مجلة الجدید: أبوبکر زمال

فخری البارودی من دمشق إلى العالم

فخری البارودی من دمشق إلى العالم
صدر عن المؤسسة العربیة للدراسات والنشر الحدیثة کتاب “الرحلة الأوروبیة 1911 – 1912” للزعیم والشاعر العربی فخری البارودی، الکتاب الفائز بجائزة ابن بطوطة لتحقیق المخطوطات للعام 2021، وتکتسب هذه الیومیات التی حققها وقدّم لها الکاتب السوری إبراهیم الجبین
سه‌شنبه ۰۴ آبان ۱۴۰۰ - ۱۰:۱۷
کد خبر :  ۱۵۳۲۴۵

 

 

 

 

 

الرحلة المبکرة إلى أوروبا کانت فرصة للبارودی لیمتحن أفکاره المدنیة، ویجد لتطلعاته النهضویة نموذجًا. ففی کل سطر من سطور هذه الیومیات ثمّة نفحة من أمل وهبة وتطلع، وطرفة تعکس روحًا توّاقة إلى الجدید المبتکر فی حیاة الأمم المتقدمة، لعله یکون مصباحًا هادیًا إلى زمن عربی جدید، عبّرت عنه هذه الشخصیة، التی خاضت فور عودتها من أوروبا غمار نضال مجتمعی متعدد الأوجه: ثقافی، وفکری، وفنی، وسیاسی. فقد جعل البارودی من بیته فی دمشق ملتقى للأدباء والمفکرین والفنانین والزعماء السیاسیین على مدار أکثر من نصف قرن من الحراک الیومی لأجل المستقبل، وحوّله إلى قلعة مقاتلة فی مواجهة الاستعمار الفرنسی والقوى الرجعیة معًا، فأصبح البارودی بذلک أشهر زعیم دمشقی طوال النصف الأول من القرن العشرین، وبعض النصف الثانی منه.

”الجدید“ تنشر فصلاً مختاراً من الکتاب الذی یقع فی 440 صفحة من القطع الکبیر، والذی استعرض إضافة إلى رحلة البارودی إلى أوروبا، محطات حیاته قبل الرحلة وبعدها، وآثار تلک الرحلة علیه وعلى المشاریع التنمویة والفکریة والثقافیة التی طرحها وحارب من أجلها فی میادین مختلفة.

السفر من دمشق

الجامع الأموی بدمشق بعد الحریق الذی وصفه البارودی فی الکتاب - تصویر أبنهایم 1897
الجامع الأموی بدمشق بعد الحریق الذی وصفه البارودی فی الکتاب - تصویر أبنهایم 1897

 

فی عام 1911حصل لوالدی أشغال خاصة فی الأستانة فسافر إلیها فی أوائل کانون الثانی، وکان بعض رفقائی فی المدرسة وأکثر أبناء الصفوف الذین تخرّجوا بعدی سافروا إلى إسطنبول (الأستانة)، وکان والدی مصرّاً على التهرّب من الموافقة على سفری خشیة أن أتعرّض للأذى هناک، فبقیت مُبَلبَلَ الفکر أضرب أخماساً فی أسداس للخروج من هذه الورطة الوبیلة، وکنت أفکّر فی أکثر أوقاتی بالحالة التی وصلت إلیها وقد خطر لی خاطر کان شغلی الشاغل بعد سفر والدی، وکانت نفسی تحدثنی بلزوم أن أسافر إلى أوروبا لتحصیل الزراعة فی إحدى مدارسها طالما منعنی والدی عن السفر إلى الأستانة. راجعتُ الأستاذ محمد بک کرد علی بهذه الفکرة فاستصوبَها وشجّعنی علیها وما زلتُ أفکّر بها حتى تجسّمت برأسی.

