الشعر الحر «النیمائی»
آزادة میر شکاک
مرّ الشعر الحر (النیمائی) فی إیران بفترة مثیرة وساخنة منذ خواتیم عقد الستینیات من القرن العشرین حتى انتصار الثورة الإسالمیة مطلع العام 1979م، حتى إننا لو أردنا تسلیط الأضواء على الجیل الثالث من شعراء النمط الحر، لکان هذا الجیل جیل الشعر ولیس جیل الشعراء. أی أنه جیل المواکبة الجماعیة الواحد فی استخدام الشعر الحر کأداة لعرض المفاهیم الاجتماعیة والمحن السیاسیة والاقتصادیة فی إیران عشیة الثورة الإسلامیة.
تصاعد الکفاح السیاسی فی إیران فی تلک الأعوام والاضطراب الذی ساد الأوساط التنویریة والأدبیة والسیاسیة آنذاک، مثّلا بمجموعهما ظروفاً لم یکن فی وسع الشعراء الشبان المتحمسین أن یمروا بها مرور الکرام.
امتزج الشعر بالسیاسة والهموم الاجتماعیة أکثر من السابق، وتکرّس الصراع والتمایز بین الشعر الملتزم والشعر غیر الملتزم. فی عام 1970م، کان ذروة السجالات الکتابیة حول الفن الملتزم فی إیران، ففی ذلک الحین فارقت الشعراء بقایا الخمود والخیبة التی استحوذت علیهم بعد انقلاب «آب» فی العام 1953م، ضد حکومة الدکتور مصدق، وأضحى المنجز الشعری وسیلة دفاع عن المواقف السیاسیة والاجتماعیة، وأداة نضالیة ضد النظام البهلوی، وبلسماً لجراح الجماهیر المعذبة والشرائح المضطهدة فی إیران.
إذاً، توزع الشعر على نمطین: شعر النضال والثورة، وشعر رکَنَ إلى نظریة الفن للفن؛ وأکد أن الأدب والشعر وجمالیاته ینبغی أن لا تنحر على صخرة المصالح والمتطلبات الوقتیة. من وجهة نظر أنصار هذا المنحى یجب على الشعر قبل کل شیء أن یلتزم بکونه شعراً ویرتکز على جوهرة الشعر الأصیل، ویلتزم بمفاهیم وموضوعات لا ینال منها تعاقب العصور والظروف السیاسیة والاجتماعیة المتغیرة.
بید أن المجتمع الثوری المتوتر آنذاک لم یکن فی وسعه الاکتراث لهذه النظریات، فانتشر الشعر الثوری الملتزم فی المجتمع مع مستهل السبعینیات إلى درجة ضیق معها الخناق على الأنماط والمدارس
الأخرى.
یدالله رؤیائی مؤسس «شعر الأحجام» فی إیران ودّع بلاده إلى الأبد، وتراجع سهراب سبهری وقصائده العرفانیة المیالة إلى العزلة. ومع أنه واصل إصدار أعماله فی السبعینیات، غیر أن هذه الأعمال لم تکن بمتانة أعماله السابقة والوسیطة إبان فترة نضجه الذهبیة. و (أخوان ثالث) رائد مدرسة الیأس والقنوط فی الشعر اعتزل الإنتاج الجید تقریباً... أما شعراء «التیار الجدید» فرغم مواصلتهم نشاطهم الأدبی إلا أنهم تماشوا مع حناجر شعراء الثورة والنضال، التی أطلقت الأصوات الأقوى فی الساحة الأدبیة حینذاک.
واکب آخرون الشعر الملتزم إما للإبقاء على تجربتهم الشعریة والحؤول دون خمولها، و إما بدافع الصدق ومعاضدة الجماهیر المضطهدة فی إیران. فی هذا الخضم، تقدم أحمد شاملو - الوارد اسمه فی الجیل الأوّل من أتباع مدرسة الشعر الحر– مع التطورات الاجتماعیة والسیاسیة وجعل مشواره ومنجزه مرآة لأحوال مجتمعه.
سیاوش کسرائی واحد آخر من الشعراء الذین صوروا مفهوم الکفاح والالتزام فی نتاجاتهم بطریقة حالفها التوفیق.
