"عندَ التّفکیر فی أسماء الرحّالة الجریئین الذین عاشوا فی القرون الماضیة، فإننا لا نضع فی الغالب أسماءَ نساءٍ مُسلِمات فی رأس القائمة. ولکنَّ الروایات المُذهِلة، المأخوذة من مصادرها الأصلیة، التی تضمّها هذه المجموعة تقلبُ، تمامًا، الأفکارَ والتصوّرات المُسبَقة حول مَن الذی کان یستکشف العالَم" فی حقیقة الأمر. بهذه العبارة الجریئة، أیضًا، تُقدِّم مطبعةُ "جامعة إندیانا الأمیرکیة"، کتابَها الموسوعی "ثلاثة قرون من أدب الرحلات المکتوب من طرف نساء مُسلِمات"، الصادر، فی 532 صفحة من القطع الکبیر، مزدانة بالرسوم والصور، أواخرَ عام 2022، إلى جمهور القرّاء بوصفه مرجعًا "مثالیًّا لأولئک المهتمّین بالجندر، والإسلام، وأدب الرحلات، والتاریخ العالمی"، فضلاً عن أنّهُ "یقدِّم نظرة ثاقبةً على الکیفیة التی اختبرت بها تلک النسوة الجریئات العالم، بأصواتهنَّ وحدهنّ". إنّها أنثولوجیا رائدة، بکلّ ما تنطوی علیه هذه العبارة من معنى، لا تقع فی دائرة اهتمام جمهور بعینه، فحسب، وإنّما تتّسع الدائرة لتشمل المهتمّین "بالتاریخ الکولونیالی، والأدب المقارن، والدراسات الإسلامیة"، على حدّ قول میرین شوبانا زاڤییه، الأستاذ المساعد بکلیة اللاهوت والدراسات الدینیة فی "جامعة کوینز".
ولیست هذه الجُرأة فی الطّرح جزافیّة، ولا ولیدة صدفة أو حماسة زائدة، بل نتاجُ عمل دؤوب من بحث معرفی ومیدانی شاقٍّ، دام سبعة أعوام، نفضَ الغبار، وأماطَ اللّثام، عن کتاباتٍ شبه منسیّة (منذ القرن السابع عشر وصولًا إلى القرن العشرین) فی أدب الرحلة الذی کتبتهُ 45 امرأة مُسلمة (ملکات وأمیرات وإماء وحاجّات ومتمرِّدات)، ثُمّ عمد أساتذة مُبرِّزون إلى ترجمة هذه السردیّات عن عشر لُغات أصلیّة (کالعربیة والترکیة والأوردیة، والبنجابیة، على سبیل المثال)، وتعلیق الشُّروح اللازمة علیها.
أنثولوجیا تُقاطِع بین الأدب المقارن وتاریخ الاستعمار
ففی التمهید للکتاب، یُقرّ المؤلّفون بأنّ المشروع لم یکُن لیظهَر إلى حیّز الوجود لولا "الجهد الجماعی" الکبیر، الذی بذلته أطراف مختلفة، بمنحة مادیّة وفّرها "صندوق لیڤرهیوم" فی المملکة المتحدة، ودعم مالی قدّمته أیضًا "جامعة نورث وسترن" الأمیرکیة. ولم یقتصر الجهد المبذول على مُحرِّری الکتاب الثلاثة، المُشرفین على المشروع منذ البدایة (شَڤان لامبرت - هیرلی، ودانیال مایخروفتش، وسونیل شارما)، ولا على المُساهمین السّبعة الآخرین الذین عکفوا على إنجاز موادّه المختلفة وتهیئتها للنشر، بل تعدّاه لیشمل، أیضًا، لجنة إقلیمیّة موسَّعة من خبراء ومختصّین فی شتّى حقول المعرفة.
