أطوار قصیدة النثر العربیة: اللغة الکاملة (1ـ2)

أطوار قصیدة النثر العربیة: اللغة الکاملة (1ـ2)
لن تصدر قصیدة النثر، فی طورها الأوّل عن أیّ سابقة، ولم یکن فی اللّغة أیّ استعداد لها. بدت، لأوّل وهلة، لطمةً لها، نوعاً من مفاجآتها لنفسها. المفاجأة جعلتها تنتهی إلى مسارین مزدوجین.
يکشنبه ۱۱ ارديبهشت ۱۴۰۱ - ۱۱:۱۹
کد خبر :  ۱۵۷۱۲۲

 

 

 

 

 

 

لن تصدر قصیدة النثر، فی طورها الأوّل عن أیّ سابقة، ولم یکن فی اللّغة أیّ استعداد لها. بدت، لأوّل وهلة، لطمةً لها، نوعاً من مفاجآتها لنفسها. المفاجأة جعلتها تنتهی إلى مسارین مزدوجین. الأول ترجیح وإسالة ونسج قرآنیّ لإیقاع أصلیّ، یُفترض أنّه بناء لنصّ تأسیسیّ هو فصاحة واحدة، نموذج اللّغة وهیکلها الضمنی والداخلی، من ناحیة أُخرى کان المسار الثانی ارتطاماً بهذه الفصاحة، وخروجاً عنها، وما یترکه ذلک من عُری إیقاعی، وفقدان شبه تام للغناء.

نحن هکذا أمام مسارین، هما، على اختلافهما، بل وتعاکسهما، ینتهیان إلى محلّ واحد تقریباً. إنّه نوع من "سَریلة" خاصة، فالإلهام السریالی فی أساس التجربة کلّها. من هنا فإن النماذج الأولى لقصیدة النثر تبدو، من ناحیة ما، نقداً للشعر أو نظریة فیه. نحن هکذا أمام اللغة، التی هی ذخیرتنا القومیة. أمام مسارین أولهما الترجیع وإعادة کتابة النص التأسیسی، النص الذی هو اللغة فی مثولها وإعادتها إلى ما یفترض أنّه أصلها ونموذجها الأول، فالقصیدة هنا تقول اللّغة، تقول نفسها، تقول الشعر ونقد الشعر. 

قصیدة النثر کانت طامحة لأن تقول النص الأول والأصلی

بینما، فی المسار الثانی، نقع على إنکار اللّغة، وإنکار فصاحتها الواحدة، وبالتالی الکتابة بلغة هی، من منطقها نفسه، لا لغة. لغة لا تنکر أصلها فحسب بل تنکر أیضاً نفسها. بین المسارین، لأول وهلة تعاکُس، لکنّنا مع ذلک ننتهی إلى ما یبدو نتیجة واحدة تقریباً. إنّنا أمام نصوص کلّ منها یدّعی أنّه اللغة، وأنّه الشعر، وأنّه، فی الوقت نفسه نقد الشعر ونظریّته. 

نحن أمام الشعر وقد استحال إلى دعوة، وغدا النصّ نفسه، على نحو ما، فی تدفّقه وبنائه على نفسه وترجیعه وعریه الإیقاعی، فی کلّ ذلک النص، بل والشعر بعده، هما نظریّة فی الشعر وفی اللّغة، وتحویل لهما إلى دعوة، والبناء علیهما. قد یبدو الطفح اللّغوی أحد علائم قصیدة النثر فی طورها الأول. هذا الطفح اللغوی هو بحد ذاته نقد للشعر ونقد للّغة، بل والبناء علیهما، بناء یحیل الفیضان اللغوی إلى نوع من بیان مستتر. بل ویبدو أن النثر البلاغی، أو العاری من البلاغة، هما معاً یجعلان من التدفّق والسیولة والترجیع نوعاً من رسالة أولیة، من ترتیل واسترجاع لمقاصد مضمرة وخفیة، وإن تبدّت فی المسار الثانی إنکاریة ورافضة (هذه الکلمة دارجة لدى شعراء هذا الطور). 

هکذا تبدو السیولة والطفح والإسالة، کأنها الترتیل الخفی لبیانات ضمنیة، أو هی توجیه الّلغة سلاحاً، واستعمالها کضجیج حربی وکوقع معارک قائمة. هذا من ناحیة یمُتّ، ولو من بعید، إلى المعرکة القومیة وإلى اللغة بوصفها، من بعید أیضاً، النشید القومی الأول والأثر التأسیسی والأصلی. یمکن لنص مستفیض کالنصوص الأولى لقصیدة النثر، أیاً کانت مقاصد وسیاسة أهلها، أن یحلّ الاسترسال اللغوی، محلّ هذا التمثل والمحاکاة لما یفترض نصاً أوّلیاً، شأنه فی ذلک شأن کتاب أوّلی یستعاد کلّ مرة یجری فیها العمل على اللّغة، أو استظهارها کمادة أولى لبناء أو استحضار أو إضمار نصّ تأسیسی.

