، أول وسیلة إعلام خبریة ناجحة فی تاریخ أفغانستان الجدیدة . وقد لعبت هذه الصحیفة الأسبوعیة التی کانت تصدر منذ تشرین الأول ١٩١١وحتى کانون الثانی ١٩١٩، دوراً مهماً فی توسیع الحرکة التجدیدیة فی أفغانستان. وکانت سراج الأخبار تعتبر منبراً لمجموعة صغیرة من المثقفین الشباب الأفغان الذین کانوا یعملون على التبریر الأخلاقی لمبادئ الحرکة القومیة والتجدیدیة الأفغانیة، وکان العضو البارز فی هذه المجموعة، محمود طرزی رئیس تحریر الجریدة وکاتبها الرئیس» .
بدایة التجدید فی الأدب
أبدت سراج الأخبار منذ البدء نزعة ملفتة للنظر إلى الأدب، إلى جانب الموضوعات الأخرى. ولعل ذلک یعود، فضلاً عن الضرورات الإعلامیة، إلى اهتمامات طرزی ورفاقه الذاتیة. وقد کان والد طرزی شاعراً محترفاً وکان یمیل کشعراء عصره الآخرین إلى الأسلوب الهندی وأسلوب مولانا عبدالقادر بیدل وقد وصلنا منه دیوان شعر ضخم ولکن الشعر الذی کان یعنی به طرزی ورفاقه لم یکن ذاک الذی سمعه من أبیه. فقد کان أعلن بصراحة فی سراج الأخبار:
«مضى وقت الشعر والشاعریة وولى
مضى زمن السِحر والسحریة وولى
الوقت وقت الإقدام والسعی والجد والجهد
مضت الغفلة ومضى الکسل وولى».
وبالطبع فإن من الواضح أن طرزی لا یرید من ذلک نبذ الأدب والشعر ورفضهما، بل إن قصده من مصطلح «الشعر والشاعریة» الإشارة إلى التقلید الشائع فی عصره وثقافته وهو نظم الشعر. والشعر هو وسیلة الصحوة من وجهة نظر طرزی. وما یستهدفه فی نقده، هو تراث الشعر الرومانسی المتبقی من الشعراء الفرس الکلاسیکیین الذی تکرر وتکرر حتى لم یبق لدیه ما یقوله ولم یعد له طعم للتذوق. وقد کان یرى أن الشعر یجب أن یتحدث عن حیاة الناس الاجتماعیة فی عصره، وأن یکون أداة للتعلیم وسلاحاً لقمع الاستعمار الأجنبی ولذلک فإنه ما لبث أن استقطب الکثیر من الشعراء، حیث کانوا کلهم یمیلون إلى هذه النزعة الجدیدة من الشعر والأدب. «کانت سراج الأخبار قد أصبحت تجمعاً غیر رسمی للمثقفین المطالبین بالتجدید والاستقلال. فرجل مثل المولوی عبد الرب الذی کان یقیم المجالس الأدبیة والسیاسیة فی غرفته فی المدرسة الحربیة، وجد فی سراج الأخبار مجالاً أفضل لنشر أفکاره ونشر فیها المقالات الأدبیة الجمیلة التی کانت تختلف تمام الاختلاف عن الأدب القدیم. وأصبح محمد سرور واصف القندهاری الذی ضحى بنفسه من أجل تأسیس المدرسة الحبیبیة والحرکة الدستوریة، من الکتّاب المتحمسین فی سراج الأخبار. وقد مارس محمود طرزی التأثیر فی غسل دماغ رجل مثل مستغنی، أشهر شعراء عصره، حیث دفعه إلى نظم الأشعار الاجتماعیة» .
وتدل المقارنة بین شعرین لشاعر واحد تفصلهما سنة واحدة عن بعضهما البعض، على مدى دور النظرة الجدیدة فی تغییر الذهن واللغة الشعریة لشاعر محترف مثل عبدالعلی مستغنی:
«سلبتنی الصبر والثبات والنظم والترتیب
فماذا ترید منّی أکثر من ذلک یا عدو القلب والروح
ماذا ترید منّی أنا المتعب ولماذا هذا اللف والدوران دون سبب؟
فما أکثر کرات الصولجان التی رمیتها على طرتک
ذاب القلب حسرة على تلک الفحصة فی الذقن
واترکونی بعد ذلک لحالی، أیها الأعزاء!
