قصة قصیرة

هاویة / نرجس آبیار

هاویة / نرجس آبیار
قاصة و روائیة، ومخرجة سینمائیة. ولدت عام 1970 فی طهران. تحمل إجازة جامعیة فی فرع اللغة الفارسیة. تکتب للکبار والصغار وقد نشرت أکثر من خمسة عشر کتابا قصصیا وروائیا.
سه‌شنبه ۲۵ خرداد ۱۴۰۰ - ۱۱:۱۰
کد خبر :  ۱۴۳۷۸۲

 

 

 

 

 

هــاویـــــة

 

نــرجس آبــیــار

ترجمة: فرزدق الأسدی

 

تعمل فی حقل السینما وحاز فیلمها الوثائقی الیوم بعد العاشرعلى جوائز عدة ومنها جائزة أفضل فیلم وثائقی فی مهرجان الإسماعیلیة السینمائی فی مصر. وهذه عناوین للبعض من أعمالها:

  • قصة المرأة المصابة بیأس فلسفی على طول
  • جبل على کتف شجرة
  • عروسة السماء
  • لم یکن لیلا، لم یکن نهارا
  • بطل قصة المغفل
  • تمثال الملح

 

 

 هناک فی الطابق الآخر من إحدى البنایات تقف بنتاً خلف النافذة؛ بنت یلفها شعور قدیم؛ یتغلغل فی کیانها؛ ویضرم اللهب فی عینیها.

هی تعیش هناک فی الطابق الأخیر من البنایة؛ وهی وحیدة دوماً؛ واقفة إلى جانب النافذة. هی خلابة؛ وتحب هذه المفردات: خلابة؛ مثیرة؛ جذابة!

فی إحدى الأیام تراها تؤطر صوراً لها وتنصبها على جدران السلم المظلم لتلک البنایة. وهی فی هذه الصور تظهر ضاحکة أو باکیة أو قلقة أو مذعورة أو مندهشة أو نعسانة. لکنها فی معظم الأحیان تتصنع هیأة الممثلین، وتبتسم بابتسامة عذبة کی تتضح جمیع أسنانها الناصعة والمرتبة.

وفی یوم آخر تغنی. فیعلو صوت الغناء کما أوبیرا جمیلة؛ فتذهب الریح بالصوت إلى جمیع طوابق البنایة؛ وإلى المدینة بأکملها بل إلى کل الصحارى؛ فتتحول أمواج صوتها إلى صوت ضفدعة عجوز أو صوت ثور جائع.

وفی یوم آخر تقرر أن تدع أظافرها تطول. فتصبغ أظافرها بلون أصفر معتم. فتنمو أظافرها. تنزل أظافرها من طاولة المکیاج المصنوعة من خشب الجوز وتخرج من تحت باب الغرفة. تنزل السلالم کلها؛ إلى أن تصل إلى سیاج الحدیقة المرصوف بقطعات من الآجر. وتقف هناک. فیقضی الشباب کل نهارهم بالتفرج على أظافرها؛ ویملأ تمجیدهم لها ساحة البنایة.

وفی یوم آخر تمکیج البنت عینیها. تمد بأهدابها إلى حد تغطی بها حواجبها. وتبحلق بعینیها إلى حد تملأ عینیها نصف وجهها.

کل یوم یراها الجمیع کما لو أنها ملکة یابانیة مغطاً وجهها بالبودرة وممسکة بالمهفة تصعد السلالم بتأودة حتى الطابق الأخیر فیما تعدو خلفها على الدرجات الأولى أذیال ثوبها کما وصیفة مشوشة وقلقة. الکل یراها کل یوم فی إطار نافذة الطابق الأخیر للبنایة. تجلس هناک وتحاول أن تفعّل القوة المغناطیسیة فیها.

تصغر العیون؛ وتکبر؛ تضحک؛ وتتغنج. الشباب الذین یرمقونها هناک فی الأسفل کل منهم له مکانته الاجتماعیة الخاصة. واحداً منهم مخرج سینمائی، والآخر عالم عجوز، وآخر قصاب، وآخر رجل سیاسی، والآخر شاعر، والأخیر هو ولد یلعب بسیارته على أرض الساحة.

المخرج السینمائی یفکر أن وجهها ـ وجه البنت ـ رائع ؛ جمیل؛ فرید من نوعه؛ وکما یقال "آسر"! إن هذا الوجه بإمکانه أن ینقذ أفلام الرجل مافوق الفنیة من فشلها التجاری.

