من البدایة أستاذ الیاس، أنت خضت تجربة غنیة مع الکتابة فی الصحافة والأدب والمسرح، ضمن ظروف سیاسیة واجتماعیة صعبة ومختلفة، شهدت فترة صعود منظمة التحریر وفترة الثورة فی لبنان والحرب الأهلیة والاجتیاح، الآن فی الحاضر کیف ترى جدوى الکتابة فی زمن الانهیار لبنانیاً ومع نهایة الثورات العربیة ودخولنا فی زمن التطبیع أو "التتبیع" کما تسمیه؟
التجربة الطویلة تعطی الإنسان ما نسمیه الحکمة، وأهم حکمة أن الأشیاء لا تدوم، وفی حیاتنا الیومیة لا أحد یصدق أن الأشیاء لن تدوم، لذلک عندما یحلم الإنسان بالموت، لا یحلم بموته، بل یحلم بموت الآخرین، لأنه لا یفکر أنه سوف یموت، ففی الحیاة الیومیة یفکر بالموت ولکن عندما تصل الأمور إلى الجد لا یفکر بموته، لأن المنام هو اللاوعی الشخصی، وفی اللاوعی لا أحد مقتنع بموته. عادة نحن الذین نقول هذه الحکمة ولا أحد یقتنع فیها داخلیاً.
مع الزمن والتجارب وتراکم الأزمنة، هناک أشیاء أتت وذهبت، من کان یتخیل أن منظمة التحریر تقتل؟ فی شبابنا کان ذلک أمراً مستحیلاً، من کان یفکر أن یخرج الجیش السوری من لبنان؟ لا أحد، علاقتنا أبدیة هکذا کنا نفکر، إذ تکتشف أن حکمة الزمن تقول أن لا شیء یدوم. إذاً المراحل الماضیة لم تدم ولذلک هذه المرحلة لن تدوم.
أنا أتعامل مع هذه المرحلة بصفتها مؤقتة، والأساسی والحقیقة أن الأدب یعلم حکمة أن هذا کله لیس للغد، رغم أنک لا تستطیع إلا أن تکتب عما تعیشه، فلو عشت الحرب الأهلیة سوف تکتب عن الحرب الأهلیة، ولو عشت الوضع الفلسطینی کما نعیشه، سوف تکتب عن الوضع الفلسطینی کما نعیشه، إذاً فالأدب الذی یصف الناجی فقط لیس أدباً. کی یکون أدباً یجب أن یکون هناک شیء آخر، هذا الشیء الآخر هو الأسئلة الإنسانیة الکبرى التی تتغیر، تحافظ على عناوینها ولکنها تتغیر، منذ جدنا الأعلى هومیروس حتى الآن.
یعیش الأدب والفن عموماً بعد انتهاء ظروفهما، الإلیاذة کتبت بالحروب الیونانیة، من یفکر الیوم بالحروب الیونانیة؟ ولکن عندما نقرأ الإلیاذة نفکر بتفاصیل أخرى، نفکر بالإنسان، نفکر بالعلاقة مع القدر، نفکر بالموت، لذلک الظرف هو الشکل الخارجی، أما الأدب فهو الذهاب إلى لب الأشیاء، لب الأشیاء لا علاقة له بهذه المتغیرات، یرویها طبعاً، یروی الحاضر کما نعیشه، نحن شهود على الزمن الذی نعیشه، ولکن أیضاً شهود على کل الأزمنة.
الأدب لا یحاور الأحیاء فقط بل یحاور الموتى. عندما یسألوننی عن محمود درویش أقول لهم لا لم یمت، محمود درویش فعلیاً مات، وهو بالنسبة لعائلته غیر موجود، ولکن فی الحقیقة هو حی، عندما أشتاق إلیه أفتح الکتاب وأسمعه جیداً، لذلک مثلما أسمع الموتى بالأدب، نطمح بالأدب أن نجعل الموتى یسمعوننا، لذلک الأدب مهمة صعبة، لأننا یجب أن نجرؤ على المخاطبة، بصرف النظر عما إذا کانوا یسمعونک أم لا، أن تجرؤ وتقول هل یقرأ لی هذا الکتاب إدوارد سعید المیت منذ سنوات، أو یقرأ لی هذا الکتاب أبو حیان التوحیدی، فهذه لعبة الأدب العمیقة، ولکن هذه اللعبة تلعب بالحاضر، بمعنى أنک سوف تکتب لغة الحاضر، ویجب أن تکون شاهداً على الحاضر.