وعلى الرغم من لغة أحمد رضا أحمدی الشعریة الخاصة وجمیع تبایناته الواضحة مع أعمال الآخرین، لکنه واکب بدوره تیار الشعر الملتزم.
الشعر فی الفترة التی نناقشها کان شعر النضال، والسیاسة، والالتزام، والثورة، إنه شعر النقد الذاتی، شعر هیمنة الرؤى السیاسیة والجهادیة على الرؤى الجمالیة.
فی کل حال، مواکبة التطورات السیاسیة والاجتماعیة المتسارعة منعت شعراء کثیرین من الترکیز على الدقائق الجمالیة، وطبعاً کان عدم اکتراث کثیر من الشعراء باللغة، بمنزلة تمرد ثوری أبدوه حیال أرستقراطیة اللغة الفاخرة، کأنه کان موقفهم الدفاعی عن لغة عموم الشعب.
من خصائص الشعر الثوری الملتزم فی هذه الفترة یمکن الإشارة إلى ما یلی:
من الأحداث المهمة فی هذه الحقبة وفاة هوشنک إیرانی وفروغ فرخ زاد، فقد توفیت فروغ فرخ زاد فی شباط من العام 1967م، نتیجة حادث سیر وهی لمّا تزل فی الثانیة والثلاثین من عمرها، حین کانت تجربتها الشعریة فی ذروة ازدهارها اللغوی. وقد غمرت الأوساط الفنیة فی إیران ولاسیما أصدقاء الشاعرة أحاسیس ضاغطة لرحیل هذه الشاعرة المبدعة.
بعد خمس سنین من وفاتها تمّ فی العام 1971م، تأسیس جائزة أدبیة باسمها، وکانت اللجنة المسؤولة تهدی هذه الجائزة سنویاً، فی ذکرى وفاة فروغ، لأفضل شاعرأ وقاص خلال العام وإلى شاعر أو أکثر من الشبان.
الجدیر بالذکر أن الاهتمام بهذه الجائزة راح یتضاءل ویبهت تدریجیاً مع تصاعد وتیرة الاضطرابات السیاسیة والجهاد الشعبی الشامل ضد نظام الحکم الشاهنشاهی.
یعد هوشنک إیرانی من الشعراء أصحاب الأسلوب والمنحى الممیز، ومن رواد الشعر الحدیث فی إیران، کان قبل سنوات من وفاته قد هجر الأروقة الأدبیة واختار لنفسه ضرباً من العزلة العرفانیة. ومع أنه تعرض للاستهزاء والسخریة من قبل النقاد والمهتمین منذ مطلع مشواره الأدبی، إلا أن إبداعاته وجرأته اللغویة شجعت الشعراء الشبان والأجیال التی تلته على التعبیر بطرائق غیر مسبوقة. إلا أن النقاد لم ینصفوه فی حیاته أکثر مما فعلوا بعد وفاته فی أیلول 1973م.
من تلک الأحداث المهمة الأخرى، فی هذه السنوات، انبثاق تیار عرف باسم «الشعر الأصیل الخالص» أو «التیار الأصیل الخالص» بریادة منوچهر آتشی، سنتناوله بإیجاز فی صفحات تالیة من هذا البحث.
سنسلط الأضواء هنا على عدد من الشعراء ذاع صیتهم فی تلک الفترة، ونرکز فی الصفحات التالیة على الشعر بدل التأکید على الشعراء، ونعرض مختارات من القصائد المشهورة لتلک المرحلة.
من البدیهی أن تکون بعض هذه الأشعار لشعراء تم التعریف بهم فی مجلات ودراسات سابقة، لکن کما أسلفنا ینبغی البحث عن الجیل الثالث من شعراء المدرسة الحرة فی نتاجات هذه الفترة... النتاجات التی ترکت بصماتها فی لغة ومضامین العدید من الشعراء المجیدین فی تلک الآونة.
کیومرث منشی زادة (1945م، کرمان)
منشی زادة شاعر انطلق فی بدایاته ب «الغزل » ثم انتقل إلى الشعر الحر، وتحول منه إلى قصیدة النثر. لغته بسیطة، ساخرة، حزینة، غاصة بالکنایات والإیماء والأسطورة والریاضیات.