العالم العجوز متیقن من أن التحالیل الوراثیة لهذا الکائن الفذ سوف تفظی إلى نتائج ملفتة؛ ویرى مستقبله فی ضوء الشهرة والمال مستقبلاً باهرا.

کما کان القصاب ینوی الإتیان بضرة لزوجته العنودة؛ ویرى أن هذه البنت من شأنها أن تقطع لسان زوجته بسرعة.

الرجل السیاسی ببذلته الأنیقة وربطة عنقه الحمراء ینوی لفت الأفکار العامة نحو ضجة أخلاقیة.

والشاعر.. لایمکن تمییزه من خلال الغبار والدخان والضباب الذی یلف أجواء شعره؛ ولکن التفرج على البنت یفتح خیاله کما ماکنة مضبطة ویجعله یکتب قصائد رائعة.

الولد الیتیم ذوالأعوام الثمان الذی یلهو بسیارته دوماً فی باحة البنایة تتعقبه ذکرى البنت کالظل الأسود. فقبل أن تکن للبنت أیة دمیة وکانت ترتجف خوفاً من العزلة لیلاً کانوا یرسلون الولد الصغیر لکی یملأ عزلتها. ومنذ ذلک الحین یرى الولد وجه أمه فی إطار وجهها؛ ولم یعد بمقدوره إبعاد ذکراها عن باله. وهذه الذکرى کان لها من الوقع فی بال الصبی الیتیم حیث حالت دون نموه الطبیعی ومع مرور سنین لم یجتاز الولد عمر الثامنة.

تجلس البنت کل یوم أمام المرآة؛ ملولة ضجرى. تتحدث إلى دمیتها وتلعب معها طوال النهار؛ ولیلاً تنامان معاً فی فراش واحد. الدمیة هی أمینة سر البنت. أمینة سرها المخلصة والوحیدة. فهی لاتنبس ببنت شفة.

ولیلاً فی الفراش تتحدث البنت للدمیة عن أسرارها الخفیة.

تنصت الدمیة ولاتقاطع البنت أثناء الحدیث. تتحدث فی بعض الأحیان للبنت؛ ترشدها فی بعض الأمور. تعطیها نصائح حکیمة. تطلب منها أن تبعد وبأسرع وقت تلک القوة الشیطانیة التی کونت حولها میداناً مغناطیسیا قویا. وتزعل عنها بعض الأحیان.

فی کل مرة تقرر البنت أن تطبق نصائح الدمیة فی حیاتها؛ لکن ما ان یمر الوقت حتى تنسى ماقالته الدمیة.

هی ترى کل یوم من نافذة غرفتها رجلاً متزوجاً أنیقاً یترک خلفه على الدرجات عطر زهرة الروز الوردیة؛ وحین یرکب السیارة یلوح بیده لزوجته وأطفاله. تغتم البنت بعد أن ترى أن جمیع الأشیاء.. حتى زهور الحدیقة وکذلک الزهور الاصطناعیة فی غرفتها تعبق بالعطر الوردی اللون لذلک الرجل.

ومازال الشباب یتلهفون لرؤیتها لحظة بلحظة. ینطرون کل یوم نزولها من السلالم أو یتطلعون من الخارج إلى نافذة غرفتها. کما لو أن لوحة النافذة قد تم نصبها فی السماء بأیقونة لنقوش ملائکیة محفورة. تبتسم البنت ویضیق إطار عینیها؛ وإثر ابتسامتها یتکون طوق من الورود الصفراء حول رأسها.

تقتطف البنت الزهور الصفراء وبینما ترمیها نحو الشباب من النافذة تصرخ بوجههم: یا عدیمی اللیاقة...! یا عدیمی اللیاقة...!

یتسابق الشباب لکی یحظو بأوراق الزهور المتطایرة تلک.

الرجل الذی یعطر عبقه أجواء البنایة ینزل کل صباح بسکینة من السلالم. هو یذهب إلى محل عمله. الرجل لایرى الشباب. کما لایرى الزهور. یدهس ومن دون أن یعی ماتبقى منها بینما یلوح بیده لزوجته. والبنت مازالت قابعة فی إطار النافذة. تتهدل شفاهها هذه المرة؛ وتنمو بعد ذلک من شفاهها الأعشاب الوحشیة. تقف البنت أمام المرآة و بینما هی تصرخ تقتلع وبشدة تلک الأعشاب من على شفاهها.

