الاستاذ سمیر أرشدی فی سطور؛
المهام الأکادیمیة
الأعمال الأدبیة
متی و کیف تعرفتم علی بروین إعتصامی وشعرها لأول مرة ؟
العشرات من الشعراء یمرون بالحیاة الادبیة لأی مثقف دون ان یترکوا أثراً یُذکر؛ فألف دیوان یزول وواحد یبقی، و دیوان بروین من الخالدین.
شغفنی شعر بروین حینما قرأته لأول مرة فی الکتب المدرسیة بأیران فوجدت سلاسة التعبیر وبساطة وعفویة المفاهیم التی تخترق قلب المتلقی دون استئذان. وطالما کنت أحلم بترجمته الی إحدی لغات العالم الحیة، حتی تهیأت لی الظروف و بالتعاون مع الاستاذ حسین محفوظی موسوی قمت بتعریب الدیوان مع یقینی بأن الترجمة تعجز عن رعایة الأمانة و نقل الصورة الحیة للأبیات.
ما هی برأیکم أهم میزة تمتاز بها قصائد بروین؟
العفویة فی الاسلوب و السبک المُحکم فی صیاغة العبارة والحبکة الأدبیة و الاحساس المرهف و الروح الصادقة التی تخاطب آلام الناس و ما یعتلج صدورهم جعلها أنصع صوت أنثوی و أجرأ حنجرة نادت بالحق و الحقیقة.
شاعرة ملتزمة وهبت قلمها لحریة شعبها و نشدت الحیاة السعیدة له، حیث خاضت موضوعات سیاسیة و اجتماعیة متشعبة؛ و کانت رمزاً للمرأة المسلمة المثقفة الحرة الجریئة.
لقد أحب الناس شعرها لطهارة قلبها و نبل مقاصدها و استقطب اسلوبها القصصی المؤثر و الوعظی المعبّر شغف المُتلقین حتی لقّبها بعضهم بـ« لافونتین العصر».
لم یعد الشعر عند بروین متاع النبلاء و ملهاة السلاطین ؛ و لم تعد القصائد کأس ذهب فی ید أمیر، بل أصبحت قطعة خبز فی فم جائع یتوق للحریة و الغد الافضل کما یقول نزار قبانی.
القصیدة عند بروین هندسة حروف و أصوات تُعمِّّر بها فی نفوس الناس عالماً یرفض الذل و الخنوع و لا یخشى فی الحق لومة لائم. کان شعرها ضربة قصمت ظهور الاثریاء و شعلة حارقة لجبروتهم و ظلمهم و صرخة عاتیة فی وجه الاستبداد.
هل تأثرت بروین فی مناظراتها بالشعراء الذین سبقوها؟
لقد تربت بروین فی بیت الشعر و الادب و أری بأنها تأثرت بسعدی الشیرازی أکثر من ناصر خسرو؛ و نجحت فی انزال الشعر من إرستقراطیته لیکون ترانیم على شفاه المعدمین والفقراء.
کانت تؤمن بأن الشعر هو هواء مُشاع یتنفسه الجمیع؛ و هو همس الانسان للانسان. لقد کانت قصائدها سمفونیة تُسمع بالعین بل هی موسیقی مقروءة. و هکذا نراها الیوم بعد مرور قرن علی مولدها.
ما هی أهم العناصر الشاخصة و الممیزة فی شعر بروین؟
تعتبر بروین شاعرة الفضیلة و التقوی و الادب الانسانی الرفیع ؛ فالعالم من وجهة نظرها لیس مکاناً للغفلة و الملذات، کانت جراح الفقراء محفورة فی وجدانها ، و فی صدرها حنان یُغطی الارض، و فی نفسها طموح یملأ السماء.