درس منشی زادة الریاضیات والفلسفة وکان له باعٌ فی الأدب الساخر. إنه شاعر عدمی لا یمکنه الاکتراث لشیء فی العالم بما فی ذلک شعره، وربما لهذا السبب لم تصدر له حتى الآن سوى مجموعتین:
فی العام 1973م، فاز منشی زادة بجائزة فروغ فی قسم الشعر الشبانی لقاء مجموعته «رحلة الرجل المالیخولی».
البعد الخامس، الحریة
الدائرة تبقى عاکفة على مرکزها
لتثبت تساوی أقطارها...
إلى متى نکره أقطار الدائرة
على اتباع بعضها...؟
صریر السلاسل
یحطم فی عینیّ
نشید الحریة
انتظار الحریة مزدحم بالأسى
کما لو نقش میثاق حقوق الإنسان
على جدران أفران حرق البشر
فالإنسان لا یولد حراً
حتى یعیش حراً
ویموت حرا.ً..
الإنسان دائرة حزینة تتکرر.
منوجهر نیستانی (1936 - 1981م)
نیستانی شاعر مجتمعی له قصائد یمکن أن توصف بأنها عمّالیة. لغته الشعریة ساخرة مریرة ولاذعة، تعکس عناصر الحیاة الیومیة بأسلوب عنیف موجع ولمحات وتعابیر عامیة. بین مجامیعه تتسنى الإشارة إلى: «الأمس»، «الشارحة»، «الخراب» نقرأ سطوراً من مطولته «المعمل» التی تصور الواقع المأساوی لشریحة العمال:
کلُّ زرٍّ هنا موصول بالکهرباء
العمل، الکد، الحدید، والسواعد...
فی کل زاویة تلال، الفولاذ
یضطجع
على الأرض المزیتة
ومعه دخان العالم
ینفث من صدر الصداقة القدیمة...
الصدر المسلول الصبور
طوفانٌ متغطرسٌ یتدفق من آلاف العجلات
یخطف هاهنا أزهار کلماتک الیانعة
من الشفاه
لیقذفها عبر المداخن إلى الخارج
هنا،مخزن
انفجارات متواصلة مدویة
تراقصُ الشفاه الصامت.. هو الرسول بین القلوب!
خسرو کُل سرخی (1943م، رشت)
کان گل سرخی صحافیاً وشاعراً مناضلاً ذاق طعم السجون والتعذیب مراراً فی زمن النظام البهلوی. لم یکن شاعراً کبیراً لکنه عاش حیاةً شاعریة، وربما أتیح القول إن نمط حیاته ولاسیما موته کان أفضل قصائده. فی شباط من العام 1973م، حکمت علیه المحکمة العسکریة بالإعدام بتهمة المشارکة فی مخطط لاختطاف الشاه (أو ولی العهد) وارتهانه، وبسبب دفاعه عن معتقداته، وذلک بعد أن أمضى شهوراً فی سجون السافاک. ترک إعدامه تأثیرات ملموسة فی المناخ المتوتر فی عقد السبعینیات ودفع عجلة الشعر الثوری إلى الأمام بقوة.
جاء...
یده فی الأغلال
لم یرَ عُری یدیّ
من خلف القضبان
لکن فی لحظة من اللحظات
بکى فی تلاطم عینیّ
لم یقل شیئاً
وغادر
والآن... تتسرب الأشباح من کل الطرقات
والشمس... تُشنق خلف رموشی.
حسین منزوی (1946 – 2004م)
منزوی شاعر استهل رحلته الأدبیة بالشعر الحر وانتهى إلى القوالب الکلاسیکیة وخصوصاً الغزل. مجموعته الشعریة «حنجرة الغزل الجریحة» کانت أهم المجامیع الشبانیة فی العام (1971م)، وقد فازت حینها بجائزة فروغ.
من أعماله «البساط والغزل» و «الکهرمان والکافور» و«مختارات».
طلبتُ من الحبِّ أن یعود
وخلف ضباب التاریخ الداکن
لما کان الحبُّ عائداً
لمحتُ عینیْ لیلى العامریة تفیضان بالأسى
وضفائرها السود تمتلىء بالحداد
کانت تطیر حمائم نظراتها
من أعماق عینیها الثاکلتین
تطیُّرها بحثاً عنها...
لیلى لم تکن قد صدمت
الفجیعة بعد...
مع أنها شاهدت جنازتها
فی سیارة إسعاف بلا رقم
فی ألف مکان من المدینة
ألف مرة کل یوم...
