«مسحاة رأس الصالح»
یوسف علی خانی
تعریب: حیدر نجف
بعد إتمامه المرحلة الثانویة، انتقل الى طهران و تخرج من جامعتها فی فرع الأدب العربی عام 1998 بشهادة لیسانس. یعمل مدیرا لدار نشر «آموت» الخاصة به. صدر له أکثر من عشرة کتب بحثیة تصور حیاة مشاهیر الأدب و الفکر مثل سیرة حسن الصباح و ابن بطوطة، و ناصر خسرو، کما أخرج أفلاما وثائقیة قصیرة و حازت مجامیعه القصصیة على جوائز عدّة و تکررت طباعتها. له فی المجال القصصی: قدم بخیر کانت جدتی، قتل الآفة، و عروس الصفصاف.
شدّوا مسحاة زید علی بجذع الشجرة المتوّحدة. کانت مغروزة فی الأرض حتى خشبتها. ذراعها اعتنق الشجرة. و المسافة بعیدة بین ذیل المسحاة و أغصان الشجرة. بقیت هکذا إلى ما قبل أعوام. کان الناس یرونها مشدودة إلى جذع الشجرة المتفرّدة. ثم لم تُرَ بعد ذلک، و لم یدرِ أحدٌ هل اندمجت بالشجرة أم تحرّرت منها و هربت.
حمل زید علی مسحاته على کتفه مع أول خیوط الفجر، و سار على ضفاف نهر شاهرود فرأى أناساً یرکضون وراء رجل. خیّم بیده الیسرى على عینیه تجنبا لأشعة الشمس. رجل غریب یرکض أمام جماعة من الناس. لم یکن لدیه الوقت لیعرف من هو الغریب و لماذا یطارده الرجال. لم یستطع إلا أن یستجیب لهم حیث صاحوا به «زید علی إضربه إضربه».
إنحدرت المسحاة من على کتف زید علی و دارت دورة، و حین مرّ الغریب بالقرب منه إرتطم رأسها الحدیدی بمؤخرة رأس الغریب. کان الرجل قد اعتمر کوفیة بیضاء، و قبل أن یسقط بوجهه على الأرض انفرشت الکوفیة البیضاء فوقع بوجهه علیها.
وصل الرجال بغُبْرتهم و مساحیهم و معاولهم.
لم یبق زید علی لیرى ما یفعل الرجال بالغریب المضروب بالمسحاة. واصل دربه لیصل فی ساعة سقیه. إبتعد مسافة ثلاثة أراض زراعیة. ألم ممضّ فی رأسه. یرى الأشیاء مشوشة مضبّبة. کأن المسحاة إنهالت على رأسه هو.
عاد لیسأل مرة ثانیة: «من هذا؟» فوجد الرجال حائرین بالقرب من الأرض المزروعة.
خط من الدماء مرشوش على أطراف ساقیة الماء و مزرعة الرزّ المجاورة للساقیة. أحدهم جالس یقول: «آثاره ممتدّة إلى هنا».
آخر إستند إلى مسحاته و شاهد زید علی یعود، فسأله: «ألم تضربه؟»
زید علی هو الذی ضربه. ضربه بقوّة. رطم رأس المسحاة بمؤخرة رأسه تماماً. و شاهد سقوطه على الأرض. بل شاهد سقوط رأسه على کوفیته البیضاء.
لم یجرؤ زید علی على البقاء هناک. تملّکه الفزع. لم تکن رجلاه تطیعانه. کانت ساعة سقیه. أعاد فی مخیّلته ما حصل خطوة خطوة: «کانت هناک غبرة الرجال یرکضون وراء غریب. الغریب یرکض و الرجال یلاحقونه».
تذکّر جلبة الرجال. التفت فوجد الجلبة قد زالت، لکن الرجال مذهولون یبحثون عن شخص ضربه هو بالمسحاة على رقبته. ربما لم تقع الضربة على رقبته، لکن رأس المسحاة الحدیدی وقع على مؤخرة رأسه بالضبط. و قد سقطت الکوفیة البیضاء عن رأسه. إن لم یکن کذلک فلماذا یبحث عنه الرجال؟
کان زید علی الذی لم یکن هذا اسمه إلى ذلک الیوم، کمن أصابت المسحاة رأسه. آلام رأسه ملحّة حتى أنه خاف أن یمدّ یده خلف رأسه فیشعر بالبلل و الحرارة ثمّ لا یتجرّأ أن یرفع یده أمام عینیه لیرى الدماء. غرقت السماء فی الظلمة، و لم یبق منها إلا شذرات عانقت الجبال.. حمراء قانیة.
فزع زید علی و رمى المسحاة فی نهر شاهرود ذی الأمواج المسرعة، و رکض نحو البیت.
فی الطریق کان الظلام قد أرخى سدوله فلم یمهله أن یسأل هل وجد الرجالُ الغریبَ أم لا. بل لم یکن هناک أصوات و رجال.
إرتفعت حرارته و استفحل الخوف فی نفسه. لم یستطع الرکض إلى البیت. کان قد رمى المسحاة فی نهر شاهرود و سحل نفسه للبیت بمشقة.
قریتهم التی سمّیت بعد ذلک «مسحاة رأس الصالح» تقع على تلّة فی هذه الجهة من شاهرود، و مزارع الرزّ تغطی بخضرتها ما بین التلّ و أطراف النهر. و لکن فی تلک اللحظة التی کان زید علی عائدا إلى البیت، بدت أشدّ سواداً من اللیل. صعد التلّ، و اجتاز المقبرة فوصل المیدان. لم یکن ثمة أحد. عبر بعض الأزقة إلى أن وصل شجرة توت وقفت على باب بیتهم کالحارس.