وصرتُ کالمأخوذ إن قمتُ أو قعدت، إن نمت أو صحوتُ لا أفکّر إلا بالسفر، وجعلت الخیالات تمرُّ فی مخیلتی مرور مناظر السینما، فبینما کنت أفکر فی أیام المدرسة الماضیة ینتصب أمامی المستقبل، فمرة أرى نفسی فی مدرسة زراعیة فی فرنسا وأخرى أرى نفسی فی دمشق، ثم تمرّ أمامی مناظر حیاة عائلیة فیها أولادی. یطلبون منی ”خرجیّة“ وأنا فقیر، ومرة أرى السعادة فی یدی وهی شهادة المدرسة الزراعیة، ثم یمرّ فی مخیلتی المجد والعلاء ومراتب العلم والأدب، وأخیراً تمکّنت الفکرة منی وعزمتُ على السفر إلى فرنسا والدخول فی مدرسة زراعیة فیها، لأنی رأیتُ بعد شدة التفکیر أننی لا یمکننی سحب فلس واحد من کدّ یمینی فی هذه البلدة، لأن الناس کانوا یعیّرون أبناء ”الذوات“ إذا اشتغلوا، فکیف أشتغل وأنا فخری بن محمود البارودی ووحیدُه؟ أیّ عملٍ یلیق بی القیام به دون أن یعیّرنی الناس فیه؟ أیّ صنعة أقوم بها دون أن ینقدنی المجتمع فیها؟ ها هم أبناء الذوات أکثرهم عائشون فی دور أهلهم یتناولون رواتبهم من آبائهم وهم فی جهلهم یسبحون، أکبرُ شاب منهم لا یحسن قراءة رسالة أو کتابة مکتوب، فهل أبقى مثلهم أمدّ یدی لوالدی أشحذ منه راتبی الشهری بدلاً من أن تکون بیدی صنعة أساعد والدی من نتاجها؟

هذا بعض ما تشخّص لی، فوطّدتُ العزم على السفر وجمعتُ ما قدرت جمعه من المال فبلغ مائة وثلاثین لیرة فرنسیة ذهبیة، فدفعتُ دیونی منها، واشتریت أدوات طبخ وضعتها فی صندوق خشبی صغیر، ونقلت ملابسی التی اصطحبتها معی من ”الجوّانی“ دائرة الحرم إلى ”البرّانی“ ووضعتها فی الحقیبة التی اشتریتها خصیصاً لهذه السفرة.

حضّرت الأشیاء ویوم الجمعة الواقع فی 15 شباط سنة 1911 وصلتنی برقیة من والدی من إسکندرونة یشعرنی فیها بأنه سیصل إلى دمشق الأحد مساء، وخوفاً من أن یصل والدی إلى دمشق قبل مغادرتی إیاها أسرعت بإتمام جمیع ما یلزمنی، وقطعت علائقی ودفعت دیونی التی لا تزید عن بضع لیرات وأخذت البرقیة إلى خال والدی عطا باشا البکری وعدت إلى الدار وأطلعت سیدتی الجدة لوالدی ووالدتی على البرقیة، وقلت لهما إنی سأذهب إلى دوما لأرى الأعمال وأعود غداً لأخبر والدی بعد وصوله بحسن سیرها، وأمرتُ الحوذیّ بإحضار العجلة (العربة) ونقلت الأمتعة إلیها دون أن یشعر بی أحد، وبعد أن خرجنا من المحلّة إلى الشارع قلت له: اذهب إلى فندق ”أوتیل فیکتوریا“. وکان مکانه مقابل البنک السوری الیوم على ضفة بردى الثانیة، ووضعت الحقیبة والصندوق فی الفندق، وقلت للحوذیّ: اذهبْ إلى الدار وأخبرْهم أنی بقیتُ فی الضّیعة لأشغال ضروریة، وغداً صباحاً تعال إلى الفندق. وذهب الحوذیّ بالعربة وبقیت فی الفندق.

 

أزیاء السیدات فی باریس العام 1911
أزیاء السیدات فی باریس العام 1911

 

صحوتُ فی الساعة الرابعة وارتدیتُ ملابسی بسرعة. وطرق النادل ”الکرسون“ الباب لیوقظنی حسب طلبی فی المساء، فوجدنی جاهزاً، فأحضر لی ”عربة“ أجرة ونقل أمتعتی إلیها، وکان الثلج یتساقط والبرد شدیداً والشوارع مظلمة ولیس فیها مصباح مضاء. وکان النور الکهربائی مقطوعاً من التکیة کما فهمت من شرطی المحطة بعد وصولی. وکانت شوارع دمشق فی تلک الأیام لا تفرق عن شوارع القرى، ولم تکن البلدة تعتنی إلا بالشوارع التی تحطی بدائرة الحکومة، أما بقیة المحلات، خصوصاً النائیة کمحلة المیدان وقبر عاتکة وأمثالهما، فإنها کانت مهملة یخجل الإنسان أن یمر فیها من الوحول.