لکنها لم تکن قد صدقت
الفجیعة بعد..
کیف یمکن للیلى أن تموت؟
***
من قصیدة (الحسرة)
وأنا وصلتُ متأخراً دائماً
ربما بالقطار السابق کل مرة
کان یجب أن آتی...
ورجل وصل قبلی
اصطاد سمکتی الکبیرة
وأنا وصلت متأخراً مرةً ثانیة
صنارتی تمزق حنجرتی
وأنتِ کما الحور
تغسلین جسدکِ
فی المیاه البعیدة.
طاهرة صفار زادة (1936م سیرجان)
من الشاعرات المعروفات فی العقود الأخیرة، ومن أبرز رموز الشعر الدینی الثوری. یشکل شعرها ترکیبة من الحداثة والصراحة والبساطة، ویتمثَّل تجدیدها الشعری بالمزاوجة الجادة بین الشعر والمضامین الدینیة الإسلامیة، ویوجد فی کثیر من أبیاتها إشارات مباشرة لآیات قرآنیة وأحداث من تاریخ الإسلام.
فی الوقت الذی تزخر فیه نتاجات صفار زادة بالعناصر والإیماءات والإشارات الدینیة، تمیزت لغتها بالحداثة والریادة، وتمکّنها من اللغتین العربیة والإنجلیزیة خوَّلها إنجاز مشاریع مهمة فی الترجمة، إضافة إلى إثراء تجربتها الشعریة بنحو واضح.
من أعمالها: «عابر القمر» و«المظلة الحمراء» و«طنین فی الدلتا» و«الحرکة والأمس» و «السفر الخامس » و«السد والسواعد ...».
قصیدة «رحلة الألفیة» لصفار زادة، التی أهدتها إلى الدکتور علی شریعتی، من الأعمال الشهیرة فی عقد السبعینیات، وقد أثارت حینئذ کثیراً من النقاش والسجالات فی الصحافة. کانت صفار زادة أوّل من أطلق فی الأدب الإیرانی نمطاً شعریاً اسمه «شعر الکونکریت» على غرار ما فی الآداب الغربیة. ویعد هذا النمط محاولة ضمن سیاق المزاوجة بین المرئی والمسموع فی الشعر، ففی هذا الأسلوب یصار إلى التعبیر عن المفهوم الشعری بتصویر الأشیاء المکتوبة والتقطیع التجسیمی للکلمات.
(طنین فی الدلتا) لطاهرة صفار زاده کانت المجموعة الأولى الرامیة إلى تعریف شعر (الکونکریت) وإشاعته فی إیران.
وهذه سطور من قصیدة (ندوة المروءة) من مجموعة (طنین فی الدلتا)، ومن ثم مقطوعات قصیرة لطاهرة صفار زادة:
لیتنی
کنت أستطیع
أن أبکی
دماء شرایینی
قطرةً
قطرةً
قطرةً
حتى یصدقونی...
فی نهایة وادی الضباب
رصیف السحب...
السحب الحاجبة الممطرة
سحب أی حنجرة هذه التی تهطل؟
فی أی ألفیة نحن؟
لا بد أن نحمل أعباء بلور ابنها
إلى أعلى التل والفلاة
صوت نبضک یقظ.
جاء الصباح
وأنت راحل
وحلّ العشق
وأنت غائب
ما الحیلة...؟
لون الجدار لا یناسب الستائر
ولون السجادة لا یناسب أیاً منهما...
أنا مع الطریق
والطریق معی
متوحدان إلى الأبد...
وأنا فی الطریق إلى الأبد...
وعینای العاشقتان
تکتنزان لون الوصول إلى الأبد...
انطلق التیار الحدیث أو «الموجة الجدیدة» من دون عنوان محدد وبأسلوب یرفض المألوف ویتحرى الجرأة اللغویة التی انتهجها هوشنک إیرانی، وبقی هذا التیار فی الظل من الساحة الأدبیة الإیرانیة، إلى أن أعلن عن نفسه رسمیاً بصدور مجموعة (المشروع) لأحمد رضا أحمدی فی العام (1962)م.
أطلق هذا التیار دعوات الإبداع وتفکیک المألوف بنحو أکثر تطرفاً مما فعله نیما فی تجدیداته اللغویة، فادعى إیجاد نمط شعری لا سبیل للعناصر والعوامل غیر الشاعریة إلیه.