وفیما تذکُر الحولیّات التاریخیة العالمیة أنَّ النمساویة إیدا فایفر (1797 - 1858)، هی أوّل امرأة فی التاریخ تُسافر وحدها، فی عام 1841، راکبةً البحر، مُدوّنةً تفاصیل رحلاتها تلک فی دفاتر یومیات، تُرجمت، فیما بعد، إلى سبع لغات عالمیة. نعم، لقد سافرت وحدها، بلا رفقة تقیها وعثاء السَّفر أو تدرأ عنها أخطاره، ولکنَّها طاردت الحلم الذی طالما راودها منذ الصّغر، بِـ"السّفر إلى أماکن أجنبیّة"، وهذا ما یجعلها فریدة فی تاریخ الأدب والمغامرة، على حدٍّ سواء (حیث لم تکُن ضمن بعثة استکشافیة یقودها الرجال، على شاکلة الفرنسیة جان بارییه (1740 - 1807)، على سبیل المثال، التی تنکّرت فی زیِّ رجل، والتحقت بحملة الملّاح الفرنسی لویس أنطوان دو بوغنڤیل (1729 - 1811) لِتُعَدَّ، فی وقت لاحق، أول امرأة تجوب العالم فی رحلة "طوافٍ بحریّ" طویلة امتدّت من سنة 1766 ولغایة 1769. إلّا أنّنا ما زلنا نجهل، لغایة الیوم، أیَّ معلومات إضافیّة عن مؤلِّفة "أوّل مَرویَّةِ أسفارٍ معروفة"، صنعتها امرأة مسلمة، سوى أنها کانت تُلقَّب بِـ"سیّدة أصفهان"، فیما یُشیر النّاسخ إلى أنّها کانت أرملة المیرزا خلیل، صاحب المنصب الرفیع فی دولة آخر ملوک الصفویّین، شاه سلطان حسین (1697 - 1722) على حدِّ قول الإیرلندیة شَڤان لامبریت - هیرلی، أستاذة التاریخ العالمی فی "جامعة شیفیلد"، بالفصل الأوّل، من هذا الکتاب الذی لم یُسبَق إلى مثله.
ولکنَّنا سنعلم، بالرجوع إلى أصل مخطوط مرویّات "سیّدة أصفهان"، هذه، التی کانت سلیلة إحدى العائلات الأدبیة المُنتمیة إلى مدینة أردوباد فی أذربیجان الحالیّة، والتی عُرفت، کذلک، باسم "بلقیس الزمان وخدیجته" (إشارة إلى بلقیس، ملکة سبأ، وإلى خدیجة، زوجة النبی محمد)، أنَّ رحلتها کانت إلى الحجاز فی وقت غیر معروف على وجه الضّبط، أواخر القرن السابع عشر (حوالى عام 1700). وبذلک، تکون قد سبقت إیدا فایفر وجان بارییه، لیس أسبقیَّةَ سفرٍ وترحال (وحدها، فی بدایة رحلتها، التی دامت سبعة أشهر، دون أن یُرافقها أحد من محارمها أو أقربائها، کما تُشیر لامبرت - هیرلی، مستندةً إلى مرویّاتها، ولکنّها التحقت بقافلة حجیج بعد ذلک بفترة)، إنَّما أسبقیّة تدوینٍ للمشاهداتِ وعجائبِ الأسفار أیضًا؛ وهذا ما یفسِّر الحدیث عن "جرأة" العبارة التی افتتحنا بها هذه المقالة، من حیث إنّ هذا الکتاب یقلب تمامًا الأفکار والتصوّرات المسبقة، رأسًا على عقب، حول مَن الذی کان یستکشف العالَم فی حقیقة الأمر!
ولیس هذا فحسب، بل إنَّ رحلتها، تلک، التی شرعت بها، فی الأصل، کی تتعافى، بالسَّفر، من آلام حزنها الشدید لموت زوجها، کانت تُوصَف فی ذلک الوقت بأنَّها "خَطِرةٌ وباهظة الکُلفة من الناحیة المادیَّة" ما یجعلها، فوق کلّ ذلک، امرأة مغامرة فی غایة الجسارة! یومیات رحلات "سیدة أصفهان" الفریدة، هذه، کُتِبتْ منظومةً ("سفرنامة منظوم" safarnamah-yi manzum) فی 1200 بیتٍ مَثْنَوِیِّ القافیة masnavi (تتساوى القوافی، فی النَّظم المثنویّ أو المزدوج، فی البیت الواحد، بخلاف النّظم التقلیدی الذی تتساوى فیه القافیة فی القصیدة کلّها)، ولا توجد نسخة منه إلّا فی "کتابٍ" (جنگ، بالفارسیّة) بلا عنوان محدَّد، یضمّ "مجموعة Majmu’ah" مخطوطاتِ نصوصٍ فارسیّة، من القرنین السادس عشر والسابع عشر، تحتوی على قصائد ورسائل وکتابات متفرِّقة أُخرى، محفوظة فی وقتنا الرّاهن لدى متحف الفنون فی "جامعة هارڤرد".