بالنسبة لی یجب أن تکون مواطناً، لذا قصة الالتزام، أی أن تکون مواطناً ملتزماً، فإن کنت فلسطینیاً وترید أن تصبح ملتزماً، والإسرائیلی وراءک یطاردک حتى منزلک، ولن یتوقف عن مطاردتک بمجرد قولک أنک لست ملتزماً، وفی لبنان عدم التزامک یعنی توقفک عن شراء الخبز. عملیاً الالتزام هو بالمعنى الأخلاقی؛ أن تقوم بدورک کمواطن، الالتزام لیس بالمعانی القدیمة أو الاشتراکیة وإلى آخره، التی أثبتت برأیی تجربتها مع لینین، عندما سألوه عن أعظم شاعر قال لهم "بوشکین" ولم یقل لهم "مایاکوفسکی"، عندما کان مارکس یحکی عن الأدب حکى عن الروایة الأوروبیة التی هی روایة برجوازیة یجب أن نقرأها لنتعرف على المجتمع، لذلک الالتزام هو الالتزام الأخلاقی بکونک إنسان، فی القیم الأساسیة، هذا کله بقلب العملیة الأدبیة الکبرى التی نعیشها، هذا ما یعطیک صیغة حمیمة عن الواقع، ولا یعنی أن تکون منفصلاً عن الواقع، قد تظن شخصاً یقول لک أتحدث مع محمود درویش مجنوناً، أنا لا أقصد التحدث معه، ولکن یجب أن أتحدث معه لأکون قد کتبت أدباً، أقصد أن أحکی عن حیاتی، ویجب أن یکون لدی القدرة والموهبة والجدیة لکی أنتج نصاً یستطیع أن یخاطب هؤلاء.
والجدوى؟ یمکن لأی شخص أن یقول لا یوجد جدوى، سوف أقول له نعم، ولو کنت تظن أنک عندما تقرأ أو تکتب قصیدة یمکنک أن تقود ثورة بالتأکید أنت مخطئ. الأدب لا یغیر المجتمع، الأدب یغیر الأدب، بمعنى أنه یغیر المجتمع بالمعنى العمیق، ولکن عندما نبحث عن جدوى مباشرة لا یوجد جدوى مباشرة.
أنا أکتب مقالاً أسبوعیاً لأنی أرید أن أعبر عن رأیی، لأنی مواطن ولیس لأنی أدیب. فأنا أعیش فی هذه البلاد، وهذه البلاد تستفز بداخلی قیم إنسانیة، وقیم رفض الظلم والاستبداد، من أجل ذلک أکتب المقال، حتى هذا المقال یقولون أنه مؤثر ولکنی لست متأکداً، ولکن لنفترض أن هذا مؤثر، ولکن الأدب تأثیره بالمعنى العمیق، تأثیره لیس غداً، الأدب مثل الفن، ما یفعله الأدیب أو الفنان یدفعک لرؤیة الأشیاء بطریقة مختلفة، دائماً هناک عمق، أو شیء خفی فی الأشیاء، تفاصیل لا نراها، ابن المقفع لدیه مثل جمیل جداً، یقول الأدب هو العامة والخاصة وهذا کان تعبیر العصر العباسی، أنک عندما ترى جوزة سوف تظنها کرة لتلعب بها، ولکن لکی تأکل الجوزة، یجب أن تکسرها، یجب أن تذهب إلى اللب، فالأدب یرینا اللب، ولکن أنا هدفی لیس أن أریک، لیس هدفی أو هدف أی کاتب آخر أن یُری الناس الجوهر، بالتأکید لا، أنا أبحث عن الجوهر، عن هذا الجزء الخفی من الأشیاء، إذا نجحت وکتبت نصاً، ممتاز، وقتها سیذهب القارئ معی إذا أراد، وقد یمل، وأنا أفهم هذا الأمر، ولکن بهذا المعنى الکتابة هی رحلة نحو أعماق الأشیاء، هی سفر نحو أعماق الأشیاء لنرویها.
