اصفهان عاصمة ثقافیة للعالم الاسلامی
سمیر أرشدی
مدرس اللغة الفارسیة فی جامعة الکویت
تعیش اصفهان بربیعها الزاهی هذا العام وهی تحتفل بعرسها الثقافی حیث بدأت الاحتفال بانتخابها کعاصمة ثقافیة للعالم الاسلامی لعام 2006م برفع أعلام کافة الدول الاسلامیة السبعة والخمسین فی أکبر میادینها التاریخیة تزامناً مع عید الأضحى المجید.
وجاء منح هذا الوسام على صدر اصفهان بعد مکة المکرمة من قبل منظمة المؤتمر الاسلامی نظراً لدورها البارز فی صیاغة وإحیاء الفکر الاسلامی المبنی على الوسطیة والتسامح والاعتدال وطوال عمرها الذی تجاوز السبعین قرناً.
ولم یأت هذا التکریم لاصفهان بسبب دورها الحضاری العریق فحسب بل لأنها أنجبت واحتضنت کوکبة من المفکرین والأدباء الذین لم یدخروا وسعاً فی بناء صرح الحضارة الاسلامیة ولکونها تمتلک مقومات المدنیة والازدهار فحیثما تمشی فی أزقة اصفهان تقرأ على جدرانها صفحات مشرقة من التاریخ الاسلامی سطّرها کبار العلماء فی مختلف الفروع الدینیة والأدبیة والفلکیة والصیدلانیة وغیرها وهی لا تباهی بماضیها التلید بل تملک أدوات التطور التی تجعلها تحتفظ بهذه المکانة لقرون مقبلة کنجمة وضاءة فی سماء الفکر الانسانی والاسلامی.
سفراء الدول الاسلامیة فی ایران شارکوا فی انطلاق الاحتفالات التی بدأت فی ساحة (نقش جهان) وسط اصفهان برفع أعلام هذه الدول لتبقى ترفرف على مدار السنة کرمز لمشارکة أبناء الأمة الاسلامیة فی صناعة تاریخ ومجد هذه المدینة التلید.
تقع مدینة اصفهان فی قلب ایران، وعلى بعد 414 کم جنوب طهران العاصمة، وتتمیز اصفهان بمناخها المعتدل وفصولها الأربعة المنتظمة، وتنفتح فی الجزء الشمالی على مناطق فسیحة مما أفسحت المجال لهبوب الریاح الباردة نحو المدینة، وأما الناحیتان الجنوبیة والغربیة، فتحیط بهما المناطق الجبلیة، وتتصل الناحیتان الشمالیة والشرقیة بالسهول، وعلیه فان اصفهان تشهد اختلافاً فی درجات الحرارة فی الفصول المختلفة وأن نهر (زاینده رود) هو أهم نهر یجری وسط ایران لیغطی منطقة واسعة فی محافظة اصفهان طولها 360 کم، فیروی الأراضی الواقعة فیها. تعتبر مدینة اصفهان منطقة جبلیة نسبیاً، ویبلغ ارتفاعها حوالی 1500 متر فوق مستوى البحر، وتمتد فیها الجبال من الشمال الغربی الى الجنوب الشرقی، ومن جملتها جبل (صفّه) المطل على المدینة وتغطیه الثلوج فی معظم الأحیان.
تاریخ اصفهان الحضاری:
إن خلفیة اصفهان التاریخیة وعراقتها توازی قدم ایران، وینسب بناؤها إلى (طهمورث) ثالث الملوک البیشدادیین وکانت نقطة التقاء الطرق الرئیسیة للمواصلات، واتخذها الملوک الأخمینیون مقراً لاقامتهم، وقد عدها (استرابون) الجغرافی الیونانی قبل ألفی سنة مرکزاً لبلاد ایران. إن دخول الاسلام وانتشاره فی اصفهان وتأثیر الثقافة الاسلامیة وکذلک وجود الفنانین الایرانیین دفع إلى تکوین إحدى أجمل المدن الدینیة فی العالم والتی ضمت مظاهر ثقافیة کالمساجد والمآذن والمدارس... وتحولت اصفهان فی العهد البویهی (القرن الرابع الهجری) إلى عاصمة مهمة للعلوم والثقافة والفنون وذلک بفضل العالم الأدیب الصاحب بن عباد، فتوجه إلیها العلماء والفنانون من شتى أنحاء المعمورة، وفی ذلک الوقت تم إنشاء سور حول المدینة بلغ طوله 21 ألف قدم. وواصلت اصفهان مسیرة التقدم والازدهار حتى أصبحت ذات حضارة مجیدة ومعمورة فی عهد الملوک السلاجقة غیر أنه لحقت بها خسائر فادحة إثر حملة المغول مما قلل من شأنها وأهمیتها.
