عظماء الأدب الإیرانی الساخر
فی القرون السابع و الثامن و التاسع للهجرة
بقلم سید جواد موسوی
تعریب: حیدر نجف
لا یخفى على أی متتبع لشؤون الأدب الإیرانی ما لشعراء الفارسیة الکبار، الذین ظهروا منذ بدایات انبثاق الشعر الفارسی و إلى نهایات القرن السادس الهجری، من مکانة سامیة و أهمیة بالغة. و حتى الذین اقتصروا فی أدبهم على الهزل و الأدب الساخر أضافوا الکثیر إلى اللغة و الفارسیة و آدابها، و لا أقل من أنهم عرضوا إمکانیات و سبلًا جدیدة بقیت موضع اهتمام و تأمل عند أصحاب الرأی و الاختصاص. على أن ما یلاحظ فی المشاویر الأدبیة للشعراء الأربعة الذین سلطنا علیهم الضوء فی الجزء السابق من هذه الدارسة، و المنشورة فی عدد ماض من مجلة شیراز (أی الحکیم الخاقانی، و الحکیم سنائی الغزنوی، و الحکیم أنوری، و الحکیم عمر الخیام) ما یلاحظ علیهم هو شیء یتجاوز صنعة الألفاظ. لقد وظفوا النفوذ و التأثیر الذی یبعثه الکلام الساخر فی عقول المتلقّین و نفوسهم لکی یحضّونا على الضحک و یدفعونا فی الوقت نفسه إلى البکاء، و لکی نتنبّه إلى المواقف الکومیدیة التی تحیط بنا، و نعلم فی الوقت نفسه أنه لا تفصلنا عن التراجیدیا مسافة تذکر. إنهم یقولون لنا إن الکثیر من الأمور التی غالبًا ما یعتبرها البشر جادّة و مهمة لیست أکثر من مهازل و ألاعیب لا تأثیر لها سوی إبعادنا عن حقیقة وجودنا و حیاتنا.
إنهم یقولون لنا إن الموت أقرب إلینا بکثیر مما نتصوّر، و الحیاة فرصة قصیرة جدا، و العالم و کل ما فیه لیس بشیء على الإطلاق. مثل هذا الکلام لا یروق طبعًا لکائن لا یعرف من حیاته سوى الأکل و النوم و الغضب و الشهوات. إنه کلام ینغّص علیه عیشه و یبعث على سوء خُلقه. الحکماء یعرفون هذه الحقیقة أفضل من سواهم، لذلک یمزجون کلامهم المریر بحلاوة المطایبات و الهزل لتکون له أصداؤه العذبة فی أکبر عدد من الأسماع.. کلام لا یعزف حتى الغافلین و الظالمین عن سماعه، و هذه هی غایة الحکیم من کلامه الساخر: أن یطلق کلامًا یکون له أکبر قدر ممکن من التأثیر على المستمعین و الطالبین. یأمل الحکیم فی أن تکون حکمته الساخرة دواء مرًّا یمزجه بشیء من الحلاوة حتى لا یتهرّب الأطفال من تناوله، و یکون سببًا فی إقبال عدد أکبر من الزبائن على دکاکین العلم و المعرفة. و لنفترض أن الکثیرین یطلبون کلام الحکیم الساخر لأغراض أخرى، و لکن من یدری ما ستکون عاقبة الأمور؟ ربما أجّجت هذه الهزلیات و المطایبات و السخریة و الطرائف النیران فی بعض الأرواح الباردة و أثارت بعض الهمم و حفّزت بعض العزائم، و إذا کان هذا فهو المطلوب و الغایة.