وفی حین أنَّ إیدا فایفر قد طاردت حُلمها الطفولی، فانطلقت، لتحقیقه، فی رحلتها الطویلة الأُولى إلى إسطنبول (من طریق نهر الدانوب، ثمّ إلى القدس، متوقّفةً فی قبرص وبیروت وحیفا، من بین مدن أُخرى. ثم العودة إلى بیروت فی العاشر من تموز/ یولیو عام 1842، مُبحرةً إلى مصر، فزارت الإسکندریة والقاهرة والبحر الأحمر، قبل أن تقفل عائدة إلى روما. ثمّ، بعد سنتین، تنشر یومیاتها فی النّمسا، فی مجلّدین، تحت عنوان "رحلة امرأة من فیینّا إلى الأرض المقدسة")، فإنَّ المرأة المسلمة "الجریئة" قد حلمت بأنْ تُخلِّدَ ذِکْرَها بالکتابة عن أسفارها.
أسبقیّة النساء المسلمات فی تدوین مشاهد وعجائب الأسفار
ففی "مَظاهِر النُّور" (تجلیّات الأنوار العَلِیّة/ السماویّة) نقرأ الأبیاتَ التالیة التی نظمتها البیغوم نُور (أترجمها، هُنَا، عن الإنکلیزیة): "سأکتبُ کُتُبًا وأنظمُ شِعرًا طیلةَ حیاتیْ/ لَنْ أندمَ البتَّةَ، وإنْ تقوَّلوا علیَّ الأقاویلَ وأنَّبُونِیْ/ لا أولادَ لِی فی هذهِ الدُّنیا، ولکنَّ هذا النِّداءَ الإلهیَّ یدعُونِیْ/ یظلُّ ذِکْرُ المرءِ سائرًا فی عَقبهِ، ولکنَّ إرثی سوفَ یکونُ/ فَلْیَطِرْ ذِکْری، بِمَا أکتبُ، إلى یومِ القیامةِ/ وَلْیُنجِّنِی اللهُ، فی ذلکَ الیومِ، مِن جمیعِ الکُرُبَاتِ". ولتحقیق هذه الرغبة فی الخلود بالقصیدة/ الکتابة فی الزّمن، مستجیبةً إلى ذلک النداء الجوّانی، الذی أفصحت عنه فی الأبیات الآنفة، شرعت هذه المرأة، المولودة فی قریة صغیرة بالبنجاب فی الهند، فی رحلة حجّ إلى مکّة فی عام 1931، مُدوّنةً مُشاهداتها وانطباعاتها فی أشعار خلتْ تمامًا من أیِّ ذِکْر لزوجها الذی رافقها، هو ووالدتها، فی تلک الرحلة التی دامت أشهُرًا ثلاثة.
والمرأة العربیة حاضرة فی هذه الأنثولوجیا بمدوَّنات ثلاث نساء ذائعات الصِّیت فی السردیّات التاریخیة: الأولى هی السیِّدة سالمة بنت سعید (1844 - 1924)، ابنة السلطان العُمانی حینها. جاء الفصل المخصّص لتجربتها تحت عنوان "هروب عاشقة من زنجبار". وکانت الأمیرة سالمة قد هربت من زنجبار، فی عام 1866، بعد أن ظهرت إلى العلن علاقتها برودلف هنریش رویته، التاجر الألمانی الذی کان یُقیم فی زنجبار ویُتاجر فیها، فهربت إلى عدن، بمساعدة القنصل البریطانی. ثُمّ غادرت عدن، فی عام 1867، إلى هامبورغ، برفقة رودلف، واعتنقت المسیحیة، بزواجها به فی العام ذاته، وبات اسمها الرسمی "إیمیلی رویته"، على الرغم من تصریحها فی أکثر من رسالة إلى شقیقتها بأنها قد بقیت مسلمة فی السرّ.