الصناعات الیدویة الاصفهانیة:
یمکننا اعتبار اصفهان مرکز الفنون الیدویة والتراثیة الإیرانیة، دون أیة مبالغة، حیث قدّمت الأیدی المبدعة لأهلها آثاراً فنیة منقطعة النظیر طوال القرون المختلفة نتیجة ذوقهم الرفیع وإحساسهم المرهف. وأما الفنون التقلیدیة والصناعات الیدویة الاصفهانیة المعاصرة، فهی امتداد للفنون السائدة فی العصر الصفوی ویبدعها الأساتذة البارعون، فتحظی بإعجاب هواة الفن وعشاقه من داخل ایران وخارجها. ومن أبرز هذه الصناعات وأهمها، النقر على المعادن والأوانی، رسوم المنمنمات (مینیاتور)، فن القیشانی، التطریز الذهبی، الطبع على القماش، الصیاغة، تطعیم الخشب، التذهیب والزخارف الفضیة وأنواع فنون الخیاطة والتطریز والنسیج وخاصة حیاکة السجاد الیدوی الفاخر. وتعرض کل هذه الابداعات الفنیة فی محلات اصفهان، کما ان لمدینة اصفهان خلفیة عریقة ومثمرة فی مجال فن الموسیقى.
ساحة (نقش جهان): میدان الإمام الخمینی
هی ساحة أثریة جمیلة وتعد إحدى أجمل ساحات العالم، یبلغ طولها 512 متراً وعرضها 160 متراً وحولها حوانیت متساویة الحجم والشکل فی طابقین وتحیط بها الأماکن الأثریة الفریدة، وهی عبارة عن قصر (عالی قابو)، مسجد الإمام الخمینی، مسجد الشیخ لطف الله العاملی وبوابة السوق المشهورة بـ(قیصریة)، وکانت تقام فیها مباریات الکرة والصولجان، وکان الملوک الصفویون یتفرجون على الألعاب والعروض العسکریة من شرفة القصر وتتخذ الساح فی الوقت الحالی مکاناً یحتشد فیه الجمهور فی الاحتفالات والمناسبات الدینیة والقومیة، وتقام فیها صلاة الجمعة فی کل أسبوع، کما تعد مرکزاً لشراء الصناعات الیدویة.
أسواق اصفهان القدیمة المسماة بـ(قیصریة):
أنشأت بوابة (قیصریة) فی الجهة الشمالیة لساحة (نقش جهان)، وعلى جبهتها أحد أجمل الرسوم المتعلقة بالعهد الصفوی، کما إنها إحدى أجمل أسواق العالم، حیث کانت فی الفترة الصفویة مرکزاً لبیع البضائع الثمینة والغالیة. تعتبر هذه السوق من أکبر الأسواق الإیرانیة وأطولها، وتتفرع إلى أسواق متعددة تنفرد کل منها بسلعة خاصة تشد الزبائن بجودتها وجمالها، فمنها الصناعات الیدویة، المصوغات الذهبیة والفضیة، السجاد، الأحذیة وغیرها، ویستغرق التجوال فی هذه الاسواق ساعات وساعات.
آتشگاه (بیت النار):
یقع جبل (آتشگاه) على بعد 7 کم غربی اصفهان، ویرتفع عن سطح البحر حوالی 1680 متراً، وقد أنشئ على قمته معبد للزرادشتیین فی العهد الساسانی تم بناؤه باستخدام طوابیق طینیة ضخمة، ولا یزال المکان الخاص لإشعال النار قائماً بین الأنقاض الموجودة فی أعلى الجبل، ویعد هذا البناء من الأماکن المعدودة والنادرة التی یعود تاریخها إلى ما قبل الاسلام.
منارجنبان (المنارتان المهتزتان):
هی من الأماکن الأثریة المشهورة فی ایران والتی تقع على بعد 5 کم غربی اصفهان، ویشتمل البناء على منارتین وإیوان. ویعود تاریخ بناء الإیوان والمقبرة إلى فترة حکم السلالة المغولیة. ولهذا البناء قیمة عالیة من حیث الفن المعماری، فمن میزاته أنه إذا هزت إحدى المنارتین، یحدث اهتزاز وحرکة محسوسة فی المنارة الثانیة وفی کل البناء.