کثیراً ما تدفع الأحداث السیاسیة والاجتماعیة المثقف لأخذ مواقف أخلاقیة ومثالیة جداً. کیف تقرأ هذه المواقف الیوم وما مدى أثرها على الواقع؟
صراحة، أنا أفتقد المواقف المثالیة للمثقفین العرب. لیت هناک مواقف مثالیة، نحن نفتقد هذه المواقف، الجمیع یعمل فی "NGOs" أو یعمل فی صحف النفط والغاز. ما یسمى موقفاً مثالیاً بالاسم خاطئ، یجب أن نسمیه مبدأیاً، أنا أشعر بأنی یجب أن أحافظ على إنسانیتی، لأننا فی زمن انهارت فیه القیم، بمعنى ماذا یعنی أن یقوم أحد بمجزرة حی التضامن، أن یقتلهم! یأتی الجیش الإسرائیلی ویقتل شیرین أبو عاقلة، أسفل الأذن، فی المکان الوحید الذی إذا أصابها به فستموت، لأنها ترتدی خوذة ودرعاً، رصاصة واحدة وقُتلت.
نحن فی مجتمعاتنا، وأظن فی العالم کله، مع سیادة النیولیبرالیة والرأسمالیة المتوحشة والعنصریة. بهذا الزمن أنا أشعر أن وظیفة الفن والثقافة هی أن تحمی معانی القیم، إذا لم یکن هناک معنى للقیم لن یکون هناک معنى للحیاة، وعندما یصبح الموت بلا معنى. ألم یقتلوا شیرین ورمیت على الأرض، وفی التضامن رُموا فی الحفرة، نحن نعطی هذه الأمثلة لأننا نعیشها الآن ولکن هناک أمثلة لا تحصى، ولکن عندما یصبح هذا الموت بلا معنى، هذا یعنی أن الحیاة لا یوجد لها معنى، على الأقل یجب أن نعید معنى الموت.
تصعد وزیرة خارجیة أمیرکا مادلین أولبرایت ویقال لها قتلتِ نصف ملیون طفل عراقی فی الحصار، وتقول "نعم یستحقون".. ماذا یعنی یستحقون! ما الذی یستحق قتل طفل واحد! فعلیاً لا شیء یستحق، نحن عندما نفکر أن الموت لا یوجد له معنى، نظن أن موت الآخر لا یوجد له معنى، وینتهی الأمر أن موتک لا یوجد له معنى، لعبة المعانی معقدة جداً، ولذلک أظن هذه مواقف مبدئیة ولیست مثالیة، هذه شرط أن أکون قادراً على الکلام، ماذا سوف أقول؟ کیف سأقول کلاماً صادقاً؟ وإلا أکون کاذباً، وإذا کنت أکذب علیک وأنت تعلم أننی کاذب وأنت تجاوبنی بأن تکذب علی وهکذا. وللأسف هذا هو مجتمعنا. لذلک نحن الآن فی لحظة یجب أن نعید المعانی إلى الأشیاء.
فی أغلب أعمالک الروائیة کان یطغى صوت الشخصیات على صوت الکاتب، لقد صدقنا نهیلة، ویونس، ویالو ومیلیا، هل تحدثنا عن البدایات کیف تبدأ بالعمل على روایاتک ومن أین تستمد الکتابة؟
أکبر إنجاز یقوم به الکاتب هو أن نتذکر أبطال روایاته وننساه، لو أخبرتک حدثنی عن "هاملت" سوف نتحدث ساعة، ولکن "شکسبیر" لا شیء. الکاتب لیس مهماً، نقطة الانطلاق والمهم هی الأبطال الذین یحکون تجاربهم والذین نرى کیف عاشوا حیاتهم، والذین یعیشون رحلة نحو الإنصات.
کیف تظهر الفکرة، فی کل مرة تظهر بشکل مختلف، مثلاً فی روایة "باب الشمس" لم أبدأ بکتابة النکبة، فکرت بکتابة قصة غرام، ومثل کل قصص الغرام عندما یموت البطل أو تموت البطلة سوف نفتقده، لا یوجد غرام إذا تزوجا، عند الزواج ینتهی الحب، لذا أردت أن أکتب قصة حب یونس ونهیلة، وکلما ذهب یونس لیرى نهیلة یقترب من الموت، هذه هی الفکرة، هکذا بدأ النغم بداخلی، ولکن عندما بدأت الکتابة، وبدأت أکتب لماذا یذهب، ولماذا نهیلة من دیر الأسد، والمخیمات ولماذا وصلوا إلى المخیمات، ظهرت بهذا الشکل الجدید، ولکن الهدف صدقاً هو قصة حب فقط.