و قد توفر الشعراء بعد ذلک – أی بعد القرن السادس للهجرة – على تجارب قیّمة، لذلک تطوّر الأدب الساخر و اشتدّ عوده. فی الأدب الإیرانی کان لجمیع الشعراء الکبار جذورهم فی الماضی و نظراتهم إلى المستقبل. أی مع أنهم لم یُغفلوا تجارب الماضین لکنهم لم یکتفوا بالتقلید و التکرار، و حاولوا فتح آفاق جدیدة. الإبداع و التجدید لا یتحقق فی الفراغ و من دون أرصدة. و من هنا فإن کلام جلال الدین المولوی الرومی، مع أنه عجیب، إلا أنه لیس بالغریب، إذ سبقه سنائی الغزنوی و العطار النیسابوری فی إعداد أسماعنا و تهیئتها لسماع کلام من سنخ کلام المولوی. و المولوی مع أنه فاق کل أسلافه لکنه لم ینس أبدًا منابته و الذین کان مدینًا لهم بقلیل أو کثیر. و بیته الشعری التالی شاهد على عرفانه الجمیل لأساتذته الکبار:
کان العطار روحًا و السنائی عیناه
و قد سرنا على أثر سنائی و العطار
و لا أرید القول بالضرورة أن التکامل یسیر سیرًا خطیًا، و لکن ما من شک فی أنه لو لا تجارب سنائی الغزنوی لربما سار العطار النیسابوری فی نهج و طریق آخر، و لو لا العطار النیسابوری لربما لم یکتب للمثنوی المعنوی أن یرى النور. و المراد هو أن التجارب الثمینة لشعراء القرنین الرابع و الخامس للهجرة و القرن السادس على الخصوص کانت من العوامل الأساسیة فی نمو دوحة الأدب الإیرانی الساخر و إثمارها.
و فی ذلک العهد بدأ النثر الإیرانی أیضًا بالظهور تدریجیًا. فکتاب «گلستان» لسعدی الشیرازی و رسائل عبید الزاکانی من أول نصوص النثر الفارسی التی هبّت بکل قواها لمعونة الأدب الفارسی الساخر.. و الآن، لم یعد الأدب الساخر غریبًا معزولًا، و لم یعد یحتل مجرد زاویة صغیرة من دواوین الشعراء الضخمة. و قد تناولنا فی ما یلی شعراء القرون السابع و الثامن و التاسع للهجرة، مرکّزین من بینهم على العطار النیسابوری و جلال الدین الرومی المولوی و سعدی الشیرازی و حافظ الشیرازی.
من الرموز المشرقة فی الأدب الفارسی، و الذی بقی مغمورًا فترة طویلة من الزمن بسبب ضیاع دیوانه الشعری، رجل شجاع اسمه سیف الدین أبو المحامد الفرغانی المعروف بسیف الفرغانی. و هو شاعر شیعی مناضل عاش فی القرنین السابع و الثامن للهجرة. کلماته قاطعة حاسمة شدیدة. و قد اشتهرت مرثیته لسید الشهداء الحسین بن علی (ع) التی لا تزال تتلى فی مراسم العزاء أیام محرم. و مطلعها:
یا قوم ابکوا فی هذا العزاء
أنا أقرأ و ابکوا أنتم
و یمکن ملاحظة کثیر من السخریة و الطعون و الغمز فی أشعاره التی خاطب بها حکّام الظلم و الجور، و أشهرها قصیدة «ردیفها»: «شما نیز بگذرد» أی: ستمضون أنتم أیضًا. و الکثیرون لا یعرفون سیف فرغانی إلا بهذه الأبیات:
الموت أیضًا یمرّ بعوالمکم
و رونق زمانکم أیضًا سیمضی و یولّی
ماء الأجل الذی یغصّ به الخواص و العوام
سیمرّ بحلوقکم و أفواهکم أیضًا
إذا ما مرّ زئیر الأسود فی البلاد و غادر
فإن نباح کلابکم أیضًا سیمرّ و یغادر
ما أکثر القوافل التی مرّت بهذا الرباط
و لا بدّ لقافلتکم أیضًا أن تمرّ
من کان له فرس قعد غباره و هدأ..
