المتنبی حارة تتفرع عن شارع الرشید وتستلقی بالقرب من ضفاف نهر دجلة. هذه الحارة ورغم صغر حجمها إلا أن نادرا ً ما تجد شخصا ً لا یستطیع أن یدلک على عنوانها المشهور جدا ً.. هذه الحارة الزاخرة بالمکتبات هی ملاذ الأدباء والمبدعین وطلاب العلم... هذه الزاویة من بغداد لم تشفع لها حیادیتها ولا نوع إهتماماتها ونکهة زبائنها المتسللین الیها من مختلف فسیفساء المجتمع العراقی، فأجتمعت علیها کل جحافل الحقد والجهل وکل ما فی التراث من ممارسات یرثى لها فی مواجهة الابداع والکتاب وطرق إجتثاثه المشهورة من:
کل تلک الترسانة اللئیمة أطلقت دفعة واحدة على حارة المتنبی، فکانت الحرائق والانفجار والشظایا والموت تحت الانقاض لتأتی بعدها المیاه لتغسل ما تبقى من صحائف ودخان هبطت على رأس المتنبی ذلک الیوم والذی کان عارا ً بامتیاز...!
غیر القلیل یعرف بأن الموقف من الخط والکتابة والتدوین أمر قدیم، فالبداوة دائما ً ما کانت تناصب الکتاب والتدوین العداء، وهذا السلوک العدائی التقلیدی یرجع أصله الى ما قبل الاسلام، فقد کانوا یمحون کل شیء مدون یعثرون علیه ولسان حالهم یقول:
إستودع العلم قرطاسا ً فضیعه
وبئس مستودع العلم القراطیس!
هذه الطبیعة البدویة الراسخة ظلت تمد ظلالها الثقیلة طویلا ً فی حیاة مختلف الأمم التی تأثرت حیاتها الفکریة والروحیة عمیقا ً بتلک الهیمنة وسطوتها وهذا ما تحدث عنه ابن خلدون فی مقدمته وغیر القلیل من علماء الاجتماع المعاصرین ومنهم علی الوردی...
تلک الحساسیة تجاه التدوین شاهدنا شیئا ً من مظاهرها فی مراحل الاسلام الأولى حیث تعرضت حتى الأحادیث النبویة للحرق والابعاد على إعتبار ان لا شیء یجب ان یدون الى جانب الکتاب الذی یتضمن کلام الله أی القرآن... وبعد ذلک سمح بتدوین الحدیث النبوی الشریف وتدریجیا ً سمح بتدوین کتب الفقه فقط وهکذا ظلت دائرة الحصار متواصلة على کل ما یمت بصلة الى الکتاب والتدوین رغم ان القرآن کان واضحا ً تماما ً فی هذا الشأن، حیث افتتح رسالته الى البشر بـ " إقرأ...... والذی علم بالقلم ".
مع ذلک فأن حوادث التاریخ حافلة بصور ومشاهد حرق الکتب ومطاردة المفکرین الأحرار والمبدعین، وأکثر ملامحها البشعة سفورا ً قتل وحرق الحلاج والسهروردی والنسیمی وحرق کتب ابن رشد.. الخ.
ومن المشهور أیضا ً ان العدید من العلماء کانوا قد أفتوا باتلاف کتب ابن عربی ووصل البعض منهم الى حد تکفیره، عن ابن الوردی یقول:
(... وفیها مزقنا کتاب فصوص الحکم، بالمدرسة العصرونیة بحلب عقب الدرس، وغسلناه وهو من تصانیف ابن عربی تنبیها ً على تحریم قنیته ومطالعته..)
وجاء أیضا ً (... ومن حاد عن رأیه بفتواه، ومال عن الأئمة الى سواه، فقد رکب رأسه واتبع هواه، فأخذت کتبه وأحرق ما کان منها من علوم الفلاسفة فکان منها کتاب الشفاء لابن سینا وکتاب اخوان الصفا وما یشاکلهما).
ومحمد بن زکریا الرازی الطبیب الفیلسوف أشهر من ان یعرّف به، قیل ان سبب عماه هوأنّ أحد الملوک وهو (منصور بن نوح) قد أمر بأن یضرب بالکتاب الذی ألفه على رأسه الى ان یتقطع الکتاب وسبب هذه العقوبة حسب ذلک الملک هو:
تخلید الرازی للکذب فی الکتب... فکان ذلک سبب نزول الماء فی عینیه! وفقدانه لنعمة البصر.
وقد أرسل النباهی رسالة لابن الخطیب ینبه الى عدم رضا " العلماء " عن کتبه حیث یقول:
(وقد قلت لکم غیر مرة عن اطراسکم المسودة بما دعوتم من البدعة والتلاعب، ان حقها التخزیق والتحریق...)
وقال ابن حجر العسقلانی عن الخطیب علی بن الحسن الجابی:
(... کان مشهورا ً بحسن تأدیة الخطابة، فصیح التلاوة.. وله کتب کثیرة فی الکیمیاء... وکان یعرف الکیمیاء معرفة تامة، فلما مات،توجه الشیخ بن تیمیة، فاشترى منها جملة من الکتب وغسلها فی الحال وقال:
هذه الکتب کان الناس یضلون بها، وتضیع أموالهم فأفتدیتهم بما بذلته فی ثمنها...!
والیوم نشاهد کیف تتواصل بعض القطعــان المنفلتــة عن ذلک التراث الممعن بظلامیته وعدائه للعقل والعلم والتدوین بممارسة هوایاتهم المسعورة تلک.
وحیث أضاءت حرائق المتنبی الأخیرة مساحات الخطر المحدقة بنا جمیعا ً!!