وبعد ساعة من خروجنا وصلنا إلى محطة القدم، ویعلم الله ماذا لقیت والحوذیّ من البرد فی هذه المدّة القلیلة، وکان وصولنا قبل وقت حرکة القطار بمدة، فوجدت الکثیرین من الرکاب ینتظرون القطار. وبقینا فی المحطة والمظلات فی أیدینا تحمینا من الثلوج. وفی الساعة السادسة تماماً تحرک القطار إلى حیفا وسبب سفری إلى حیفا أن طریق بیروت کان مسدوداً من الثلوج وبقی أربعین یوماً مسدوداً بین بیروت ودمشق.

سار القطار بنا، وکدنا نموت من البرد لأن أحد ألواح الزجاج مکسور ولیس فی العربات مدافئ عامة ”شوفاج سنترال“ وکانت عربات الرکوب قلیلة والرکاب کثیرین، ولم أتمکن من إیجاد محل، وقد تحایلنا على النافذة المکسورة وسددناها ببعض الأمتعة. وکانت مناظر الثلوج المتساقطة على الحقول والجبال رائعة جداً، ولما وصلنا إلى جسر المقارن انقطع الثلج. وفی المساء وصلنا إلى مدینة حیفا.

الوصول إلى حیفا

البارودی وسط السیاسیین السوریین فی بیته فی حی القنوات
البارودی وسط السیاسیین السوریین فی بیته فی حی القنوات

 

لم أجد فی حیفا فندقاً إلا فندق ”یعقوب لیفی“، ولم تکن الحالة بیننا وبین الیهود متوترة. وبعد أن استرحتُ قلیلاً خرجتُ إلى السوق، وتناولتُ طعامی فی دکان ”شوّا“، دکان قذرة على ”طاولة“ من الخشب ”مزّفّتة“ من الدهن الذی علیها، جعلت أدور فی البلدة لقضاء السهرة فلم أجد مقهى لائقاً بالمسافرین، ووجدت مسرحاً یضربون على بابه بآلات موسیقیة عسکریة ”کارینیت وبوکلی وطبل ترامبت“ فدخلت مع الداخلین، وکانت الأجرة نصف بشلک.

کان اللاعبون جوقة موسیقیة تمثیلیة مصریة. ولکن الجمیع کانوا من الرجال وبعد أن أسمعونا شیئاً من الغناء خرجت راقصة ممشوقة القوام وأجادت الرقص وأحسنته أیما إحسان. مما استلفت نظر الجمیع وبعد نزول الستارة خرجت تلم الإکرامیة ”البالصة“ فصار الناس یداعبونها، وإذا بها شاب صوته عریض یقلد النساء بالرقص وعلى رأسه شعر مستعار، وقد فهمت أن ظهور الراقصات على المسرح لا یجوز، وهو ممنوع بأمر القائم مقام ومسموح للرجال تقلید النساء وکان هذا فی البلاد العثمانیة معروفاً مشهوراً، والأتراک یسمون الرجل الذی یمثل دور البنات ”زینة“.

فی الصباح الباکر ذهبتُ أولاً إلى المیناء وسألت عن البواخر التی تسافر ذلک الیوم إلى الإسکندریة فأخبرونی أن إحدى بواخر الشرکة الخدیویة المسماة ”قُصیر“ ستصل العصر إلى حیفا وتقلع منها فی الساعة الرابعة عربیة لیلاً، أی فی الساعة العاشرة زوالیة مساءً.