برأیی هذا هو الحب، الحب هو حب رجل لامرأة صحیح، ولکن کتبتها کونها قصة حب أنا عشتها، أنا أحب هؤلاء الناس وأنا ذهبت وعشت فی المخیمات لأنی أحبهم، هؤلاء الأشخاص الوحیدون الذین أشعر بأنی مرتاح عندما أجلس معهم، أفضل من الجلسات المصطنعة مع المثقفین، هناک هی الحیاة، ذهبت لأننی أحبهم، فکتبت قصة حبهم.
لذلک برأیی الکتابة هی فعل حب، لا تستطیع الکتابة وأنت تکره، الکراهیة لا تصنع الکتابة، إذا کنت تکره اذهب واقتله لا تکتب عنه روایة، لذلک فعلیاً الروایة أو الأدب هو حکایة حب بالأساس، أنا هکذا أکتب لأنی أحب، وأنا فعلیاً عندما ماتت نهیلة تأثرت جداً وکأنه قد مات شخص أعرفه جیداً، لأنی أحببتها.
کل کتاب یظهر بشکل مختلف، أحیاناً یظهر فی موسیقى بدایة نغم، أحیاناً فی حکایة صغیرة، أحیاناً یظهر کحلم، کل مرة بطریقة مختلفة، ولکن بالبدایة، عندما یصبح لدیک تصور عن البدایة، الروایة سوف تأخذ شکلاً آخر لا علاقة له بالتصور، أنت سوف تطاردها ولیست هی من ستطاردک، لذلک کلما تقدمت فی العمر سوف تختفی، فهی عملیاً اختفاء للکاتب.
یقول تولستوی "موضوع التاریخ لیس ما یرید الإنسان، بل تصورنا لما یریده" وأنت فی روایاتک عالجت قضایا من تاریخ منطقتنا من خلال أحداث روایاتک. کیف تتعامل مع هذا التاریخ روائیاً؟
أنا لا أکتب تاریخاً، أنا أکتب روایة، وأنا لبنانی وبعد ذلک کنت فلسطینیاً وعملت معهم، هذان المکانان اللذان أنتمی إلیهما، أشعر أنهما بیتی، المکانان لیس لدیهما تاریخ، فلسطین تاریخها کتبه الإسرائیلی، ولبنان لا تاریخ له لأنه لا یوجد منتصر یوجد طوائف فقط، أنا لا أملک مشکلة مع التاریخ، برأیی الحکایة فی الصراع عندما نحکی فی الإطار الفلسطینی فحکایتنا کفلسطینیین سوف تهزم التاریخ الذی کتبه الإسرائیلیون، أنا أرى الحکایة أهم، لأن الحکایة هی الحیاة الیومیة للناس، هی المعاناة.
التاریخ هو تاریخ مصنوع، لا یوجد تاریخ غیر مؤدلج، وفی لبنان وحدها الحکایة التی بقیت، أتذکر أنی کنت فی ندوة وأتى "إمیل حبیبی" الذی أعتبره کاتباً عظیماً وأستاذاً لی، فقال لی: "کیف تکتب أسماء شخصیات یظهرون کمسیحیین ومسلمین" قلت لهُ "هم هکذا بالواقع" فقال لی: "لا تستطیع" فقلت له: "نحن مجتمع متعدد الطوائف ونحن نتحدث عن المجتمع ونتحدث عن الحرب ویجب أن نجرؤ على أن نسمی الأشیاء بأسمائها". لنعد إلى روایة "الوجوه البیضاء" التی عندما نشرت أدت إلى مشکلة لا نهایة لها، وأزعجت الکثیر من الناس، هی الحکایة کما هی فی الحقیقة ومستوحاة من الحیاة الاجتماعیة التی عشناها لسنوات فی الحرب قبل الغزو الإسرائیلی. برأیی الحکایة فی الحیاة اللبنانیة والفلسطینیة أهم من التاریخ، وبرأیی أن هذا ینطبق على سوریا، ومع تعاطفی الکامل مع الشعب السوری، ولکن سوریا أیضاً تاریخها مدمر.