وحسب المستطاع هنا نذکر خصائص التیار الحدیث فی النقاط التالیة:
التیار الجدید کان بمنزلة تمرُّد على التقالید بما فیها أسالیب الشعر الحر وشعراء الجیل الأول.
وهذه سطور من قصیدة (ابن أخی، الطائر الورقی) من مجموعة (لمشروع):
ابن أخی
یبحث ببکائه
عن طائر ورقی
طائر ورقی أصیب بالبکم
طائر ورقی أضحى وشاح الصورة المعلقة على عینی:
حتى لا تهجم الریاح، والأمطار، والشمس، والزعل، والصلح
على تلک الصورة
ابن أخی یقرأ خلف الصورة بلا ضحک ولا بکاء
یقرأ بصوته... وهو الذکرى الوحیدة من الطائر الورقی:
مرةً أخرى لما وجدونی وجدوا شیئاً
کان قد وجده شخص آخر.
تمرد التیار الجدید على کل التقالید والقواعد وظهر فی أشکال مضطربة مُربَکة، لذلک مثّل أرضیة لشعراء قلیلی التعلیم والموهبة أو ربما عدیمی التعلیم والموهبة؛ کی یتکتموا خلف هذا الظاهر المشوش على ضعفهم وجهلهم بالشعر وضروراته، ونشروا کل ما یخطر فی بالهم تحت مظلة التیار الحدیث، ما أدى إلى ما یشبه الفوضى فی اللغة الشعریة والحطّ من مکانة الشعر الحدیث.
أیاً کان، تفاعل التیار الحدیث کأول حالة تجدیدیة جادّة فی الشعر الإیرانی بعد نیما وشعراء الجیلین الأوّل والثانی، وقد تشعب إلى تیارات وأنماط عدة منها الشعر التشکیلی، وشعر الأحجام، والشعر الأصیل الخالص...
حاول إسماعیل نوری علاء أحد شعراء ونقاد التیار الحدیث بعد مشاهدته الفوضى اللغویة التی أفرزها هذا التیار، أن یحمیه من الاضطراب ویبعثه من جدید بعنوان غیر مسبوق، وذلک عن طریق تأسیس ورشة شعریة فی مجلة فردوسی.
وکانت حصیلة هذه الورشة الشعریة - فضلاً عن نشر القصائد والمقالات النقدیة- نوعاً من الموجة الجدیدة التی سماها نوری علاء «الشعر التشکیلی» وعدَّه ثمرة المزج بین الشعر الحر (النیمائی) وشعر التیار الجدید.
نه أسلوب شعری لیس فیه تبعیة الشعر النیمائی الشدیدة للأدب الکلاسیکی الفارسی، ولا حیرة التیار الحدیث وتخبطاته الواعیة وغیر الواعیة.
استلهم الشعر التشکیلی من الأسلوب النیمائی قوة البیان ونضج اللغة، ومن التیار الحدیث صناعة الصور وتعقید التعابیر والخیال المجنَّح، وظهر بذلک کأسلوب واضح یتحاشى الغموض والتعمیة وله لغة تصویریة تنبع من ذهنیة مبدعة حرة.
شعر الأحجام (اسباسمانتالزم) الذی تأسس بریادة یدالله رؤیائی، أعلن عن قواعده ومنحاه فی بیان أصدره أنصاره فی العام (1969م). أسس رؤیائی النقد «الشکلی» فی إیران واستلهم خصائص شعر الأحجام من النظریة الشکلانیة (الفرمالیسیة). ومن هذه الخصائص یمکن الإشارة إلى:
جعل مجموع هذه الخصائص شعر الأحجام بعید المنال وعصیاً على الفهم؛ ما تسبب فی هجرة الجمهور وعدم إقباله علیه.
علی موسوی گرمارودی (1941م)
گرمارودی شاعر، مترجم، باحث، کاتب قصة وأستاذ اللغة والآداب الفارسیة فی جامعات إیران. أهم مزایاه الشعریة، کما هی صفار زادة، اکتظاظ منجزه بالمضامین الدینیة والإسلامیة.