وخرجتُ أفتّش عن محل ”عبدالله أفندی مخلص“ وهو من أصدقاء محمد بک کرد علی الذین یعتمد علیهم کل الاعتماد، وکنت أحمل إلیه کتاباً من صدیقه کرد علی یوصیه بی خیراً، فأرشدونی إلیه فی المیناء وکان مدیراً لـ”عنبر“ مستودع السکّة الحجازیة، فلما قرأ الکتاب رحّب بی ترحیباً قلبیاً وأجلسنی إلى جانبه وأحضر لی القهوة، وأخبرته خبری، فجعل یؤانسنی ویشجّعنی على المضی فی طریق العلم، واستعلم عن قدوم الباخرة ”القصیر“ وعرف أنها ستصل العصر، فأرسل بصحبتی أحد الکتاب المدعو رضا أفندی. وسِرنا إلى ”الآجنته الخدیویة“ مرکز فرع الشرکة فی حیفا لقطع تذکرة سفر، فتمنّع الموظف الإنکلیزی عن إعطائی التذکرة لأنی من دمشق، وکانت الحکومة المصریة لا تقبل دخول أحد الشامیین إلى القطر المصری خوفاً من أن یکون الشامی آتیاً من الحجاز، وکانت بلاد الحجاز موبوءة فی ذلک العام، وکان الخوف من دخول ”جراثیم الکولیرا“ إلى القُطْر. وعدتُ إلى عبدالله أفندی مخلص فقام وغاب مدة قلیلة وعاد ومعه أوراق رسمیة تثبت أنی من موظفی الخط الحجازی ومن الذین لم یذهبوا إلى الحجاز فی هذه السنة. وبناء على هذه الأوراق أخذتُ تذکرة سفر مع خصم 40 بالمئة لأنی من مستخدمی سکة الحجاز.

وبینما أنا فی المیناء بین ”العنبر“ و“الآجنته“ وإذ بسامی باشا مردم بک وهو من وجوه دمشق مع ابن عمه راشد باشا وبعض الدمشقیین مثل صادق أفندی جبری والدکتور سلیم أفندی صبری وغیرهم من التجار الذین فاتتنی أسماؤهم عرفوا بسفری إلى أوروبا ولا أدری من أین فهموا أنی ذاهب دون إذن والدی، فتجمهروا علیّ وجعلوا ینصحوننی بالعودة لأخذ إذن والدی وبعدها أسافر وأصرّوا علیّ، ولکنی لم ”أَخزِ“ الشیطان على رأیهم، وبقیت مُصرّاً على السفر.

وعلى الرغم من أنی لم أرکب البحر فی عمری، لم أخف ولم یُصبنی الدوار، وکنت أشجّع الملاحین وأحدّثهم وهم یضحکون کأنهم ذاهبون إلى منتزه، وقد بحّ صوتی من شدة الصیاح لأن هدیر الأمواج کان یذهب بالصوت أدراج الریاح ودخلت العتمة وکثر الضباب وبعدنا عن البلدة ولم یعد یظهر لنا إلا نور مصابیحها.

أقلعت بنا الباخرة من حیفا، وما کدنا نبحر حتى اشتد البحر وهاج وجعل یلعب بالباخرة کما تلعب الریح بالریشة، وقد تحمّل الرکاب، حتى بعض البحارة منهم، آلاماً شدیدة من الدوار، وذهب کلُّ راکب إلى فراشه، وذهبتُ إلى ”قمرتی“ ونمتُ إلى الصباح نوماً متقطعاً حتى صحوتُ فی الساعة السابعة من یوم الاثنین 20 شباط 1911 وصعدتُ إلى الظهر فوجدتُ الباخرة متجهة إلى یافا، والمدینة قریبة منا.

الوصول إلى یافا

----

صعد الباعة المتجولون من القوارب إلى الباخرة یحملون بضائع مختلفة أکثرها من مصنوعات القدس وضواحیها، وهی من خشبٍ محفور وأصداف مرصوفة ومسابح وصلبان وغیر ذلک من المصنوعات التی یعدّها متدینو المسیحیین من الآثار المقدسة ورکب فی الباخرة کثیرون من زوار القدس من الأوروبیین الذین کانوا منقطعین فی القدس منذ عشرین یوماً للنوء الشدید الذی حصل فی ذلک العام، وفی الساعة التاسعة زوالیة أقلعت بنا الباخرة من یافا. وفی الساعة التاسعة من صباح الثلاثاء الواقع فی 21 شباط 1911 ظهرت لنا مدینة بورسعید المصریة.

