فقد کان الشعر إبان العهد البائد یسیر فی خضم ما تریده السیاسة العامة للنظام آنذاک من توجه نحو ما یلهی الشعب عن مهامه التی ینبغی أن یضطلع بها من مسؤولیات جسام فی صنع مستقبل زاهر یرتکز على أسس الاستقلال والحریة وعدم الرضوخ لإرادة الأجنبی فی جمیع نواحی الحیاة.. کان الشعر یقوم غالباً على احتواء فکر الشعب الإیرانی المسلم وجرفه فی متاهات لا تمت إلى جذوره الإسلامیة الأصیلة بصلة ویسعى إلى حرف البشر رجالاً ونساءً صغاراً وشیوخاً وشباباً باتجاه الفساد والانجراف إلى هاویة الرذائل والخرافات.
وسط ذلک الفساد وتداعیاته ظهر الشعر الثوری مواکباً الروح النضالیة والجهادیة للطلائع الثوریة الداعیة لتغییر النظام الفاسد فی سبعینیات القرن الماضی.. فکان شعر النضال والسیاسة والالتزام والثورة.
کما أبدى الشعر فی تلک الفترة تمرداً ثوریاً حیال أرستقراطیة اللغة وبذخها بما یتماشى مع لغة عموم الشعب، فتراجع جیل من الشعراء فی تلک الفترة (أمثال ید الله رؤیائی) مؤسس مدرسة (الأحجام) فی إیران وودع بلاده إلى الأبد وتراجع (سهراب سبهری) وقصائده العرفانیة المیالة للعزلة. ومع أنه واصل إصدار أعماله فی السبعینیات غیر أنها لم تعد تحوی تلک النبرة السابقة.. ومنهم من اعتزل الإنتاج الجید تقریباً مثل الشاعر (اخوان ثالث) مؤسس مدرسة الیأس والقنوط فی الشعر. وبرز جیل شعراء الثورة والنضال الذی هیمن على الساحة آنذاک. لعل أبرز سمات الشعر الثوری فی تلک الفترة هو حلول الأمل فیه محل الیأس والقنوط رغم الضغوط والملاحقة والإبعاد والسجن للشعراء المناضلین الذین أخذوا یتغنون بأمجاد الأبطال السیاسیین ویتعرضون لمشاهد التعذیب والسجون والمشانق.. .
واتسم شعرهم بالصراحة النابعة من شجاعة الشعراء وبطولة المجاهدین والمقاتلین، ولا بد لنا هنا من ذکر نماذج من هذه المجموعة من الشعراء أمثال السیدة طاهرة صفار زاده، والسید علی موسوی کرمارودی، وحمید سبزواری، وعلی معلم دامغانی، فکانوا النواة الأساسیة لشعر مرحلة مابعد انتصار الثورة أمثال علی رضا قزوة، عباس باقری، وقیصر أمین بور، وحسین اسرافیلی، وساعد تبریزی.
ومع انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران أصبح الاهتمام بقضایا الأمة الإسلامیة امتیازاً وفخراً بعدما کان عبئاً ثقیلاً على کاهل النظام الشاهنشاهی البائد الذی سعى للإبتعاد عنها، بل عمل ضدها سائراً عکس رغبة الشعب واتجاهه نحو مشارکة المسلمین والمستضعفین همومهم فی أرجاء العالم الإسلامی کافة.. الأمر الذی تحقق بعد انتصار الثورة الإسلامیة فشارک الشعب الإیرانی إخوته المسلمین أحزانهم کما فرح لأفراحهم وأصبحت له معاییر تختلف کل الاختلاف عما کانت علیه سابقاً... وهکذا أصبح رقی الأمة الإسلامیة فی جمیع المجالات من أکبر طموح الشاعر الإیرانی المعاصر وتصدرت قضیة فلسطین قائمة القضایا الإسلامیة التی اهتم بها الشاعر الإیرانی الملتزم لأنها لیست ذات صلة مباشرة وعمیقة بالإسلام فحسب بل لأنها محور الصراع بین الإسلام والاستکبار العالمی برمته والحد الفاصل بین العزة الإسلامیة وذلة المسلمین، یدل على ذلک الأشعار الکثیرة التی أنشدت على لسان الشعراء... وأصبحت تلک القضیة المرکزیة ساحة کبیرة یصول فیها الشعراء الإیرانیون ویجولون دونما أی خوف أو مانع، کما کان علیه واقعهم فیما مضى إذ کان الحدیث حول القدس وظلم الکیان الصهیونی للفلسطینیین واجتیاحه لمقدسات المسلمین من أکبر الکبائر لدى طغمة النظام المقبور الذی کان یسارع إلى التصدی لها بکل ما أوتی من جبروت ویعاقب کل من یتجرأ بالتطرق إلى موضوع الاحتلال الصهیونی لأرض فلسطین وإباحتهم لمقدسات المسلمین فی المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة.
وهکذا اجتمع الشعراء الإیرانیین والعرب من جمیع البلدان الإسلامیة جنباً إلى جنب فی ایران یتداولون قضایا الأمة الإسلامیة بلغة الشعر لیعتریک شعور وإحساس عجیب، ویختلج فی قلبک الامل لما آل إلیه الشعر والأدب فی إیران فی حاضرنا وعالمنا المعاصر.