قصر الجنان الثمان:
أنشئ هذا القصر الذی یعد من المعالم السیاحیة المشهورة لمدینة اصفهان فی النصف الثانی من القرن الحادی عشر الهجری وفی عهد الشاه سلیمان الصفوی وسط حدیقة البلابل وبنی القصر على قاعدة حجریة، ویتألف من طابقین تم تصمیمهما بدقة ومهارة، ویحتوی کل منهما على ثمان غرف، ومن الممیزات الفریدة لهذا المعلم هی إیوانه الجنوبی الذی یشتمل على حوض اللؤلؤة والشلال الصناعی وکذلک زخارف القیشانی الموجودة على جدرانه الخارجیة والتی تضم صوراً من أنواع الحیوانات والطیور.
فندق عباسی: متحف الفنون الزخرفیة
لقد تحول أحد الأوابد التی أنشأت فی القرن الحادی عشر الهجری والذی بنی فی وسط مدینة اصفهان، إلى فندق فاخر وجمیل للغایة. وقد استوحی معمار هذا الفندق زخارفه من الفنون الزخرفیة التی استخدمت خلال القرون السالفة فی أبنیة اصفهان الأثریة، فقد أضحى بناءً رائعاً ومتحفاً راقیاً للفسیفساء نتیجة اهتمام المئات من الفنانین المبدعین ذوی الخبرة والتجربة الوافیة فی مجال الفنون الزخرفیة، وقد تم تزیین التضاریس المختلفة لهذا الفندق بصورة جمیلة وفریدة یعتبر الیوم کنزاً ثمیناً یحتوی على الفنون الزخرفیة.
جسر (الخواجه):
أنشئ هذا الجسر فی تصمیمه القدیم لعدة أغراض: کان القسم الفوقانی له مخصصاً للمرور السریع، بینما کان القسم التحتانی خاصاً للسیر الهادئ والفسحة والتفرج. وبنی أسفل الجسر کله من الصخور، ویمکن التحکم فی مقدار الماء الذی یعبر من قناطره بواسطة قطعات ضخمة من الخشب کسدود، فاذا انسدت القناطر کاملة، تتکوّن بحیرة صغیرة فی الجانب الغربی للجسر، وتوجد فی الجانب الشرقی مدرجات للاستجمام والاستمتاع بمنظر الطبیعة الخلابة والاستماع إلى خریر الماء المندفق. وفی وسط الجسر وفی الطابق الثانی عمارة جمیلة زینت جدرانها باللون الذهبی عبر الفترات المختلفة، وکانت تستخدم لاقامة الضیافات ومراسم الشرف.
کنائس الأرمن فی اصفهان:
وفر سلاطین الحکم الصفوی الأمن وحریّة ممارسة الطقوس الدینیة للأرمن من خلال الأحکام والفرمانات التی أصدروها، فکانت المدینة ولا تزال رمزاً للتعایش السلمی بین الأدیان وکان من ضمن سکان منطقة الأرمن (جُلفا) تجار وخبراء ذوو معرفة بعلوم ذلک العصر وفنونه.
وقد أنشأت فی منطقة (جلفا) التی تعد الآن جزءاً من مدینة اصفهان، عدة کنائس منها کنیسة (فانک) التی تعتبر من أجمل کنائس ایران، وجمعت فی داخلها بین طراز البناء الإیرانی والأوروبی. وتوجد فی مصلى الکنیسة زخارف فنیة من الرسوم والفنون الجصیة والتذهیب، وفی باحتها متحف قیم یحتوی على لوحات جمیلة وثمینة ومخطوطات نادرة.
العاصمة الثقافیة للعالم الاسلامی:
وقد اعتبرت منظمة الیونسکو مدینة اصفهان من المدن السبعة التاریخیة فی العالم وطالما أکدت على ضرورة الحفاظ على نسیجها العمرانی واعترضت مؤخراً على بناء أبراج شاهقة حول ساحة نقش جهان نظراً للتشویه الذی تلحقه المبانی الحدیثة بتراث المدینة العریق مما اضطر بلدیة اصفهان لهدم عدة طوابق من هذا البرج وتحقیق رغبة خبراء الیونسکو.
الاحتفالات بتتویج اصفهان کعاصمة ثقافیة للعالم الاسلامی لعام 2006م متواصلة وتشهد المدینة ندوات دولیة بحضور کبار المؤرخین لتسلیط الضوء على مکانتها الحضاریة.