غالباً ما یتحول الواقع إلى أدب، ولکن عندما أقام ناشطون فلسطینیون قریة "باب الشمس" لمقاومة الاستیطان رأینا کیف تحول الأدب إلى واقع، إلى أی حد برأیک أثر الأدب الفلسطینی على بناء الهویة الجماعیة الفلسطینیة؟
أرى أن الأدب الفلسطینی هو الذی صنع الهویة الفلسطینیة. الفلسطینیون تحطموا عام 1948، إعادة بناء الهویة بالمعنى الإنسانی تم عن طریق الأدب. الفلسطینیون قدموا محمود درویش وسمیح القاسم وجبرا إبراهیم جبرا وإمیل حبیبی وإدوارد سعید والکثیر، کانت هناک رؤیة أدبیة عمیقة، وأهم فکرة تم العمل علیها هی الفکرة التی نسمیها دائماً "فکرة فلسطین"، إن فلسطین فکرة، لیست فقط أرضاً أو تاریخاً ضائعاً، هی فکرة إنسانیة کبرى، الأدب الذی صنع وطور هذه الفکرة وتجاوزها بالمعنى الإنسانی العمیق. المراحل الأخیرة من حیاة محمود درویش على سبیل المثال، بدأ یخاطب المشکلة الإنسانیة فی العمق، یمکنک أن تکون فلسطینی أو فی أی مکان فی العالم، لکی تتماهى مع هذا النص الأدبی العظیم. أنا أرى دور الأدب والثقافة دوراً مفصلیاً، فی حالات التطهیر العرقی أو الإبادات الممارسة على الشعوب. الفلسطینیون تعرضوا لإبادة فی عدد لا یحصى من المذابح، وتعرضوا لتطهیر عرقی شامل فی المرحلة الأولى من النکبة وبرأیی الآن ما زال مهدداً بالتطهیر العرقی، ولا أحد یرید أن یسمع. هناک شعوب تعرضت لهذا النوع من الکسر، الثقافة یمکنها أن تحمیها، نقطة الحمایة هی الثقافة، البعض یقول إن الدین هو نقطة الحمایة وهنا یوجد صراع، ولکن برأیی الدین لیس نقطة حمایة، لأن الدین سلطة کیفما کان وفی أی دین کان، انظر إلى الدین الیهودی کیف یستعمل کأداة استعماریة، لذلک الثقافة هی الجزء الذی یحمی الوجود الذی یعتبر أهم من الهویة، الوجود الذی یدفعک لتشعر أنک جزء من الکل على الرغم من أن الکل انکسر، وهذا مستمر.
تأمل الکوفیة، الرموز الثقافیة الأساسیة، الکوفیة بدأت کهویة وطنیة عام 1936، الثورة بدأت بالریف، وبالریف یرتدون الکوفیة، فکان الجنود الإنکلیز فی المدن کلما رأوا شخصاً یرتدی کوفیة اعتقلوه، فارتدى الناس کلهم الکوفیة، هکذا أصبحت الکوفیة رمزاً، صنعها النضال. هنا تشعر أن کل العناصر الثقافیة بکل أبعادها وأهمها الأدب هی المکان الذی یدفع الناس للشعور رغم کل ما حدث، فی أنهم قطعة من جسد واحد، بهذا المعنى یکمن دور الثقافة أساسی.
تستمد روایتاتک موسیقى الشعر وأحیاناً کثیرة تبدأ به أو تتناول سیرة شاعر، حدثنا عن أثر الشعر ودوره فی بناء أعمالک.
أنا أحب الشعر کثیراً وأحفظه، وکان یستغرب أصدقائی الشعراء أنی أحفظ شعرهم أکثر منهم. عندما تقرأ کتاب "ألف لیلة ولیلة" الذی برأیی هو أهم کتاب عن العرب، یخبر الکتاب قصة ویستنتج الراوی، کیف یستنتج؟ إنه یستنتج من خلال أبیات من الشعر، کأن الشعر مسامیر فی النثر لکی تقبض على المعنى، هذا ما تعلمته من "ألف لیلة ولیلة"، یمکنک أن تقول إن الشعر فی الکتاب رکیک، وسأقول لک أکید، أنا أحبها لأنها رکیکة، لغة العامة، تعلمت أن أکتب کیف ندخل العامی فی الفصحى، ولکن المهم ضبط المعنى، النثر یتمم بالشعر.