وللتعرف على أبرز الشعراء الملتزمین، شعراء الثورة والنضال فی إیران نلقی هنا نظرة على بعضهم:
- الشاعر شهریار (1904 - 1988 تبریز): ولد الشاعر الکبیر محمد حسین شهریار فی مدینة تبریز ودفن فی مثوى الشعراء بمدینته شهریار، کانت حیاته أنشودة، غنوة، شغف العشق والحب والإیثار والجهاد وحب الوطن، وهو همزة وصل بین عذوبة الشعر الکلاسیکی القدیم ورهافة الأحاسیس ورمزیة الشعر المعاصر.. جمال شعره المرهف بالعواطف الجیاشة جعلت أشعاره الفارسیة والآذریة (الترکیة الإیرانیة) تنتشر إلى شتى أصقاع العالم وأن یصبح الشاعر الأول ومن دون منازع فی إیران المعاصرة.
- الشاعرة سبیدة کاشانی (1936 - 1992 کاشان): تعتبر الشاعرة من أبرز شاعرات الثورة الإسلامیة، ولدت وسط عائلة ملتزمة بقیمها الدینیة، فکانت رائدة فی الشعر الکلاسیکی والشعر الحدیث وتمیزت بارتباط وثیق مع الصحافة ووسائل الإعلام العامة وانتخبت عضواً فی اللجنة العلیا للشعر والأدب التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامی منذ عام 1981 وحتى عام 1992 وقد تجلت صوره الشهید ومفهوم الشهادة وملحمة الدفاع المقدس والتحدیات الخطرة التی یواجهها الوطن وحماسها الملتهب بأجمل تجلیات الصور والملاحم الشعریة وأصبحت قصائدها تحرک الضمائر وتثیر المشاعر وتفجر روح الثورة فی نفوس الجماهیر من أجل الثبات على القیم والدفاع عن الأهداف التی رسمتها الثورة الإسلامیة.
- طاهرة صفار زاده (1936 سیرجان): من أبرز الشاعرات الملتزمات قبل الثورة وبعدها وشعرها من أبرز رموز الشعر الدینی الثوری فهو ترکیبة من الحداثة والصراحة والبساطة، تمثل تجدیدها الشعری بالمزاوجة الجادة بین الشعر والمضامین الدینیة الإسلامیة حیث نجد فی کثیر من أبیاتها إشارات مباشرة لآیات قرآنیة وأحداث من تاریخ الإسلام وحیث إنها برعت فی اللغتین الانکلیزیة والعربیة فکانت مناراً فی الشعر وتمیزت لغتها بالحداثة والریادة، فمن شعرها:
«لیتنی.. کنت أستطیع أن أبکی دماء شرایینی قطرة.. قطرة.. قطرة..حتى یصدقونی».
- علی معلم دامغانی (1959دامغان): من أبرز شعراء الثورة الإسلامیة وإحدى الشخصیات المهمة فی مجال الشعر والأدب الفارسی، یرأس حالیاً دائرة معارف الثقافة والفن الإیرانی.. بدأ کتابة الشعر بعد أن أنهى دراسته الجامعیة حیث کان للثورة الإسلامیة وقع مهم فی حیاته لذلک تأثرت أشعاره بأحداث الثورة الإسلامیة قبیل انتصارها وبعدها ومن أشعاره حول القدس الشریف:
«أیتها القدس التی جرعت البلاء اصبری
نحن قضاة السهام السریعة الضاربة المحمدیون
برهة اصبری وقفی على قدمیک وکونی قویة فإننا قادمون»
- الشاعر حمید سبزاوری (1935): من الشعراء الإیرانیین المعاصرین المخضرمین، یمتلک موهبة شعریة منذ الصغر حیث سادت آنذاک محاربة القیم من قبل النظام البائد، بدأ عمله فی التدریس وأقبل على إنشاء الشعر فلم یترک حادثة وقعت قبل الثورة وبعدها إلا وتطرق إلیها فی أشعاره، ولم ینس قضیة فلسطین الجرح النازف فی الجسد الإسلامی فکان بذلک مؤرخاً أدبیاً عمل على تخلید الأحداث للجیل لیدرک هذا الجیل الظروف الصعبة التی مرت بها الثورة الإسلامیة فی إیران. - قیصر أمین بور (1959-2008): من أبرز شعراء الثورة نال شهادة الدکتوراه فی الأدب الفارسی من جامعة طهران وأصبح أستاذاً فی جامعة الزهراء (ع) بطهران، له آثار کثیرة حول الحرب والثورة ولعله من أبرز من کتب أشعاراً حول الحرب المفروضة على إیران.. نال جوائز کثیرة فی مجال شعر الطفل والشباب.
نعم لقد لعب الشعر الثوری الملتزم دوراً مهما فی إیقاد ثورة الشعب رجالاً ونساءً وأطفالاً وشیوخاً ومن جمیع فئاته العامل والفلاح والطالب والمعلم.. لیتخلص من شر الطغمة الحاکمة آنذاک واستعادة السیطرة على مصیره رافعاً شعار الاستقلال والحریة وإقامة الجمهوریة الإسلامیة.. کما تبنى الثورة فی الداخل فقد تبنى قضایا الأمة المهمة وعلى رأسها قضیة فلسطین فخلد بطولات شعبها وسجل مظالم الاحتلال ودعا إلى مقاومته والاستشهاد فی سبیل الله ونیل الحریة والتحریر.. فلیحیا هذا التوجه ولتدم هذه الهمة العالیة من أجل الحفاظ على قضایانا المصیریة.