الرمزیة و الاستعارات التمثیلیة المستخدمة فی قصائد بروین قلما نجد لها مثیلاً لدی بقیة الشعراء لا فی الفارسیة بل و فی معظم اللغات العالمیة. هل یجرؤ الشاعر علی کتابة حوار بین البصل و الثوم، أو بین الحمص و اللوبیاء. تقول بروین:
ـ هاجم الثوم البصل یوماً فقال :
یا مسکین رائحتک کریهة!
ـ أجابه عن عیبک غافل!
لذلک تبحث عن عیوب الآخرین.
ـ سألت الحمصة اللوبیاء؛
لماذا أنا دائریة و أنت ممشوقة القامة؟
ـ أجابتها: کلنا مصیرنا الطبخ
إصنعی مع الزمن.
لعل هذه الصور غیر مألوفة و تحمل صوراً مبتکرة لتناهض الواقع الألیم بالترمیز و الاشارة. خمسة آلاف بیت فی دیوانها لم تکتب عن نفسها إلا قصیدة واحدة أوصت بنقشها علی شاهد قبرها تقول فیها:
ان صاحبة الشعر و اللحن الحزین
ترجو الیوم قراءة سورة الفاتحة و یس
مهما أوتیتَ من طغیان أیها المغرور
فعندما تصل الی هذا المقر
فانت بائس و خسران
و الی آخر القصیدة..
لماذا یقل الغزل فی دیوان بروین مع تمتعها بروح و عاطفة رقیقة؟
صحیح ان الغزل الذی اشتهر به الشعر الفارسی نادر فی قصائد بروین الا ان طغیان الروح العاطفیة و رهافة الحس الفطری یملآن هذا الفراغ بحیث أن القارئ لا یحتاج للبحث عن إسم الشاعر حینما یقرأ قصائد بروین فاسلوبها و لغتها الشعریة تدُل علیها.
لقد نقلت شعرها الی الناس و عایشت همومهم و محنهم و وجّهت قصائدها الی کل طبقات المجتمع و فئاتهم العمریة، ومکّنتها سعة الأفق لتطرق کل المجالات الادبیة.
ان من نِعم الله علی بروین انها رضعت الأدب مع اللبن و ترعرت فی بیت أدبی عریق فکما ان شمس التبریزی هو الذی غیّر مجری حیاة مولانا جلال الدین الرومی ، فان اعتصام الملک والد بروین کان الشمس التی أضاءت دروب بروین و ساهمت فی لمعان نجمها و بلورة التزامها الدینی و مناهضتها للقهر و الاستعباد.
لقد تکررت کلمة المحبة و الوداد فی دیوان بروین اکثر من أربعین مرة، و نقرأ الابیات التی تَطفح بالعشق الالهی و محبة الأیتام و الناس و معالجة القضایا بما یدور حول المرأة کالخیط و الإبرة و مناظرة الحمص و اللوبیاء، قصائد مُفعمة بالحرکة، مُناهضة للظلم، مُعادیة للمستکبرین ترصد آلام المجتمع و آماله، ملیئة بالحکمة و القصص الهادفة و بعیدة عن التکلف.
ما هی أهم المجالات التی تطرقت الیها بروین فی دیوانها؟
إشتهر الشعر الفارسی بالغزلیات و القصائد العرفانیة، الا ان النصف الثانی من القرن العشرین شهد اضافة قوالب جدیدة تبرز الموسیقی فی الوزن و القافیة و تتفنن فی أسالیب التعبیر اللغویة و الفنون الجمالیة الادبیة الأمر الذی فرض تغییرات ملموسة فی البُنیة الأدبیة المعاصرة.
و بما أن بروین تعتبر من رواد العصر الحدیث فقد أدخلت فی شعرها مضامین جدیدة و صاغتها بإسلوب سلس، حیث تطرقت الی الشؤون التربویة و الاخلاقیة فرأت فی المرأة شریکاً لا یَستغنی عنه الرجل، فلا یمکن خوض مُعترک الحیاة دون وقوف المرأة الی جانب الرجل، و مَثل المرأة و الرجل کمثل السفینة و الربان فاذا کانت السفینة مُحکمة و کان ربانها حکیماً حاذقاً فلا خشیة من الطوفان و الإعصار. دافعت بروین عن العمال و الکادحین و حثتهم علی المطالبة بحقوقهم حیث تقول:
ایها العامل!