یُورد الکتاب ثلاثة نصوص من أعمال السیِّدة سالمة؛ الأول من کتابها "رسائل إلى الوطن" Briefe nach der) Heimat)، وهو مجموعة رسائل لم تنشر إلّا فی الفترة الأخیرة، بحسب ما تذکر شَڤان لامبرت - هیرلی، فی مقدّمتها لهذا الفصل، والتی یُعتَقد أنّها کُتبت فی فترة ما بعد عام 1888، مخاطبة "صدیقة عزیزة" فی زنجبار، مجهولة الهویة إلى الیوم. وأمَّا النّصان الآخران فَمُستلَّان من المجلّد الأول من مذکّراتها المنشورة فی الأصل تحت عنوان "مذکرات أمیرة عربیة" (Memoiren einer Arabischen Prinzessin)، التی هُیِّئَتْ للنشر، بحسب ما تقول المؤلفة نفسها فی المقدّمة، فی برلین، شهرَ أیار/ مایو من عام 1886. ولکنَّ النصوص الثلاثة الواردة فی الکتاب، منقولة عن الصنعة الإنکلیزیة للطبعة الثانیة المنشورة فی عام 1907 (صدرت الطبعة الأولى فی نیویورک سنةَ 1888)، والتی أنجزها لیونیل ستراتشی. (وأعید نشر الترجمة ذاتها فی طبعة إنکلیزیة ثالثة فی عام 2009، تحت عنوان "مذکّرات أمیرة عربیة من زنجبار")، وثمّة کتاب آخر، جمع أعمالها کاملة، نُشر بالإنکلیزیة فی لایدن، سنة 1992، ضمن سلسلة التاریخ الإسلامی والحضارة الإسلامیة التی تصدرها "دار بریل" العریقة، تحت عنوان "أمیرة عربیّة بین عالمَیْن: مذکّرات، ورسائل إلى الوطن، وتکملاتُ المذکّرات، وعاداتٌ شامیّة وأعْرُف".
ولم تُنقَل هذه المذکّرات إلى العربیة، إلّا بعد نحو قرن من الزمان على صدورها بالألمانیة، حین عثر عبد المجید حسیب القیسی على نسخة منها بالإنکلیزیة، صدفة، فعکف على ترجمتها، لتصدر فی عام 1983 عن وزارة التراث القومی والثقافة فی مسقط سنة 1983، تحت عنوان "مذکرات أمیرة عربیة: بقلم السیِّدة سالمة بنت السیّد سعید بن سلطان، سلطان زنجبار وعمان" (وفی طبعة عاشرة سنة 2016)؛ وترجمتها سالمة صالح، نقلًا عن الأصل الألمانی، هذه المرّة، نشرتها "دار الجمل" فی عام 2002 (وفی طبعة ثانیة سنة 2006) تحت عنوان "مذکّرات أمیرة عربیة"، ثُمَّ صدرت فی جزء ثانٍ، بعنوان "رسائل إلى الوطن"؛ وفی جزء ثالثٍ بعنوان "مذکّرات أمیرة عربیة ــ تکملة المذکّرات"، بتوقیع زاهر الهنائی، نقلًا عن الألمانیّة أیضًا، وصدرا، على التتابع، عن الدار نفسها، عامَی 2016 و2017.
بحث معرفی ومیدانی أماطَ اللّثام عن کتاباتٍ شبه منسیّة
والمرأة العربیة الثانیة هی المصریّة هدى شعراوی (1879 - 1947)، رائدة تحرُّر المرأة الشرقیّة والمُدافعة الشرسة عن حقوقها، ولا سیما رحلتها المفصلیَّة إلى روما، فاستهلَّ مؤلِّفو الکتاب مُقدمةَ الفصل المخصّص للحدیث عنها، والمعنون بـ"صیف أوروبی عشیّة الحرب"، بوصفِ لحظة وقوفها على سطح السفینة وخلعها الحجاب وإلقائه فی البحر، بعد حضورها وقائع المؤتمر الأوّل الذی عقده "الاتّحاد النسائی الدولی" هناک فی عام 1923. یسرد الکتاب، فقط، تفاصیل رحلتها إلى إسطنبول 1905، وإلى باریس 1908 (1909، بحسب طبعة "مؤسسة هنداوی" الصادرة فی القاهرة عام 2013)، وإلى أوروبا 1914. تفاصیل رحلات شعراوی، هذه، مذکورة فی "مذکّراتها" التی نُشرت، لأوّل مرة، فی "مجلة حوّاء" سنة 1980، ثم صدرت ضمن سلسلة "کتاب الهلال"، بعنوان "مذکّرات رائدة المرأة العربیة الحدیثة هدى شعراوی"، فی عام 1981، وهی الطبعة التی استند إلیها الکتاب فی ترجمة النصوص الثلاثة التی أوردها، انطلاقًا من الترجمة الإنکلیزیة التی صنعتها الأمیرکیة مارغو بدران (الحاصلة على دبلوم اللغة العربیة من "جامعة الأزهر" فی القاهرة)، وضمّنتها کتابها الصادر عن دار "ڤارغو" فی لندن بعنوان "سنوات الحریم: مذکرات نِسویّة مصریة" فی عام 1986.