العلاقة بین النثر والشعر علاقة مهمة بشکل أساسی فی الثقافة العربیة، لأنه لا یمکنک أن تفصلهما عن بعضها البعض، أن تقرأ نصاً نثریاً ثم تستشهد بالشعر، هکذا من العصر العباسی لدى کبار کتّاب العصر العباسی، وکذلک کبار کتّاب الأندلس، هذه العلاقة فی الحداثة اختفت لدى کتّاب النثر، فقمت بها بشکل غیر مقصود، وزادت مع الوقت، ولفترة صارت جزءاً بنیویاً من النص، لیست فقط للقبض على المعنى، مثل روایة "کأنها نائمة". فی الروایة میلیا تحلم، ومنصور زوجها، کی یقوم بتوازن مع لاوعی زوجته، یقول الشعر، فالشعر هو من یقود التوازن فی النص، وهو جزء بنیوی من النص النثری بالنسبة لی، وبالتأکید هذا اجتهادی، البعض یقول لا هذا غیر ضروری.
قلت عن تجربة الکتابة "إن الکتابة فی جوهرها هی رهان عبثی مع الزمن والنسیان." بعد کل ما کتبته وتکتبه الآن کیف ترى رهانک الیوم مع الکتابة؟
ما زال رهاناً مع العبث. لأن هناک صراعاً دائماً مع العبث، العبث جزء منا، والکتابة مثل الحیاة، والحیاة هی رهان عبثی، مع العبث، ضد العبث، داخل العبث. تسألنی لنصل إلى أین؟ أقول لک لا أعلم، ولکن یمکننی أن أقول لنصل للمعنى. ولکن هل هذا یبقى؟ لا أظن. هناک أشیاء لا نفکر فیها، مثل أن اللغات تنقرض، نحن کلنا کشعوب سوف ننقرض، قبل القرن التاسع بعد الفتح العربی کنا نتحدث بالسریانیة، ونکتب بالسریانیة، ولغتنا العامیة فیها جزء سریانی، ولکن اللغات معرضة للانقراض، وهذا شیء مخیف. لو أن هدفک الخلود، هذا برأیی شیء آخر، الخلود عبثی، لا یوجد خلود، الکل یعلم أن الأرض کلها سوف تزول، بالطبیعة ولیس فی الدین، ولکن بقلب هذا العبث أنت وظیفتک أن تمسک المعنى، لذلک هناک صراع مع العبث، وبعد ذلک سوف نموت، وهل هناک شیء عبثی أکثر من الموت، الوضع متداخل ولیس بسیطاً. ولکن هو کذلک.
أنت الآن تعمل على روایة جدیدة هی الجزء الثالث من روایة "أولاد الغیتو". حدثنا عن موعد صدورها وکیف کانت تجربة العمل علیها ؟
سوف تصدر فی شهر تشرین القادم، کان العمل علیها صعباً جداً، بسبب ظروف کورونا، والانهیار اللبنانی کان قاتلاً جداً، هذا الجانب کان صعباً جداً، ولکن هی روایة سلسة لتختم الثلاثیة، ونخرج من قصة "آدم دنون" الذی أودّعه بالکثیر من الحزن، بعد أن صرنا أصدقاء جداً على مدى تسع سنوات. فی کل مرة کانوا یطلبون منی المخطوط کنت أحاول أن أؤجل لکی یبقى عندی فی البیت. تقریباً انتهت الروایة، ونهایة الروایة مثل نهایة أی شیء آخر فیها الکثیر من الحزن، ولکن آدم الآن لدیه حیاته.
نحن فی ذکرى مرور نصف قرن على اغتیال الکاتب غسان کنفانی، کیف نقرأ ما کتبته الشهید غسان کنفانی الیوم ؟
غسان کنفانی هو أهم من صنع اللغة والحدثیة الفلسطینیة، ومعه محمود درویش، غسان کنفانی رسم الرموز الأولى التی لها علاقة بالأرض، مثل البرتقال، رسم الربط الأول مع الفلسطینی الذی طرد من بلده، غسان هو بدایات الأدب الفلسطینی وأستاذنا جمیعنا.