یعد گرمارودی من الشعراء المجاهدین الثوار فی السبعینیات، وقد سجنته مراراً أجهزة النظام البهلوی بسبب تعبیره عن الحقیقة، لکنه مع ذلک یعزف عن العمل السیاسی المعارض.
کان له ولطاهرة صفار زادة دور أساسی فی شعر الثورة والمقاومة فی إیران، وقد تواصلت تجربتاهما بعد انتصار الثورة أیضاً وتطورتا وازدادتا ثراءً بإستمرار، وکانا من الشعراء المخضرمین الذین تألقت نتاجاتهم قبل الثورة الإسلامیة وبعدها، لذلک ینبغی دراسة أعمالهما ضمن الشعر الإیرانی بعد الثورة.
تطرق گرمارودی فی کثیر من قصائده التی أبدعها بالأسلوب الحر أو قصیدة النثر لشخصیات الرسول الأکرم (ص)، والإمام علی (ع)، وملحمة عاشوراء، ومحطات دینیة من هذا القبیل.
من أعماله یمکن الإشارة إلى ترجمة أدبیة للقرآن الکریم، و«الانسیاب والتکلف فی شعر حافظ» و«بحث فی الأدب الساخر» و« ضحک آخر». وترجمت مختارات من شعره إلى العربیة بقلم عبد اللطیف الزبیدی.
من أهم مجموعاته القصصیة: (مسلخ الحب) و(قصة الأنبیاء) و(مع ذنب الأسد)، کما صدرت له مجموعات شعریة عدیدة نکتفی منها بذکر: (العبور)، (نشید الشآبیب)، (حشائش الزهور)، (فی فصل الموت الأحمر)، (خط الدماء)، ( إطار الغضب)، (فی الضفة مع البحر).
نقرأ سطوراً من قصیدة مهمة له، صدرت فی العام (1978م)، عشیة انتصار الثورة:
حینما عاد الجندی إلى البیت
قالت أمه: غیّر ملابسک
أصیب أخوک برصاصة
تعال ندفنه فی الحدیقة
قال الجندی:
أدری یا أماه
أنا رمیته
جنکیز لیس دمویاً أکثر من اللحظات
زمنٌ لا یشبع
بین الشهادة والشقاوة
مسافة بطول البندقیة
فی أی جهة من البندقیة تقف؟
هذه هی القضیة
ساماً على الشجرة مرة أخرى
فطالما کانت حیة
لم یصنع منها کعب بندقیة
فرخ تمیمی (1933م نیشابور)
تمیمی من أتباع ید الله ر ؤیائی ومدرسة (شعر الأحجام)، وقد عمل فی الترجمة فضلاً عن نظمه الشعر، وترجم أعمالاً من قبیل: الأدب المعاصر، فی أمریکا اللاتینیة، ورجال خاوون، (قصیدة تی، إس، إلیوت)، والعالم من منظار هیسیه (کلمات قصار لهرمان هیسیه) وحماس الذهن البشری
)سیرة فروید).
تتمیز لغته الشعریة بشیء من التعقید والغموض بسبب انتمائه إلى تیار (الأحجام)، ومع ذلک فهی زاخرة بالعواطف الأصیلة، التی تجعل بعض أعماله أسهل وألطف من أعمال سائر الشعراء المصنفین على تیار الأحجام.
هم مجموعاته الشعریة: (الأرض الطاهرة) و(متعب من سواد التکرار) و(الجدار) و(من أرض المرآة والحجر).
(أصابعک الممشوقة)
هؤلاء المعلمون العطوفون
یبدؤون ولادةً فی داخلی
إنی أتمتم الأبدیة
وأتلو على جبل عال:
أیها المعلمون افتحوا أمامی کتاباً
یتحدث عن أبدیة الحب
ویحصد الإجابة
فی جبال الشوق.
هوشنک جالنکی (1941م مسجد سلیمان)
مع أن جالنکی کان وجهاً معروفاً لدى المهتمین بالشعر فی الستینیات والسبعینیات، إلا أنه تأخر کثیراً فی إصدار مجموعته الشعریة الأولى (الجرس الکسول)، التی رأت النور بعد ثلاثین عاماً من
بدء مشواره الأدبی.