وأمَّا المرأة العربیة الثالثة، فهی المصریّة، أیضًا، أمینة السَّعید (1914 - 1995)، أوّل امرأة تتخرّج من "جامعة فؤاد الأوّل" ("جامعة القاهرة" فی الوقت الراهن) فی عام 1935، وأوّل امرأة ترأسُ، فی عام 1954، تحریرَ مجلّة معنیّة بشؤون المرأة، "مجلة حوَّاء" (التی بلغ معدل توزیعها 175000 نسخة فی تلک الأوقات)، وبقیت فی رئاسة تحریرها نحو عشرین عامًا؛ وأوّل امرأة ترأس مجلس إدارة "دار الهلال" العریقة فی عام 1976؛ وأوّل امرأة تنتخب عضوة فی مجلس "نقابة الصحافیّین" فی العام ذاته، شاهرة قلمها، مطالبة بحقوق المرأة، بشراسة منقطعة النّظیر، مُتصدِّیةً، بجرأة، فی وجه المدّ الأصولی المتطرِّف الذی بدأ یغزو المجتمع فی سبعینیات القرن العشرین. خُصِّص لأمینة السّعید فصلٌ بعنوان "نِسویَّةٌ مصریّة فی مؤتمر هندیّ". یتطرّق الکتاب إلى الرحلة التی قامت بها إلى الهند لحضور مؤتمر نساء عموم الهند، فی أواخر عام 1945، وبدایة عام 1946. تفاصیل هذه الرحلة مسرودة فی کتاب أمینة السعید الصادر عن "دار الهلال"، ضمن سلسلة "اقرأ"، فی عام 1946، بعنوان "مُشاهدات فی الهند". وعلى هذا الکتاب، استندَ غریغ حلبی وجیحون أرسلان فی تهیئة وصناعة النصوص الإنکلیزیة التی ضمّها الکتاب.
ویذکر دانیال مایخروفتیش وشَڤان لامبرت - هیرلی، فی حواشی مقدّمة الکتاب التی جاءت تحت عنوان "النساء المُسلمات، وأدب الرحلات، وثقافات السَّفر والتِّرحال"، أنّ القائمین على هذا المشروع الضّخم لم یتسنَّ لهم الاطلّاع على أعمال عائشة الباعونیة، الشاعرة الصوفیّة الدمشقیّة من القرن الخامس عشر المیلادی، إلّا فی المراحل الأخیرة، لذلک لم یضمِّنوها الکتاب، وهی التی وصفت، على حدِّ قولهم، رحلتَها إلى الدّیار المقدّسة بروحانیّة شفیفة. ولم یُغفلا الإشارة، أیضًا، إلى عدم تمکِّنهما، للسّبب ذاته، من الحدیث عن رحلة العُمرة التی قامت بها، فی منتصف القرن العشرین، المصریّة بنت الشّاطئ (1913 - 1998)، ولا سیَّما أنّها کانت موضوعةَ دراسةِ ریتشارد ڤان لیڤین، المعنونة "فی أرض المعجزات: رحلات الحجّ التی قامت بها بنت الشاطئ"، والمنشورة فی کتاب "رحلات الحجّ والزِّیارات التی قامت بها النساء المُسلمات إلى مکّة وما بعدها"، تحریر مارغو بایتولار وآخرین، الصادر فی لندن عام 2020.
ولم یقتصر حضور الشّاعرات فی هذا الکتاب على "سیِّدة أصفهان" والبیغوم نور، بل نطالع، أیضًا، على سبیل المثال، نصوصًا واسعة، مُستلّة من یومیات الشاعرة والروائیّة الترکیة شکوفه نهال بشّار (1896 - 1973) التی کانت تُتقن، إلى جانب اللغة الترکیة، ثلاثَ لغات أُخرى (الفرنسیة والعربیة والفارسیة) وساهمت، على نحو بارز، فی حرکة تحرّر المرأة فی أثناء حقبة بناء الهویة القومیة الترکیّة، ولکنّها، للأسف، ماتت فقیرة ووحیدة! یرکِّز الکتاب على یومیّات رحلتها إلى فنلندا سنة 1932، حیث تسردُ الأحداثَ بلغةٍ، وصفتها روبیرتا میکالیف، فی مقدّمتها للفصل العشرین، المعنون "ثلاثة أیام فی فنلندا"، على أنّها "شعریّة، تُشبه لغةَ الأحلام".