الوصول إلى بورسعید

فی الساعة الواحدة بعد الظهر ربطت الباخرة فی المیناء ونزل أکثر الرکاب رأساً إلى الرصیف دون استعمال القوارب، ونزلت مع رفیق تعرّفتُ علیه فی الباخرة یدعى ”کریاکو بک“ وهو أحد موظفی وزارة الزراعة فی الأستانة، أردنا التفرج على البلدة فحصلنا على رخصة من موظف جالس خلف منضدة من خشب وأمامه حاجز من الخشب ”کالدرابزین“ أخذنا إلیه حمّالٌ فی صدره قطعة نحاس محفور فیها رقمه. وکفلنا عند هذا الموظف بأننا سنعود بعد الفرجة على البلدة، وبعد أن تثبّت الموظف من أننا لم نکن فی الحجاز، سمح لنا بالخروج، فخرجنا من باب یحرسه رجل یسمونه ”عسکری“ أعطیته ورقة ”العتاقة“ التی أخذناها فسمح لنا بالمرور، فخرجنا ودرنا فی هذه البلدة اللطیفة التی أثّرت مناظرها بی تأثیراً کبیراً، لأنی لم أکن قد خرجتُ قبلاً من دمشق.

واصلنا فی سیرنا إلى دائرة البرید وکانت تسمى ”دائرة البوسطة“ فکتبتُ تحاریر إلى والدی وأصدقائی، ووضعتها فی صندوق البرید، وأتممنا الفسحة وتفرّجنا على الحدائق والشوارع.

ثم جلسنا فی أحد المقاهی نتناول کأساً من الشای، وإذ بجوقة موسیقیة مؤلفة من نساء ورجال دخلت المقهى وجعلت تعزف القطع الموسیقیة الإفرنجیة مما لم یکن لی عهد به، ودارت إحدى النساء وبیدها صینیة على الجالسین تستجدی منهم الأجرة، ویسمونها ”البلصة“ أو ”البالصة“.

وصلنا الباخرة وجاءنا الکفیل یطلب أجرته، وأقلعتِ الباخرة فی الساعة الرابعة والدقیقة الخامسة والأربعین، وسارت ببطء وانتشر الرکاب أفراداً وجماعات فی المماشی وعلى السطح.

الوصول إلى الإسکندریة

فی الساعة السادسة من صباح الأربعاء فی 24 شباط 1911 أیقظنی ”الکرسون“ معلناً وصولنا إلى الإسکندریة، فأسرعت بجمع حوائجی ووضعها فی الحقائب، وأفطرت ثم وقفت على سطح الباخرة أتمتع بمناظر المرفأ والسفن والحرکة فی هذا المرفأ الجمیل، ورست الباخرة جانب الرصیف وفی الساعة التاسعة ونزل الرکاب.

ولما صرنا على البر سألتُ عن البواخر المسافرة إلى مرسیلیا وأوقاتها، فأعلمونی أن باخرة ألمانیة ستقوم مساء الیوم إلى مرسیلیا اسمها ”البرنس هنری“.

الإبحار فی المتوسّط

فندق فی سان جرمان بباریس العام 1911
فندق فی سان جرمان بباریس العام 1911

 

تحرّکت بنا باخرة البرنس هنری Prinz Heinrich وهی من بواخر شرکة ”نورددوتشر لوید بریمن” Norddeutscher Lloyd Bremen وفیها 343 قمرة لعموم الدرجات؛ ”بریمو“ أولى، و”سیکوندو“ ثانیة، وجمیع القمرات فیها مغاسل تامة، وکلها نظیفة. وغیر هذه الدرجات، یوجد السطح ویسمونه ظهر الباخرة، والسفر علیه فی الصیف لطیفٌ جداً، أما فی الشتاء فهو مزعجٌ لما یصیب الراکب من تبدّل الأنواء من الدوار.

کان البحر فی غایة الهدوء والهواء علیلاً والرکاب یمرحون فی المماشی وعلى ظهر الباخرة یسیرون أزواجاً وفرادى. تقدّم منی شابان یتکلمان اللغة العربیة جیداً باللهجة المصریة، أحدهما یُدعى المسیو باروخ بنطاطا، والثانی یدعى باصیل بصالتی، وکلاهما یهودی، وجلسنا فی الممشى نتمتع بمناظر البحر والتموجات الخفیفة ونتحدث أحادیث مختلفة. وبدأ التعارف بین الرکاب وکان بینهم رجل ألمانی بدین یدعى ”الهر بریک“ خفیف الروح جداً لم یترک فرصة إلا اقتنصها للتفریج عن المسافرین وتسلیتهم.