الی متی تحفر روحک تحت لهیب الشمس؟
و کم أراک تریق من ماء وجهک لأجل لقمة العیش
لماذا ترزح تحت وطأة الذل و الحر و التراب
و لیس أجرک سوی نظرة و حقد و عتاب
ایها العامل!
طالب بحقک المهدور
و لا تخشی الملک و الامیر
انهض وقیّد الشیطان و المتکبر
فنور الشمس لا یُحجب بغربال
إمتاز شعر بروین بالاسلوب القصصی العفوی الذی یخاطب الناس ببراءة و یخترق قلوبهم دون إستئذان فلم تترک جانباً من حیاتها الا وصفته، تحدثت عن الابرة و الخیط و الحمص و العدس لتبسیط فکرتها لدی المتلقی و لم تتحرج من إستعمال بعض الالفاظ العامیة فی محاولة لإفهام الناس و تقریب الفکرة. کما إهتمت بروین فی قصائدها بالمواعظ و الحکم و عبّرت عنها بالمناظرات و الحوارات لجذب القارئ...
هل من الممکن أن تقدم للقارئ أبیات من هذا القبیل؟
طبعاً أنقتطف علی سبیل المثال، لا الحصر قصیدة السکیر و العاقل حیث تقول فی أبیات منها:
صادف المحتسب سکیراً فی الطریق
فجذبه من قمیصه
قال السکیر: هذا قمیص أیها المحتسب و لیس لجاماً
قال: فمالی أراک أیها السکیر تسیر مُتأرجحاً؟
أجاب: لیس الخلل فی مشیتی , بل فی الطریق الوعرة.
قال: فلابد من إستدعائک الی المحکمة
أجاب: ان القاضی نائم فلنذهب صباحاً
قال: منزل الوالی قریب ، تعال نقصده
أجاب: ألا تعلم بأن بیت الوالی خمارة ایضاً؟
قال: اذن فعلی العقلاء أن یُقاضوک
أجاب: فائتنی بعاقل ... و أین هو
إمتاز شعر بروین بالبعد عن الغرور و الایمان بان الارض تتسع للجمیع مهما تباینت رؤاهم و اتجاهاتهم ، لقد کانت أیقونة متعددة المواهب و الثقافات نهلت من منابع الاسلام العذبة و تأثرت بالمدارس الفکریة الاوروبیة و کانت محارَبة من قبل جلاوزة النظام الشاهنشاهی شأنها شأن کل صاحب قضیة و مما زاد فی الحرب ضراوة إنتسابها الی أسرة عریقة و نشوءها فی بیت ثقافی و فکری و کونها لیست من ذکور القبیلة.
و ربما لا یوجد فی الشعر الفارسی من إهتم بمتطلبات الطفل الاجتماعیة و النفسیة مثل بروین إعتصامی، حیث نری ذلک فی قصائدها: دموع الیتیم، الفقیرة، سیئة الحظ، القلب الجریح، المعاناة الاولی، صاعقتنا ظلم الاغنیاء و غیرها.
من هم أهم الشعراء الکبار الذین تأثرت بروین بأعمالهم؟
لا شک بأن شعر بروین لم یکن تقلیداً للقصیدة التراثیة ، بل هو محاولة لبعث الشعر الکلاسیکی الفارسی من خلال بناء نهضة أدبیة حدیثة للتعبیر عن مستجدات العصر و تطعیمها بینابیع التراث الاسلامی الاصیل.