نصوص لشاعرات وأمیرات ومتمرّدات تجمع الأدب بالمغامرة
تکتبُ شکوفه، وهی الشاعرة التی نشرت مقالتها الأولى فی عمر الثالثة عشرة، وقصیدتَها الأولى بعد ذلک بأربع سنین، قائلةً، وفقَ النص الإنکلیزی الذی صنعته روبیرتا میکالیف، نقلًا عن الأصل الترکی الصادر فی عام 1935: "حَیَّتْنَا فنلندا بابتسامةٍ وردیَّةٍ... ابتسامةٍ صافیةٍ، دمثةٍ، تُشبهُ القصیدة... خُیِّلَ إلیَّ أنَّنی فی حضرةِ وجودٍ عظیمٍ إلى حدٍّ بعیدٍ. فَارتعشَ قلبی رعشةً طافحةً بالمهابةِ والوقار". یقع الکتاب فی أربعة أقسام رئیسة: "التِّرحال أداءً لمناسک الحجّ"؛ و"الترحال رغبةً فی الانعتاق والتحرّر وممارسةً للسیاسیة"؛ و"الترحال طلبًا للعِلم"؛ و"الترحال أداءً لواجبٍ أو سعیًا وراء متعة شخصیّة". وتقع هذه الأقسام الأربعة فی 45 فصلًا، یحمل کلّ فصل فی عنوانه اسمَ امرأة من النّساء الخمس والأربعین اللواتی یتناول سِیرَهنَّ الکتابُ بطریقة إبداعیة؛ فکلّ فصل یحتوی على مقدّمة، وتحلیل نصیّ، ومقتطفات من أدب الرحلة والیومیات التی کتبتها کلُّ واحدة منهنّ. إنّهُ، حقًّا، کتاب نفیس، نأمل أن نرى له ترجمةً عربیّة - مرخَّصةً حسب الأصول - فی المستقبل القریب!
■ ■ ■
یومیَّاتٌ مختارة من الکتاب
من یومیات سیّدة أصفهان، أرملة میرزا خلیل (ترجمة نثریة، کما فی الصنعة الإنکلیزیة، مع أنّها فی الأصل منظومة فی أبیاتٍ مَثنویّةِ القافیة):
ولمَّا جرَّعنی القدَرُ المکَّارُ مرارةَ فراقِ قُرّةِ العینِ حبیبی، قضَّ الحزنُ علیَّ مضجعی. لم أَجِد ملاذیَ إلَّا فی السَّفرِ. لَن أذوقَ طعمَ النّومِ فی اللیلِ ولا طعمَ الرّاحةِ فی النّهارِ حتَّى أطوفَ بالکعبةِ المُشرَّفةِ. هیَّأتُ نفسی ثُمَّ انطلقتُ والعزیمةُ تحثُّ خَطوی. لم یرافقنی أحدٌ مِن أهلِ بیتی، فهرعتُ إلى البریَّةِ کالمجنون [مجنون لیلى] وحدی. فما نفعُ غَوثِ الخلیقةِ حینَ یکونُ اللّهُ وَلِیّ المُنکَسرِ القلبِ؟ ـ حَسْبِی أنّ ذلک یَکفِی. ولمَّا رأیتُ غدرَ أحبَّتی، غادرتُ أصفهانَ کالرّیحِ الباردةِ. غسلتُ الخوفَ عن قلبی فاستبشرتُ خیرَ الغَیبِ فی السَّفرِ. تنشقَّتُ، فی لحظةٍ، سحرَ الرِّیفِ على مدَّ البصرِ، فطرتُ کالعصفورةِ مِن فوقِ غصنِ الحزنِ. ولکی أطوفَ ببیتِ اللّهِ، انطلقتُ فی البریَّةِ وحدی.
من یومیات الشاعرة الترکیة شکوفه نهال بشّار، والمنشورة بالترکیة فی عام 1935، تحت عنوان "ثلاثة أیام فی فنلندا":
وکانَ المساءُ... کانتِ الشمسُ تغربُ... وکانَ الأفقُ، وسطَ الخُضرةِ الشاسعةِ، یحترقُ. توقَّفنا أمامَ محطَّةٍ بدیعةٍ بواجهةٍ بیضاءَ مِن غیرِ سُوءٍ. مرَّت ثُلَّةٌ من الجنودِ أمامَنا؛ کأنَّهم قُدُّوا مِن القماشِ ذاتهِ أو جُبِلُوا فی القالبِ ذاتهِ؛ شبابٌ مَمشوقونَ، بشعورٍ ذهبیَّةٍ، ووجوهٍ لوَّحتها على مَهلها الشَّمسُ... کانت ثیابُهم نظیفةً، تخلُو مِنَ أیِّ عیبٍ...