تبدأ فکرة فجة تنضج فی خیالها لحظة بلحظة؛ إلى أن تکبر وتتضج؛ حتى تراها البنت على شکل هیأة إنسان من دخان واقف إلى جانب منضدة التجمیل الخشبیة. الانتحار!... نعم إن الانتحار هو أفضل الطرق للتخلص من عذاب العبق الوردی غیرالمکترث ومن الرجال الذلیلین عدیمی اللیاقة.

تخرج من الخزانة المهجورة بزاویة الغرفة بذلة العرس التی علق علیها الغبار لسنین طوال؛ وترتدیها. ترمقها الدمیة بعینیها الزرقاوین الشفافتین. تسألها: ماذا تفعلین!؟

ـ أرید أن ألقی بنفسی إلى الأسفل.

تشبک الدمیة أصابع یدیها بالآخر:

ـ قد خطر ذلک ببالک سابقاً أیضا!

تبتسم البنت ساخرة:

ـ ولکن یختلف الأمر هذه المرة.

ترفع الدمیة کتفیها غیر آبهة بالبنت:

ـ مللت منک؛ لن أمنعک عن ذلک!

تکرر البنت: ولکن یختلف الأمر هذه المرة.

بإصبعین ترفع البنت أطراف ثوبها قلیلا؛ تصعد على حافة الشباک وتقول بصوت واهن: سأهرب من عذاب عبق الروز الوردیة ذلک!

وصرخت: أرید أن ألقی بنفسی إلى الأسفل.

کما أغانیها یرتفع صوتها ویعم المدینة بأکملها. یعم الاضطراب ساحة البنایة. لم تکن إلا لحظات ویمتلأ الشارع من الناس. والکل یحدق إلى الأعلى حیث البنت.

سیارة الرجل والتی تلفها هالة من العطور الوردیة هی الوحیدة التی تبتعد عن الزحام غیر آبهة؛ بینما تشق طریقها ما بین الواقفین متقدمة إلى الأمام.

ترتعش شفتی البنت. تلقی نظرة أخیرة إلى الدمیة وتلقی بنفسها فی فضاء مکتض بغصة تعتصر قلبها.

أصوات الناس تخبو شیئاً فشیئاً مقابل القوة الجبارة التی تجرها إلى الأسفل. وتبدأ الثوانی والدقائق والساعات والأشهر والسنین تأخذ بالبطء؛ وتواصل البنت سقوطها. فی البدء تمر الصور بسرعة کبیرة من أمام عینیها حیث أنها لم تشاهد سوى ألواناً متداخلة مستطیلة. إلى أن فقدت الصور المستطیلة معناها. وبات ظهرها المحدودب یؤلمها جراء سقوطها المتواصل لسنین.

فی اللحظة الأولى تقتلع الریح برقعها الأبیض؛ وتبلى وتتهرأ بذلتها شیئاً فشیئاً. یقتلها الانتظار؛ تخشى أن یستمر سقوطها فی الفضاء إلى الأبد. حیاة فی البرزخ. ... لم تکن ترغب بذلک. ولکن فجأة ینتهی عهد سقوطها. وتهوی فی مستنقع مهد قضت فیه ساعات طفولتها الطویلة. تسمع صوت وشوشة غیرواضحة. تحرک یدیها ورجلیها لکی لاتغرق فی المستنقع. کلا... إنها لم تکن تتوقع میتة کهذه! بعد کل هذه السنین من السقوط کانت تتوقع میتة آنیة.

تواصل البنت تحریک یدیها ورجلیها بکل قوة؛ لکن المستنقع یمنعها من ذلک. تشرع بالبکاء. بکاءها یشبه بکاء رضیع جائع. یبتلعها المستنقع لحظة بعد لحظة. أبوها وأمها یتقاذفان أثاث البیت نحو الآخر غیرمکترثین بها. ترفع صوتها أکثر علها تلفت انتباههم لکی ینقذونها من الامتصاص البطیء والزاحف للموت. ولکن فجأة ید أمها والتی تبدو وکأنها ید غول تدس فی فمها المصاصة الصفراء العملاقة. ینقطع صوت البکاء. وینقطع شهیقها کذلک.

یبتلع المستنقع البنت شیئاً فشیئا. فی تلک اللحظة بینما تتفرج الدمیة على غروب الشمس تنظر إلى الأسفل وترى أن زهوراً سوداء بدأت تنبت على أرضیة الحدیقة الخضراء.

 

برچسب ها: نرجس آبیار

ارسال نظر