أهمیته أنه طرح علینا أسئلة کبرى، إن کان فی "رجال فی الشمس" "لماذا لم یطرقوا جدران الخزان؟" أو الأعمال التی تطرقت إلى معنى الهویة، بالتالی برأیی غسان هو الوعاء الأول الذی ینتدب فی الأدب الفلسطینی، وبالتأکید بعد غسان هناک روائیون یلعبون دور أساسیاً مثل إمیل حبیبی وجبرا إبراهیم جبرا، الذین أعطوا إیقاعاً للمعنى الفلسطینی على مختلف المستویات.
غسان هو المخیم، أول من کتب المخیم وشخصیاته وکأنها على المسرح، شخصیات "رجال فی الشمس" کأنها على المسرح، و"عائد إلى حیفا" تأمل أحداثها کأنها على مسرح، فأنت أمام مکان استجمعت فیه عناصر الحکایة الفلسطینیة، وما علینا نحن الروائیین الذین أتینا بعد غسان کنفانی سوى أن نَفرط هذه العناصر ونتوسع بها ونعید کتابتها، وهذا دلیل على أنه معلمنا، وهو لمعة لحظات فنیة کبرى، ویجب أن نحبه کما هو، وأهم شیء أن نتعلم منه کما هو.
"إسرائیل صارت دولة أبارتهاید، سواء تم الضم القانونی أم لم یتم، ویجب أن یبدأ النقاش الفلسطینی من هذه النقطة، لیعید طرح مسألة مقاومة الاحتلال کخیار وحید." هذا الاقتباس من مقالتک "الأبرتهاید والنکبة المستمرة" بحسب عملک فی مؤسسة الدراسات الفلسطینیة کیف ترى أن من الممکن مواجهة هذا المشروع العنصری الصهیونی أکادیمیاً وثقافیاً؟
أولاً الأکادیمیة على المستوى الفکری، هی کیف نصیغ الفکرة، ولکن الأبرتهاید مکشوف، بالأمس نائب بالکنیست الإسرائیلی یقول: "یجب على الفلسطینیین ألا ینسوا النکبة وإن نسوها فلیسألوا أهلهم". الجهد الذی بذل فی الخمسینات والستینات، وأنا برأیی أستاذنا ولید الخالدی بذل جهداً کبیراً، فی الخطة "دالت" وسقوط حیفا لیبرهن أنهم طردونا بالقوة، لأن الروایة الإسرائیلیة کانت أن الفلسطینیین هم من رحلوا، الآن اختلف الوضع، فالإسرائیلی یقول نعم هناک خطة طرد وماذا بعد! الآن بینی موریس الذی یعتبر کبیر المؤرخین الإسرائیلیین کتب "دولتی کانت على خطأ لأنها لم تکمل على الضفة". الإسرائیلیون یقولون نحن عنصریون، لا نحتاج إلى مجهود، فی مسیرة الأعلام هتفوا "الموت للعرب" وشتائم للنبی محمد، وکأن النبی محمد على قید الحیاة!
الإسرائیلی یقول أنا عنصری، لقد قمت بالنکبة ومستعد أن أقوم بنکبة أخرى فی أی لحظة، ویمکننی أن أقتلک، فأنا قاتل، هذا ما یقوله. لذلک یکون المجهود فی کیف نصیغ، نعود لنصیغ فکرة فلسطین، هذا هو الجهد الفکری المطلوب منا الآن، أن نصیغ فکرة فلسطین لیس کفکرة نضال ضد الاستعمار فقط، بل کفکرة إنسانیة، لأن برأیی الآن فی فلسطین یجتمع کل الموقف الإنسانی فی العالم، فإما أنت إنسانی أو أنت عنصری فاشی وتدعو إلى التفوق الأبیض.