فلقد تصالحنا أنا والزاهد السلیم الفطرة
فجنة الفردوس له وتفاحة الخدّ لی
وقد نشرت هذه القصیدة فی سراج الأخبار، العدد ١٣ سنة ١٢٩٠ ش وبعد سنتین قرأنا للشاعر فی هذه الصحیفة نفسها هذه القصیدة:
لا تکن شاعراً ولا تتعلم نظم الکلام
ابذل جهدک وتعلم العلم والفن من أجل الوطن
لا تنظم الشعر فی الشعر المسْبَل حتى الخصر ولا فی فحصة الذقن
فتعلم العلم الذی ینفعک، یا عزیزی
اجعل من البندقیة صولجاناً ومن الرصاصة کرة الصولجان
لا تتعلم أن الذؤابة کالصولجان ولا کرة الصولجان کالذقن
لا تکن کسولاً وعدیم الفن، من لزوم البیت
وتعلم الحرکة الدؤوبة نحو العلم والفن وکأنک سکة ممتدة تمشی .
إن الأغراض الشعریة الشائعة فی هذا العهد تتمثل بشکل عام فی ثلاثة اتجاهات: الأول «حب الوطن» ونفح روح الیقظة والنزعة الاستقلالیة بین أبناء الشعب الأفغانی (القومیة)، الثانی تعرف أبناء الشعب على الفنون والصناعات فی العالم الحدیث والتشجیع على تعلم هذه العلوم، الثالث محاربة التقالید القومیة والقبلیة الخاطئة التی تحول دون تطور الشعب. وبالطبع فإننا نجد فضلاً هذه الموضوعات الثلاثة ذات النطاق الواسع، أغراضاً أخرى فی أشعار شعراء هذا العهد ذات علاقة بتلک الأغراض الرئیسة الثلاثة ویمکننا أن نذکر على رأسها موضوع وحدة البلدان الإسلامیة وعودة المسلمین إلى عظمتهم ومجدهم السابقین. ویمکننا أن نجد بعضاً من هذه الأغراض فی الأبیات التالیة لعبد الهادی داودی المتخلص بپریشان. وقد أصدر داودی الذی کان من الدعاة الأوائل للدستوریة، حکم سجنه بنظمه لأشعار من هذا القبیل:
«لو کانت المعرفة قد ازدادت فی هذا البلد، لا بأس فی ذلک
لو کان قد وجد علاج لهذا الشعب المریض، لا بأس فی ذلک
لو کان قد مزق لیل الغفلة هذا لا بأس فی ذلک
لو کانت عینک المفعمة بالنوم قد صحت، لا بأس فی ذلک
لو کان رأسک السکران قد تیقظ، لا بأس فی ذلک.
* * *
لقد لزمت بیتک لیل نهار کالمقعد المنهار
أو أبقیت دماغک وفکرک دونما جدوى
وابتعدت عن الأحباب والتحقت بالأعداء
وعلقت الآمال على أعمال الآخرین
فلو کانت لک همة تدعم نشاطک، لا بأس فی ذلک.
* * *
لقد بقینا فی الصحراء کلنا عُرجاً وصماً وعمیاناً
دون زاد، ودون قوة فی أجسامنا وقلوبنا ضجرة
وقاطعو الطرق قریبون منا، واللیل مظلم، والسالک عدیم الإحساس
الطریق بعیدة والأرجل حافیة والأشواک على الطریق أمامنا
فلو طهرت هذه الطرق من الأشواک، لا بأس فی ذلک
* * *
لغیرنا السهول والأبواب والجدران والأوراق والثمار
فإلى متى تهزؤ منا الأزهار والبساتین والربیع
فیا غیوم الرحمة امطری علینا مطر الرحمة
سقط حملنا فی الطین وقلوبنا تحت الحمل
فیا إلهی! لو أن حملنا یحمل ، فلا بأس فی ذلک.
ورغم أن معرفة محمود طرزی وإدراکه للأدب الکلاسیکی الفارسی لم یکونا على جانب کبیر من العمق وهو ما یتضح من أحکامه المتطرفة التی صدرت منه فی هذا المجال، ولکن مما لاشک فیه أنه کان قد أدرک ملاحظة جیداً وهی أن الآوان قد آن للتغییر والتطور وأن تلک الأغراض والقوالب التقلیدیة الجامدة لم یعد بإمکانها الاستجابة لمرونة العالم الحدیث وتنوعه، ولذلک «فقد سنحت له الفرصة لأن یترجم عدداً من الکتب من الترکیة إلى الفارسیة وأن یؤلف البعض الآخر بنفسه. وقد کانت أهم ترجماته التی أدت دوراً رئیساً فی تعریف شباب ذلک العصر بالعلم والتقنیات الحدیثة، ترجمته لآثار «جول فرن» الکاتب الفرنسی مثل «الجزیرة المستورة»، «عشرون ألف فرسخ تحت البحر»، «حول العالم فی ثمانین یوماً»و «رحلة فی جو الأرض»، وترجم فضلاً عن ذلک إلى الفارسیة کتاب «القانون الدولی» و«تاریخ الحرب بین روسیا والیابان» وهما من مؤلفات الکتاب الأتراک» .