 وبعدها انتحى کل جماعة من الرکاب ناحیة وجعلوا یلعبون الورق والشطرنج والنرد ودار باروخ ورفیقه باصیل على الحاضرین یسعون لتشکیل لعبة ”بوکر“، فتوقفوا لإیجاد بعض اللاعبین وسألونی: هل تلعب البوکر؟ قلت: لا. قالوا: تعال نعلمک إیاها. قلت: لا أرید. قالوا: لماذا؟ قلت: لأنها فی البدء لعبة بوکر، ولکنها فی النهایة ”بوق بیر“ ومعناها باللغة الترکیة ”أکل هوا..“. وکان جانبی رجلان یسمعان الحدیث، فضحکا وکلمانی باللغة الترکیة وهما رومیّان، وکان هذا الحدیث ورفضی اللعب سبباً لعقد أواصر الصداقة بیننا، أحدهما یدعى قسطاکی أفندی والثانی جورجی أفندی، وقد قضیت أکثر أوقات السفر من الإسکندریة إلى مرسیلیا بصحبتهما.

ثم تقدّم منی شاب إیطالی وعرّفنی بنفسه، ویدعى المسیو میشیل سبیرناک، یتکلّم اللغة الإفرنسیة بصعوبة، هذا الشاب جاءنی یوماً إلى غرفتی، وجلس عندی یحدثنی بلغة إفرنسیة مکسّرة، ومع الأسف کانت إفرنسیتی مکسّرة أکثر منه، وبعد فترة من الزمن أخرج من جیبه رسومَ بنات عاریات بأوضاع مختلفة، ورسوماً أخرى فیها مناظر فحش، وأفهمنی أن الباخرة سوف تقف فی نابولی وأنه یعرف نابولی وله فیها صدیقات من هؤلاء النسوة وقدّم نفسه لی کدلیل خیر یحب خدمة الإنسانیة مقابل أجر طفیف لا یزید عن الخمسین فرنکاً مقابل تعریفی بإحدى الفتیات الجمیلات، فصرفته بالحُسنى وتجنّبته بعد ذلک، وعندما نزلنا فی نابولی ”فرکتُها“ منه.

جلست أطالع فی کتاب ”تاریخ العباسیین“ وغرقت بالمطالعة ومرت أمامی تلک العصور الزاهیة ثم أدوار الانحطاط، فترکت الکتاب وجعلت أفکّر بأمّتی العربیة وهل یعود لها عزّها فترجع أمّة حیة بین الأمم أم نبقى عالة على البشریة نأکل ونشرب وننام کالحیوانات؟

بقیتُ سابحاً بهذه الأفکار إلى أن نبهنی إعلان الندل بضرب جرس الطعام. فنزل الرکاب جمیعهم إلى الموائد، ومن نعم الله علیّ أننی کنت ممن اعتاد أن یأکل على الطریقة الغربیة.

هیاج البحر

فی الیوم الثانی من رکوبنا البحر اشتدّت الأنواء وکبر البحر وجعلت الأمواج تلعب بالباخرة لعب القط بالفأر، وداخ أکثر الرکاب، وفی الیوم التالی هدأ البحر قلیلاً وبقینا إلى المساء لا نرى إلا الماء والسماء.

وفی الساعة الخامسة ظهرت لنا أراضی صقلیة، ثم بدأت تظهر لنا أراضی قالابریا عن بُعد. وبعد صقلیة دخلنا ”بوغاز مسینا“ وهو مضیق بین أراضی صقلیة وقالابریا. وبقیت الباخرة فی المضیق أکثر من ساعتین ونصف والنوء شدید، حتى أن الموج کان عند میل الباخرة على أحد جانبیها یضرب من فوق السطح، وعندما تستوی الباخرة تسیل المیاه من الجانب الآخر.

وفی العاشرة من صباح السبت الواقع فی 25 شباط 1911 قرع جرس الطعام فنزلنا إلى الغرفة متسائلین عن سبب تقدیم الوقت، فقالوا إن الباخرة ستصل إلى ثغر نابولی.