المعرکة هی فی الصیاغة وأنا أظن أنها معرکة طویلة جداً، لن تنتهی غداً، نحن أمام تحولات ووضع تاریخی یشبه الحروب الصلیبیة، الصلیبیون ارتکبوا فظائع، طردوا وقتلوا کل سکان المدن الساحلیة، إذ کتب أمین معلوف فی کتابه "الحروب الصلیبیة کما رآها العرب" أنهم کانوا یقومون بشواء الأطفال، لقد ارتکبوا فظائع. ونحن واضحون، هل هناک أسوأ من "أوسلو" ما هی "أوسلو"؟! "أوسلو" تعنی الاستسلام، تعنی أن الفلسطینیین استسلموا، قال لهم الإسرائیلیون نرفض استسلامکم، ماذا یعنی؟ تخیل الیابان فی الحرب العالمیة الثانیة قال لهم الأمریکان نرفض استسلامکم، ماذا یعنی، یعنی أنهم سوف یبیدونهم. الفلسطینیون استسلموا ولکن استسلامهم لم یکن فیه الأکثریة الکافیة، على الرغم من معارضة المثقفین، ولکن منظمة التحریر کانت تمثل الشعب الفلسطینی قالت أعطونا دولة تمثل 22 بالمئة من الوطن، ماذا یعنی؟ إبادة أو طرد، والمشروع هو مشروع طرد. مناحیم بیجن خلال غزو لبنان فی حزیران، یقول إن فلسطینیی لبنان یجب توزیعهم على لیبیا والعراق یعنی أن نطردهم، استخدم هذه العبارة "الحل النهائی" هی عبارة لم تستخدم إلا من قبل النازیین بالحدیث عن الیهود، "الحل النهائی" لمسألة الیهود فی أوروبا هو إبادتهم. الطرد الآن هو الموضوع، فأنت لست بحاجة لتبرهن شیئاً، بل بحاجة لإعادة صیاغة فکرة فلسطین، کفکرة نضال إنسانی ضد الاحتلال والقمع والعنصریة والتطرف، هذا هو النضال، إذا کنا فعلاً نرید تحریر فلسطین.
الفنون الفلسطینیة تضیء على تجارب جدیدة فی الروایة والشعر والرسم جمیعها تستمد دورها من الحاضر الفلسطینی. کیف تقرأ التجارب الجدیدة فی الأدب الفلسطینی؟
إننی أرى تجارب هائلة، هناک تجارب تدفعنی للشعور بالفخر، مثل روایات أکرم مسلم. تشعر بالنشوة، والسینما، وتجارب الشباب فی السینما، تجارب متنوعة فی الشعر والأدب، أسماء وتجارب رائعة لا تنتهی… وأنا برأیی أن الشعب الفلسطینی حی، وینتج ثقافته، الثقافة فی فلسطین لم تمت، سوف یبقى الأدب، والیوم یکتبون أحسن منا، لأن الحیاة أقوى من الموت، الرهان هو على الحیاة، وحتى اللبنانیون والعراقیون والسوریون، الشعب والثقافة فیهم حیة وتتجدد، لذلک لا أملک أی خوف على مستقبل الثقافة فی فلسطین والعالم العربی، الخوف هو من استمرار الاستبداد والقمع وتشرید المثقفین، وافتتاح مجلاتنا وصحفنا مثل "رمان" فی المنافی.
أخیراً أستاذ الیاس خوری سؤال الأمل والیأس. من أین تستمد الأمل، وأین یمکن أن نذهب بکل هذا الیأس الذی تفرضه حالة التفتت العربیة والفلسطینیة؟
أنا لا أحب کلمة أمل، کلمة سخیفة، أنا استخدم کلمة حلم، کلمة الأمل تأتی من نتأمل فی الحاضر، الحلم حر أکثر، وفی حاضرنا لا شیء یستدعی الأمل، ونحن لا نعیش الیأس إننا نعیش ما بعد الیأس، ما بعد الیأس یعنی أن نبحث عن حلم جدید، لا یعنی أن نستسلم، نحن بحاجة أن نحلم، مشکلتنا أننا انحبسنا فی أطر فرضت علینا من قوى الاستبداد والاحتلال والقمع، ونحن نلعب فی قلب هذا الحبس والسجن لکی نخرج منه، وأنا برأیی الحلم یتجدد لذلک یجب أن نجدد أحلامنا، ولدی ثقة أن هناک حکمة فی الحیاة، أن هذا الظرف الراهن لن یدوم، حقنا فی هذه المرحلة الصعبة أن نبدأ ببلورة الأحلام الخاصة بنا والرؤى لتساعدنا على تحمل هذه اللحظات التی لا تحتمل، أنت تعیش فی لبنان وتعرف أن الوضع لا یحتمل، والذین یعیشون فی سوریا أسوأ، وفی فلسطین أیضاً، وکل المشرق العربی، لذلک یجب أن نستجمع طاقاتنا لنحلم بشیء جدید لنتجاوز ما تعیش فیه، وبرأیی أن الحیاة سوف تصنع نفسها من جدید، لن تتوقف هنا.
نقلا عن مجلة الرمان الثقافیة