ما إن فتح باب البیت حتى جاءت زوجته معصومة عند الباب. سألت زید علی قبل أن یتلقف أنفاسه:
المسحاة کانت واقفة بجانب الإیوان. و زید علی الذی کان اسمه قبل هذا «إقدام دوست» جالس عند المسحاة الواقفة.
تملّى المسحاة. أخذ رأس المسحاة إلى الضوء الممتد من الغرفة إلى وسط الباحة. بقعة دم أو طین التصقت بظاهر رأس المسحاة.
دفع إقدام دوست زوجته داخل الغرفة. أمسکت معصومة إطار الباب مبهورة و لم تدخل.
أخذ المسحاة و خرج من البیت راکضاً. رکض إلى «مسحاة رأس الصالح». لم یطاوعه الظلام لیجد المکان الذی ضرب فیه رأس الغریب بمسحاته. أخذ یحفر بالمسحاة قرب الساقیة حیث یظن أن الغریب قد سقط. تسرّب الماء من الساقیة للحفرة. سدّ طریق الماء بالتراب الجاف. وضع المسحاة فی الحفرة و راح یهیل التراب بذراعیه على القبر.
عاد للبیت بیدین ملطخّة بالطین. سألت معصومة بجزع:
المسحاة واقفة عند باب الغرفة.. مبللة و موحلة.
سألها إقدام دوست: «ألم تری أحداً هذه الحوالی؟»
و من الذی یمکن أن تراه معصومة؟ رفعت قبل العشاء الفانوس عن مسمار الجدار و نظفت زجاجته. نفخت علیها من الداخل و راحت تمسحها بخرقة. بقی الفانوس مضیئاً فی الغرفة یزداد نوراً کلما اشتد الظلام.
أخذ إقدام دوست الفانوس و سار. زید علی یسیر و إمرأته من ورائه. خرجا من باب البیت.
عاد إقدام دوست. أخذ المسحاة من علی جدار البیت. مسّ بللها باطن یده. سار و سارت المرأة وراءه. لا أحد فی الأزقة و لا حتى عند الشبابیک فی تلک الساعة من اللیل. ینتهی الزقاق إلى المیدان و تبدأ انحدارة المقبرة. وصلا مزارع الرزّ. مع أنه یدری أنه ضرب الغریب بالمسحاة فی مکان آخر، لکنه خفض الفانوس نحو الأرض و راح یبحث عن إبرة وسط الصحراء. و هل تعینه الظلمات على ما یرید؟
وقف إقدام دوست. رفع الفانوس و تفرّس فی وشم على حنک معصومة. جال بالفانوس على الطریق و قال: «سقط أسفل الساقیة».
جلست المرأة و جلس الرجل. لم تجلس المسحاة. وقفت بجوار الساقیة.
إرتعدت رکبتاه. أبعد الفانوس لکی لا یُضیء رجلیه المرتعدتین.
إنتزع المسحاة المغروزة فی الأرض و رماها بعیداً.
نهض و سارت معصومة وراءه. لم یبق فی الفانوس رمق لیُضیء محط أقدامهما. الأرض کانت ملک الظلام.
فتحا الباب و قد انقضهما التعب. تهالکا عند الجدار یائسین. المسحاة تجلس عند باب الغرفة.
جلست معصومة عند عتبة الباب. المسحاة ترمقهما. سأل إقدام دوست: «ألا یوجد حلّ لنا؟»
نظرت زوجته للسماء خالیة من القمر. جاء صوت الحمار من الحضیرة.
نظر إقدام دوست و معصومة الی بعضهما البعض ثم الی السماء.
کانت معصومة من قریة میلک. و هما یائسان مما سیفعلانه بمسحاة رأس الصالح. شاهدت معصومة شهاباً مرّ فی السماء و ارتمى على الجبل خلف «مسحاة رأس الصالح». قالت معصومة: «هل کان ولیاً سقط الآن على تراب میلک؟»
نهض زید علی من مکانه و قال لمعصومة: هات قماشاً أبیض!
جاءته معصومة بقماش نظیف. لفّ زید علی الذی سمّى نفسه بعد ذلک الیوم زید علی، المسحاة فی القماش الأبیض و سار نحو الحضیرة. جهّز الحمار و خرج.
مع خیوط الفجر وصل و معه معصومة میلک. کان المیلکیون قد وجدوا رجلاً ضُرب خلف رأسه بمسحاة. دفنوه بلا غسل. و هل یغسل الصالحون؟
جلس زید علی إلى أن فرغوا من دفنه. ساعدته معصومة فأنزلت المسحاة من على ظهر الحمار. شدّوا المسحاة بقماشها الأبیض على جذع الشجرة التی دفن أهالی میلک الرجل قربها.
لم تعد المسحاة الآن موجودة، و القماش الأبیض ممزق تسفی علیه الریح. کانت الشجرة هناک إلى ما قبل أعوام إلى أن جاء من قطعها. أحد أهالی «مسحاة رأس الصالح» اشترى منشاراً کهربائیاً و انهال على الأشجار. کان یقول: «هذه الأشجار عجوزة.. قد تسقط على رؤوس الزوّار». من یدری.. ربما کان علی حق.