القصیدة التی کانت حرباً على الفصاحة بنَت على خطابتها

لا بدّ أنّ نصوص قصیدة النثر الأولى لم تکن بعیدة عن ذلک. لقد کانت، فی مساریها من هنا أو هناک، طامحة لأن تقول العالم، وتقول الدعوة، بل وتقول النص الأوّل والأصلی. لم یکن استرسالها وتوزّعها وتوزّع موضوعاتها وإیعازاتها ومقاصدها، بل وترتیلها الظنّی وترجیعها؛ لم تکن هذه إلّا لغة کاملة ودعوة شاملة، أو هکذا تکون نصّاً تاماً وأولیّاً وأصلیّاً. لا بدّ من القول إنّ نسیج هذه النصوص وکتاباتها الفیّاضة وتواتر إشاراتها وإیعازاتها وطفحها النصوصی، جمیعها من طموحها الضمنی لأن تکون اللغة وتکون النص وتکون البیان.

نحن هکذا أمام قصیدة تحمل، فی آن معاً، خطاباً مزدوجاً. إنّها، من ناحیة، خروج على النسق، ومن ناحیة أخرى استمرار له. إنها، من ناحیة، هذا الترتیب الذی یتّخذ من تجوید نثری مثالاً، وینسج هکذا على ما یبدو ذا إلهام مماثل رغم، أنّ هذا الإلهام ملبس إلى حدّ بعید، فقصیدة النثر هذه، فی مسارها الثانی، قد تَحذف عن اللغة کلّ ما هو بلاغتها الخاصة، وقد تخرجها من نموذجها الإیقاعی کلّه، وقد یبدو ترتیلها لذلک معوّقاً ومتعسراً وجافاً إلى حدّ بعید. لکنْ، ما لا تقوم به البلاغة، وما یخسره النص بالتنصّل منها، یبقى مع ذلک حاضراً فی استرسال النص، وفی دعویّته، وفی تداعیاته التی تتواتر وتتعالق وتؤلّف، من ذلک، ما یشبه أن یکون إیقاعاً یبنی على خطابیّة مضمرة. لعلّنا نفهم من ذلک أنّ قصیدة النثر، فی طورها الأول، کانت، فی آن معاً، هذا النقد للفصاحة، لکن إلى حدّ البناء على نموذجها الضمنی أو خطابها غیر المعلن.

هذا ما یبدو، لأول وهلة، مفارقاً وملبساً، فالقصیدة التی کانت، بوضوح، حرباً على الفصاحة وتنصّلاً مثابراً منها، هی، فی ذات الوقت، تبنی على نموذجها وخطابتها الضمنیة. فی کلّ الأحوال تبدو هذه، وخاصّة فی مسارها الأول، غیر قادرة على التنصّل من بلاغیة قائمة وخطابة ضمنیة. على دعوة تتحول معها قصیدة النثر وخاصة فی مسارها الثانی، إلى دعوة وإلى لغة استفزازیة جازمة وضاریة وعاصفة. أی أنّ لها، على نحو ما، وجهاً خطابیاً مستتراً. 

یمکننا هکذا أن نتمیز أن قصیدة النثر الأولى کانت، من هذه الناحیة، تُجاری النص التأسیسی، ولا تتخلى عمّا، فی بلاغته، من عنف دعوی، ومن تندید ونقد وأمر جازم. کلّ ذلک، بنوع من طلاقة واسترسال، تبقى العبارة معهما على ساق العبارة الأخرى، وتبدو هکذا لحناً متواتراً، حتى حین یحلّ الجفاف والأمر والتندید، وإیقاعاً آخرَ للنثر یستکشف ما فی النثر من خطابة قائمة. یمکن أن نفهم هکذا أنّ قصیدة النثر، فی طورها الأول، لا تخرج کلّیاً عمّا فی النصّ التأسیسی، من نموذج یتردّد بین الهدایة والوعید. أی أنها، فی الحالین، تتابع خطابة ظاهرة أو ضمنیة، لکنّ النص، مع ذلک، یبقى على حاله من التمام ومن الشمول، ومن الخلاصیّة، ومن الدعوة. أی ان النص یبقى، مع ذلک، على المیل نفسه لأن یکون تأسیسیاً وکاملاً.
 
من هنا تبدو قصیدة النثر فی طورها الأول، دعوة إلى قصیدة النثر، وکفاحاً فی سبیلها. أی تبدو، فی الوقت نفسه، کلاماً یمکنه أن یستقیم نظریة فی الشعر، أو بعبارة أدقّ نقداً للشعر، مع کل ما یتبع ذلک من الإرث العربی من مزاوجة بین الشعر والدین والدعوة، مزاوجة بین الشعر والهدى والأمر الحقّ.

ارسال نظر