راحَ القطارُ یتحرَّکُ؛ کأنَّنی أتصفَّحُ کشکولَ صُوَرِ فنَّانٍ یتمتَّعُ بمهاراتٍ جَمالیَّةٍ عظیمةٍ: ثمَّةَ حدائقُ، ذاتَ الیمینِ وذاتَ الشِّمالِ، ومتنزَّهاتٌ، وبیوتٌ، نسَّقها شخصٌ صاحبُ ذوقٍ رفیع... وتلوحُ، فی البعیدِ، رقعةٌ من بحرٍ شاحبٍ تُذکِّرُ بحلمٍ أزرق... وتلوحُ مِن الشَّارع المرصوف بالأشجارِ فتیاتٌ یرتدینَ مَناماتهنَّ، جمیلاتٌ کباقاتِ الزُّهورِ، بوجوهٍ عتَّمَتها سُمرَةُ الشَّمسِ الأخَّاذةُ، عائداتٍ إلى بیوتهنَّ. مفعمات، جمیعهنَّ، بالحیویّةِ، فاتنات، ورزیناتٌ، ورشیقاتٌ ناعمات... ویلوحُ، فی الطَّریقِ الأُخرى إلى القریةِ، أطفالُ القریةِ، وصبایا القریةِ، کبارًا وصغارًا على حدٍّ سواء، کأنَّ عیونهم الزرقاء وشعورهم الذهبیَّة وأعناقهم المدوَّرة، کُراتٌ ذهبیَّةٌ. وتلوحُ فی وجوهم آثارُ ابتساماتٍ صامتة. وثمَّةَ أناسٌ، عَن یمینِ القطارِ وشمالهِ، یرکبونَ الدرَّاجاتِ الهوائیَّةِ، ویتسکَّعون.
دَنَتِ السَّاعةُ مِن الغروبِ... والشَّمسُ، کطفلةٍ عابثةٍ وُضِعَتْ فی السَّریرِ ولکنَّها ترفضُ أنْ تنامَ، تواصلُ فتحَ ناموسیَّتِها بیدَیْها الشَّقِیَّتَیْنِ، ثُمَّ تشقُّ الغیومَ، بینَ حینٍ وآخرَ، مبتسمةً، والفرحُ یتهلَّلُ مِن وجهِها، مِن طرفِ الأفقِ إلى الطَّرفِ الآخر...
ثُمَّ اتَّسعَتِ الحُمرةُ التی فی طرفِ أشجارِ الصَّنوبرِ فجأةً؛ ظننتُ أنَّ الشَّمسَ تشرقُ. نظرتُ إلى الوقتِ؛ کانت السَّاعةُ الحادیةَ عشرةَ فحسبُ... أظنُّ القطارَ قد صعدَ إلى مُرتقىً أعلى. کانت فی المحطةِ صبیَّةٌ صغیرةٌ وجمیلةٌ ترتدی طاقیَّةً مخملیَّةً حمراءَ قانیةً، وزیًّا کُحلیًّا، وترتسمُ على مُحیَّاها نظراتُ جادَّةٌ: مسؤولةُ المحطَّة... إنَّها شیءٌ یشبهُ تمثالًا صغیرًا على قارعةِ الطَّریق...
غادرَ القطارُ: هَا نحنُ نمرُّ بالحدائقِ، والقرى، والمدنِ، مرَّةً أخرى. دائمًا التَّرتیبُ ذاتهُ، ودائمًا النظافةُ ذاتُها والجَمالُ ذاتُه... لا نعدمُ رؤیةَ النَّاسِ خارجَ منازلهم أبدًا. وفی الغسقِ المُلوَّنِ، یتسکَّعُ الفِتیةُ الوسیمونَ کالجنِّ الملیحینَ الذینَ یلجونَ أحلامَنا. نظراتی، التی تطیرُ مِنَ الأرضِ إلى السَّماءِ ومِن السَّماءِ إلى الأرضِ، تخافُ أنْ تُضیِّعَ مثقالَ ذرَّةٍ مِن هذا الجَمال...