کان جالنکی ممن تأثروا بشدة بیدالله رؤیائی وتیار الأحجام، وکانت لغته الشعریة رائدة ومتمردة على الأنماط المألوفة، وترکت أشعاره ومناخه اللغوی تأثیرات مهمة فی شعراء (التیار الأصیل)، وهنا نستعرض مقتطف من شعره:
یمدّ الغروب جناحیه
تمد النجوم أجنحتها
قبل أن تسارع إلى لقاء بعضها
آه أیتها النبتة البعیدة
حوار العصر
نجمة روحی واحسرتاه
سحر اللیل
حیث کنا والهین
قبل أن یرتاح القمر
ما من یوم آخر
کذلک الیوم
ومن یدری
فی أی زوایا اللیل
تختبىء الطیور.
محمد رضا شفیعی کدکنی (موالید 1939م).
هو أستاذ اللغة الفارسیة وآدابها، شاعر، باحث، مترجم، ناقد وأحد صناع تیار الشعر الاجتماعی– السیاسی قبل الثورة.
صدرت مجموعته الشعریة الأولى بعنوان «زمازم» فی العام (1965م)، تلتها مجموعات أخرى هی: (من لغة الأوراق) و(من أزقة نیشابور) و(عن الحیاة والشعر) و(أریج جدول مولیان) و(کالشجرة فی لیلة ماطرة) و(الألفیة الثانیة للغزال الجبلی).
یعد شفیعی من رواد ترجمة الشعر والآداب العربیة إلى الفارسیة. ومن الشعراء العرب الذین نقلوا نتاجاتهم إلى الفارسیة نشیر إلى عبد الوهاب البیاتی، وصلاح عبد الصبور، وبلند الحیدری، وأدونیس. فیمایلی سطور من مطولته «عن الحیاة و الشعر»:
انهض فقد وافى الصباح
یقول صیاح الدیک
سرِّح النومَ والتعبَ
فی شاطئ اللیل
نادِ سکارى منتصف اللیل
والشطّار العطاشى
نادِهم مرة أخرى فی کل الأزقة
حطّم نوم النوافذ
بنعرات الأحجار
افتح بوابات المساء
مرة أخرى
على الفجر
افتحها بفرح وبهجة.
التیار الأصیل، تیار الشعر الخالص
کما ذکرنا فی الصفحات الأولى من هذا البحث فإن (التیار الأصیل الخالص) یعد من الأحداث المؤثرة فی الشعر الإیرانی إبان عقد السبعینیات. وقد ولد هذا التیار فی أجواء شهدت استهزاء الشعراء المناضلین بالشعر الحدیث وتعقیداته اللغویة من ناحیة، ومن ناحیة أخرى عدم استطاعة شعراء (التیار الحدیث) و(شعر الأحجام) و(قصیدة المطاط) انتشال أعمالهم من الحیرة والضیاع أمام النقاد والجمهور.
انطلق (التیار الأصیل) برعایة منوچهر آتشی وعدة شعراء شبان غالبیتهم من مدینة مسجد سلیمان، منهم: علی صالحی، یار محمد أسد بور، آریا آریان بور، هرمز علی بور، سیروس رادمنش، فیروزه میزانی.
کان معظم هؤلاء الشعراء ممن اعتزلوا الشعر تماماً فی الأطوار اللاحقة من حیاتهم، أو ممن بلغوا بعد الثورة مرتبة الاستقلال اللغوی التام وواصلوا مسارهم کشعراء من الدرجة الأولى. ونال علی صالحی جائزة فروغ للشعر عام (1977م)، إن التیار الأصیل أو الشعر الأصیل هو فی الحقیقة صیغة معدلة لشعر التیار الجدید الخالص أو شعر الأحجام، فهو یحافظ برغم تعقید الصورة والخیال فیه على تواصله مع الشعر الحر وشعرائه الأوائل، ویحاول البلوغ بلغته درجة الاستقرار والتوازن بحیث لا تُنفّر عنها المتلقین بسبب حداثتها وتفاعلها خارج الأطر المألوفة.
وفیما یلی نماذج لشعراء من هذا التیار:
هرمز علی بور (1955)
کنت أشیر إلى جهة الحب
إلى رغبة القلب
فما الذی جعلنی أحظى
بمقام سامق إلى جانب الآهات؟
وما الذی جعل آثار أقدام السحب
محفورة على أهدابی؟
شفتای متربتان
قبّلتُ زخارف جسد الثعبان
بلا أی ریاء
وها أنذا عالم من سموم!