ولأن جهود طرزی النظریة لم تکن مقترنة مع إبداع النصوص الخلاقة والأسلوب الحدیث فی الشعر والقصة فقد بقیت تتراوح فی شکلها ومستواها السطحی. وأخیراً فقد عبر الشعراء عن الأغراض الجدیدة بالأسلوب الکلاسیکی متأثرین به وتحدثوا عن العلم والفن والحضارة والفحم الحجری، بدلاً من الکلمات الشائعة مثل الطرة والخط والخال:
«تحدث عن العلم والفن، فی الخانقاه والمجالس
لا تتحدث عبثاً فی وصف الروضة والعشب
واکتب الأبحاث حول العلم والحکمة واقرأها على الناس
امدح الفن دائماً، ولا تتحدث عن السرو والیاسمین
فکل شخص صور الکثیر من الأغراض فی ساحة الشعر
ولم یترک فی ذلک سوى الشوک والغثاء لشعری وشعرک
فإن کان الکلام کذلک، فاختر القناعة بالفن
فقل للشاعر بیدل أحسنت، وانبذ الأشعار القدیمة
هکذا یجب أن نسمع معانی الأشعار الجدیدة
فکلما یحدث مما تقصده فقل هو سهل ویاسمین؟
وعندما نلقی نظرة على ما قدمه الشعراء فی ذلک العصر فسوف نذعن لحکم الشاعر المعاصر الأستاذ واصف باختری وهو أن أعمال أولئک العظام الشعریة لم تکن سوى إبداعات حقیرة.
وفی الحقیقة «فقد اهتز الشعر الفارسی فی أفغانستان على عهد الحرکة الدستوریة وسراج الأخبار ونهض من کبوته وتلقى مفاهیم جدیدة اقترنت دون شک مع بعض الإبداعات فی قالب اللحن والتعبیر... ولذلک، فقد ظهر جیل من الشعراء المجددین إلى جانب الأدباء الرسمیین والتقلیدیین . وقد نشروا نوعاً من الشعر ذا النزعة التجدیدیة المعتدلة والرومانسیة أحیاناً، بسبب متطلبات العصر وکذلک ابتکاراتهم الشخصیة وتعرفهم على الأدب الفارسی خارج أفغانستان» .
خلیل الله خلیلی
هو نجل محمد حسین خان، المعروف بمستوفی الممالک ویعتبر أول شاعر عمد إلى تجربة جدیدة. وقد روى لنا الأستاذ واصف باختری نقلاً عنه هو نفسه أنه نظم فی العامین ١٣١٧ و ١٣١٨ شعراً بوحی من تأثره بالشاعر نیما وذلک بعد قراءته مجلة الموسیقى الصادرة فی إیران. وأرسل شعره إلى جمعیة کابل الأدبیة. ولکن جمعیة کابل الأدبیة لم تنشر هذا الشعر، بل إنها کتبت ملاحظة علیه وأعادته إلى الشاعر قائلة: «نأسف لمثل هذه القصائد والمثنویات التی تنظمها ، ترى لماذا ابتلیت قریحتک بهذا الانحطاط فجأة»، وبالطبع فقد بادر أساتذة الجمعیة الأدبیة إلى نشر شعره بعد مدة مقدمین اعتذارهم له من جدید وسمحت صحف ذلک العهد ومجلاته بنشر أشعار ذات قوالب جدیدة تدریجیاً.
ولد الأستاذ خلیلی فی شوال ١٣٢٥هـ (١٢٨٦ش) بکابل. وکان والده من السیاسیین والفضلاء. ورغم أن خلیلی فقد والدیه فی طفولته کما أنه لم یستطع مواصلة دراسته الرسمیة، إلا أنه بلغ مراتب علمیة من المعلومات والثقافة بفضل نبوغه ومثابرته، فقد کان یمارس التدریس لفترة فی جامعة کابل. ورغم أن خلیلی تولى طیلة حیاته المناصب الرسمیة والدیوانیة أیضاً، إلا أنه یعتبر فی عداد القلائل من الشعراء المحترفین وترکت نصوصه الثقافیة والأدبیة أثرها دوماً على جوانبه السیاسیة والاجتماعیة. وقد تبقت منه، فضلاً عن دیوان شعره، الکثیر من المؤلفات مثل: آثار هراة، فیض قدس، من بلخ إلى قونیة، مرقد بابر ویمکان.