الوصول إلى نابولی

نابولی العام 1911
نابولی العام 1911

 

فی الساعة الحادیة عشرة بانت لنا نابولی، وکلما تقدّمت الباخرة کانت تظهر لنا الیابسة، ونابولی ثغرٌ من أبدع ثغور البحر المتوسط، وهی فی غایة الجمال بمناظرها الطبیعیة فکأنّها عروسٌ قائمة على ساحل البحر المتوسط، فیها أشجار باسقة وبساتین بدیعة.

وقرب الظهر وقفت الباخرة فی المیناء وتقرّب منی المسیو سبیرناک الإیطالی متحکّکاً یرید أن ننزل معاً فیکون دلیلی فی نابولی، فرفضتُ بصراحة واستأجرت عربة.

الفن والفقر فی إیطالیا

فخری بک البارودی فی شبابه بعد عودته من رحلته الأوروبیة
فخری بک البارودی فی شبابه بعد عودته من رحلته الأوروبیة

 

کان من أجمل ما رأیته فی نابولی سوق الملک، وهو بنایة على هیئة الصلیب مبنیة على شکل خطین متقاطعین مسقوفة بالزجاج، ویحسّ السائح من النظرة الأولى أن أکثر أهل إیطالیا من الفقراء. ومن یدقّق فی وجوه الطبقة العاملة یرى فیها الشحوب ظاهراً، واستجداء الإیطالیین السکایر من السیاح مباحٌ ولا یجد الإیطالیون أیّ عار بطلب السکایر من الغرباء. والدلیل على کثرة الفقراء فی ذلک الزمن وقوف عشرات النساء على رصیف المیناء ینتظرن الشبان الأغراب للاجتماع إلیهن وکسب بعض الدراهم من بیع أنفسهن فی سوق اللذة.

تمشیت إلى مطعم قریب وقلت ما دمت الآن فی إیطالیا فلأجرّب أکلتها الوطنیة، فقلت لرجل واقف ”مسیر منجریة معکرونة“، فضحک ودلنی على مطعم قریب وهناک طلبت بالإشارة صحناً من المعکرونة، فأحضروه لی بعد ربع ساعة مع صحن من الجبن المبروش وبالحقیقة وجدت بهذا النوع لذة فائقة لا نعرفها فی المعکرونة التی نأکلها فی بلدنا. وللطلیان اعتناء تام بهذا الطعام ولهم فی طبخه عدة طرق. وإنی أقول: کما أن ”الکُبَّة“ هی الطعام الوطنی للسوریین، ”فالمعکرونة” هی الطعام الوطنی للإیطالیین والبطاطا للإفرنسیین.

وبینما أنا أتنقل فی المیناء مرّ بی عدد من الشبان یحملون هیاکل ”جبصین“ أو من الرخام الأبیض والملون المرکبة مع المعادن، إنْ من أوانی الزینة أو من أوانی الاستعمال، وهی غایة فی الإبداع والجمال، وهی من أشهر الصنعات فی إیطالیا. کما أن أهلها مشهورون أیضاً بالموسیقى وصُنع أوائلها على اختلاف أنواعها. أما أهل نابولی فکانوا أسرق من الفار وأحرق من النار، وإیطالیا عموماً کانت مشهورة بتصدیر اللصوص إلى العالم. وإذا لم یکن الغریب واعیاً لا شک أنه یکون عرضة حتى لسرقة قبعته، ومما وقع لی أنه کان فی رجلی عندما نزلت إلى نابولی ”کندرة صب“ خوفاً من الطین، ولما جلستُ فی ”القهوة ـ المقهى“ نادیت ماسح أحذیة ”بویه جی“، وبعد أن مسح حذائی أعطیته کندرة الصبّ لیمسحها، فمسحها ووضعها فی جانبی وذهب، وما کاد یتوارى عن عینی حتى التفتُّ فلم أجدها وعبثاً حاولت البحث عنها، وقد راجعتُ البولیس الواقف فلم أقدر أن أفهمه مقصدی ولا فهمت منه ما قاله، وطلبتُ عوضی من الله.

ارسال نظر