و قد تمیز أسلوبها بالوضوح المُفعم برصانة شعر شعراء القرنین الخامس و السادس للهجرة، حیث تأثرت بأسلوب ناصر خسرو و سعدی الشیرازی من القدماء، و من المتأخرین الکبار فقد کانت مُعجبة بملک الشعراء بهار الذی کتب مقدمة دیوانها مما جعلها فی مصاف کبار شعراء العصر الحدیث، کما ترک علی اکبر دهخدا الأدیب و اللغوی المعروف بصمات علی قصائدها.
و من البدیهی أن حفظها لقصائد فردوسی، ناصرخسرو، جلال الدین الرومی المولوی، نظامی، منوچهری، أنوری و فرخی و غیرهم من النجوم اللامعة فی سماء الشعر الإیرانی أتاح لها الفرصة للتأثر بأعمالهم و أدبهم.
أین تقع مکانة بروین إعتصامی فی خارطة الشعر و الأدب الإیرانی؟
حظی الشعر بمکانة مرموقة فی مضمار الثقافة الایرانیة، و کان للشعراء حُصة الأسد بین الوجوه الفنیة و الابداعیة الایرانیة حیث نال أبوالقاسم الفردوسی صاحب ملحمة الشاهنامة و عمر الخیام و جلال الدین الرومی و حافظ الشیرازی شهرة عالمیة.
و یحمل الشعر الایرانی علی ظهره تجربة الف عام حافلة بالانجازات و الابداعات، یمکنها ان تُمهد للتواصل الحضاری و التعایش السلمی، و تکون همزة وصل للتآخی و المحبة بین الشعوب.
و تعتبر بروین من شعراء العصر الحدیث فی ایران، حیث أضافت معان جدیدة للادب الحدیث و أدخلت فی شعرها مضامین جدیدة و صاغتها بأسلوب سلس و لغة سهلة بمفاهیم جذابة تعتمد علی المواریث الاخلاقیة و الثقافة الاسلامیة.
إن نجاح بروین فی خلق تمازج و تلاحم بین المفاهیم الأسطوریة الفارسیة و صیاغتها بألحان مستمدة من التراث الاسلامی جعلها تقف بشموخ فی قمة الأدب النسوی المعاصر و تخطف بجدارة لقب« سیدة الشعر الایرانی المعاصر».
کیف تقیّمون ندوة تکریم بروین اعتصامی فی العاصمة القطریة؟
بادرة بنّاءة إضطلعت بها المستشاریة الثقافیة للجمهوریة الاسلامیة الإیرانیة فی دولة قطر الشقیقة و بالتعاون مع قسم اللغة العربیة بجامعة قطر حیث تعکس أهمیة التلاقح الثقافی و الأدبی بین الحضارتین العربیة و الایرانیة اللتین شکلتا جناحی الحضارة الاسلامیة.
و تأتی هذه الندوة الأکادیمیة لتکریس مبدأ حوار الحضارات و تعایش الثقافات الذی أطلقته الجمهوریة الاسلامیة و تبنته منظمة الأمم المتحدة لیکون رمزاً للتواصل بین الشعوب لتحقیق السلام و إستتباب الاستقرار لا فی ربوع المنطقة فحسب، بل فی شتی أصقاع العالم.
و لأن الدوحة کانت و لاتزال دوحة الفکر و الأدب الرفیع فانها إحتضنت هذه الندوة لتؤکد أولاً دورها فی تحقیق التمازج و التفاعل الحضاری العربی ـ الایرانی و لتبرز ثانیاً مکانة المرأة فی الأدب الانسانی و ریادتها فی بناء المجتمع المثقف و المتدین و الراقی.
لم یعد بوسع أی أدب أن ینعزل بین جدران إقلیمیة ضیقة و یدفن رأسه فی رمال اللامبالاة و إلا صُنّف فی عداد الآداب المیتة. و الوشائج التی تربط بین الادبین العربی و الإیرانی تعود الی العصر الجاهلی ووصلت قمة تألقها فی القرن الرابع الهجری وها هی الیوم و ربما من خلال هذه الندوات الفکریة تعیش إرهاصات ولادتها الجدیدة.