یعد خلیلی کما قلنا فی عداد الشعراء التقلیدیین من الناحیة الأدبیة، إلا أنه لم یکن عدیم الحظ من التجدید ویمکن اعتبار التحرر من التقلید الشائع للأسلوب الهندی، أحد أبرز مظاهر نزعته التجدیدیة هذه، ذلک التقلید المتین والقدیم الذی سیطر لسنین عدیدة على أذهان الشعراء الأفغان وضمائرهم. «یتراوح أسلوب خلیلی الشعری بین الأسلوبین الخراسانی والعراقی، وهو غالباً ما یتبع فی القصیدة شعراء العهود الأولى من الأسلوب الخراسانی، وخاصة فرّخی ومنوچهری، وقد استقبل بعض قصائد هذین الشاعرین.
ویمثل «سرودکهسار» [أنشودة الجبل] اسم مقطوعة شعریة کانت جمعیة کابل الأدبیة قد أصدرت الحکم برفضها بسبب قالبها المختلف وقد ارتأینا أن نبدأ سلسلة الشعر الحدیث فی أفغانستان بها:
أنشودة الجبل
فی اللیل على سفح الجبل حیث الأشجار الخضراء والکثیفة
النجمة مضیئة وضوء القمر منتشر
لیلة العشق والشباب
بین الخضر والورد وعش البلبل
یأتی صوت من بعید مثل ملیک السماء
من نایات الرعاة
فوق الجبال موضع أقدام الغزلان
أنثر الجواهر فی مواضع أقدام الغزلان
من الدموع الأرجوانیة
ویمطر الغیم شیئاً فشیئاً ویهتز الغصن شیئاً فشیئاً
لا یوجد حاکم لکل شخص سوى الطبیعة
سوى الفرح والسرور
جلسنا أنا وأنت سویة فرحین وجذلین
وأنت تمنح الحنان
وأقطف الورد لک وأنثره عند أقدامک
أصنع حمائل لک من الشقائق الأرجوانیة
کالیاقوت الرمانی
وکان الشاعر الثانی الذی جرب التجدید فی الصورة، هو محمد یوسف المتخلص بآیینه. والذی ولد بکابل فی ١٢٩٨ش. وکان أجداده من أهالی قندهار. وکان آئینه موظفاً فی وزارة الثقافة. کما کان یعمل فی الترجمة. وکان مسؤول مجلة (برگ سبز) أیضاً لفترة کما تولى لفترة الإدارة العامة للصحافة ورئاسة مکتبة وزارة الزراعة ومتحفها. وربما کان أول من مال بشکل صریح إلى قالب الشعر الجدید وأجاده إلى حد ما. ومما یلفت النظر، سعیه من أجل إبداع التشبیهات الجدیدة. وهو یرکز اهتمامه فی شعره على مظاهر الطبیعة أکثر من العناصر الأخرى. وقد نظم الشعر بکل من الأسلوبین التقلیدی والجدید. وله أیضاً أثر باسم (تار) قام فیه بدراسة التغییرات الأدبیة على أساس العوامل الاجتماعیة والأحداث التاریخیة وتأثیر عوامل العصر والبیئة . ومن آثاره الأخرى، «بستان صفت» و«نوای عشرت».
محمد یوسف آیینه
أبعدتنی من جانبها بسکر خفی تحت الحیاء
ومرتجفة وخائفة، وقالت: لست مجنوناً!
تلک المخالب الناعمة
وهذه العیون الملأى بالعتاب
کلها ترید الحرب والعراک
إنی أتضجر! لقد انتزع کتاب العشق
الحق فی رواج المحبة
وقدمه إلى أخیار الزمان
فهب لی اللیلة وردة من ربیعک
وهذه أمنیة طاهرة
یا أیتها الشمعة! تیقّظی، فأنت لست فراشة
أجیبی قلبی بالأحادیث الدافئة
وضمّی رمشیک إلى بعضهما البعض
لقد اخترنا باب العشق، من کتاب العشق
لتبق هذه الأشعار البدیعة تذکاراً منّا
علامة من حماس المحبة فی هذه الأوراق
لقد ولى الطیر الشارد هارباً من أفخاخ الصیادین
وعندما تجدّد أسلوب الدلال فی الزمان
فقد أسِّر ذلک الطیر بید الحسناوات الساحرات
التفَّت المصیدة على الطیر کلما ازدادت محاولاته للخلاص
لقد سقط ذلک الصید المسکین
فی البلاء، وأخذ یتخبط بجناحیة وریشه
وما إن هم بالقفز، حتى أسر من رأسه إلى رجله
ها أنا ذا قد سقطت بجوارک، منذ دهر بعید
هادئاً، وشبه نائم
أرى فی جبینک تبسماً
أیها المساء القاتم! ارفع حجابک بالله علیک
کی یأمن شخصان تعیسان من أعین الحساد
لقد أخذ القلب النور من حرارة أنفاسک
تدور قبلة الشفة حولی دون حساب
أنت نفسک فتنة، ضائعة
أنت ملاک جمیل على شکل شعر منجمد
ظلّ البارحة إلى جانب المرآة حتى الصباح»