ثُمَّ سطعَ الشَّفقُ مرَّة أُخرى، کأنَّ الشمسَ لم تستطع أن تتمالکَ نَفْسَها بأنْ تظلَّ محجوبةً عَنِ النَّاسِ، فشقَّتْ بطانیَّةً رمادیَّةً من طرفِ بستانِ الصنوبرِ المعتمِ، وأخرجتْ لسانَها المتوقِّدَ وراحتْ تمزحُ معَ الأرضِ...
■ ■ ■
من یومیات الشاعرة الطَّاجیکیّة دِلشاد (1800 - 1900؟) أیَّام سجنها فی خُوقند (أوزبکستان الوقت الراهن) بعد وقوعها أسیرةً فی ید الأمیر عُمر خان إبّان إغارته على قریتها، والتی دوَّنتها، فی وقت متأخِّر من حیاتها، فی کتابها "تاریخ المهاجرین":
وبعد سؤاله عن اسمی وعائلتی، أرانی الأمیرُ رمَّانةً، ثُمَّ طلب منِّی نظمَ غزلیَّةٍ حولها. فأنشدتُ الغزلیَّةَ التّالیة فی ذلک الوقت:
"رأیتُ القُبَّةَ السَّماویَّةَ، وجمیعُ مَا فیها طافحٌ بالألمِ.
حجابُ حریرٍ یُغطِّی وجوهَهم. رأیتُ عیونَهم دامعةً وقلوبَهم تنزفُ.
رأیتُ قلبَ کلِّ جَمالٍ وقد شقَّهُ سیفُ حُکمِ عُمر خَان الظَّالمِ".
ومَا إنْ أکملتُ تلک الأبیات، حتَّى وکزنی الأمیر مرَّتَیْن، فدخل أحدُ أتباعه الغرفة. فقال له الأمیرُ: "خُذ هذه الآثمةَ إلى السِّجن"، ثُمَّ أومأ إلیه بعینیهِ، ولکنَّنی لم أُدرک مغزى ذلک.
ولکنَّ هذا التَّابع أخبرنی، حین کنَّا نعبر سویَّةً، فی وقت لاحق، قرب بوَّابة القلعة: "أتعرفین، یا بُنیَّتی، أنَّ الأمیر قد وهبنی إیَّاکِ؟ ولکنَّنی لا أعرفُ حقیقةَ أمرکِ، حقیقةَ إنْ کنتِ قد اتَّخذتِ عشیقًا أم لیس بعد. راجیًا أن تُخبرینی إنْ کنتِ تعشقین شخصًا مَا".
فقلتُ: "لقد عرفَ عشقُ شابٍّ من قریتی طریقَهُ إلى قلبی".
فقال: "أیَّتها الجاریةُ، ألا ترغبینَ فی أن أعتقَکِ؟".
فقلتُ: "بلى".
فقال: " لقد أعتقتُکِ".
فقلتُ: "إنَّنی غریبةُ دیارٍ، ولا أعرف أینَ أذهب؟".
فقال: "أترینَ، هُنَاک، یا بُنیَّتی، حیث الجنودُ الأربعون المستریحونَ فی ثکناتهم بجانبَیِ البوابة یغطُّون فی النوم الآن؟".
وبعد التَّعبیر عن مدى امتنانی لهذا الشابِّ العطوف، الذی تعود أصوله إلى قریتی، مشیتُ خلفه. أبدى هذا الشابُّ، فی ذلک الوقت، جرأة عظیمة، ففتح البوابة من أجلی. خرجتُ، سائرةً صوب ضوءٍ یلوح من بعید. وحینَ اقتربتُ من مصدر الضوء، رأیتُ بأنَّه کان حمَّامًا عمومیًّا. وخشیةَ أن یکون موقدو النَّار فی فرن الحمَّام ینامون فی الرَّماد المتناثر، سلکتُ طریقًا أُخرى. رأیتُ، ذاتَ الشمال، کوخًا أسود حیث کان متصوِّفةٌ سکارى من أتباع الطریقة القلندریَّة منهمکون فی احتساء البوظة. وبعد أن مِلتُ على الباب الموارب، سقطتُّ مغشیّةً علیَّ! لا أذکرُ ما حدث لی بعد ذلک. وحین عدتُّ إلى وعیی، رأیت بأنّنی کنت مستلقیةً على الأرض وقطعة قماش تغطِّی وجهی.
نقلا عن العربی یو کی