و سیقعد و یمرّ غبار حوافر حمیرکم أیضًا
و من بین شعراء القرن السابع و بدایات القرن الثامن للهجرة یمکن الإشارة إلى همام التبریزی الذی کان من مشاهیر زمانه. و مع أن حجم الهزل و الهجاء و المطایبات فی دیوانه کبیر ملفت للنظر، بید أنه لا یمتاز بخصوصیة تجعله فریدًا بین غیره. أما أشعاره ذات المنحى النقدی و التی یخاطب بها المتاجرین بالدین و الزهاد المرائین فلها مذاق آخر. یُتهم همام بتقلید سعدی الشیرازی، و لکن یبدو أنه یمیل غالبًا فی شعره النقدی لأسالیب العطار النیسابوری و سنائی الغزنوی:
إذا تصاحب اللصّ و خازن المال
یصیران آفة أحوال السلطان
و إذا شرب الشیخ الخمرة مع مریدیه
أراق ماء وجه من علموه و هذبوه
إذا أخذتَ حمارًا إلى المروج
ألقى فضولاته على الزهور من حمقه
حتى لو لم یکن قرّاء الشعر الإیرانی من هواة التاریخ، فلا بد أنهم صادفوا فی دیوان حافظ الشیرازی اسم السلطان شاه شجاع، حیث یقول:
أتتنی نداءات هاتف الغیب فی الأسحار
اشرب الخمر الفتاکة فنحن فی زمن الشاه شجاع
و بالطبع، فإن الشاه شجاع لم یکن فی التاریخ سلطانًا محمودًا حسن السمعة، إذ أنه سمل عینی أبیه من أجل الوصول للعرش، و لم یکن یتعامل بالحسنى مع باقی أفراد عائلته و قراباته. و الذی بقی له عبر التاریخ لیس العرش و التاج بل عدد یسیر من الأبیات الشعریة، لا یمکن المرور من بینها مرور الکرام على بیتین نظمهما فی موت أخیه:
أخی محمود الملک الأسد المکین
کان یخاصم على العرش و التاج
قسّمنا المُلک بیننا نصفین لیرتاح الخلق
له ما تحت التراب و لی ما فوقه !
و کان ابن یمین من الشعراء المعروفین فی الأدب الإیرانی، و حیث أن معظم المطایبات و الهزلیات و الهجاء فی الشعر الإیرانی منظوم فی قالب «المقطعات» لذا لیس من الغریب أن نجد الکثیر من الأدب الساخر فی أشعار ابن یمین. فغالبیة مقطوعاته الساخرة فی مدح الهمم العالیة و الکرامة و الجود و هجاء البخلاء و أصحاب الآفاق الضیقة و الأخسّاء. تفوح من شعره عطور الشجاعة و الرجولة، ما یعدّ شاهدًا جلیًا على بطلان دعوى أشباه العلماء الذین اعتبروا کل شعراء الفارسیة -من دون أدنى معرفة بماضینا الأدبی- من مدّاحی السلاطین و الحکام السفاحین.
یتعرّض الظالمون و الجبابرة فی مقطوعات ابن یمین لأعنف السخریة و الاستهزاء إلى درجة تقترب من الهجاء و الهزل، و مع ذلک لا یمکن الخروج بهذه المقطوعات عن حیّز السخریة الحکیمة الرفیعة. له مثلًا مقطوعة یصف فیها حال ظالم بما یلی:
نهب کافر بیت ظالم فی یوم من الأیام
و رأیت الناس ینهبون ماله
قلت له ماذا دهاک أیها الظالم الیوم
قال ینهبون ما نهبته بالأمس
أو یمکن التماس غیض الشاعر و غضبه من اللؤماء و الأخسّاء فی هذه المقطوعة التی استخدم فیها بعض الألفاظ النابیة:
إذا أفلس ابن الکریم فصاحِبه
لأن غصن الورد إذا فرغ جاد بالثمار
و إذا أنعم ابن اللئیم و جاد فاهرب منه
فالخلاء إذا امتلأ کان أکثر جیفةً
ما تبقّى لنا عن أوحدی المراغی أحد شعراء القرنین السابع و الثامن للهجرة المشهورین من «غزل» و «قصیدة» و «مثنوی» مصطبغ أغلبه بألوان العرفان و التصوّف. و مع ذلک، فإنه تأسیا بأسلافه فی تناول الموضوعات العرفانیة و الأخلاقیة لم یغفل التعبیر عن بعض النقاط و الملاحظات بطریقة ساخرة. الجدیر بالتأمل إنه بعد ظهور شعراء کبار مثل سنائی و العطار و المولوی و التجرّؤ فی طرح الموضوعات الممنوعة و هدم التابوات المحظورات، اکتسب الکثیر من الشعراء الجرأة و التهوّر على إدراج السخریة فی باطن المواعظ و النصائح و اللطائف و الدقائق الحکمیة و الدینیة، لیخلقوا لدى المتلقی رغبة أکبر فی استماع کلامهم. و بالطبع لیس جمیع الشعراء لدیهم القدرة على الخوض فی هذا النوع الأدبی الدقیق، و من یکتب له النجاح فی هذا الباب یجب أن یکون صاحب منزلة سامقة فی العلم و المعرفة و الأدب بحیث لا یمسّ قدر المفاهیم الراقیة بسخریته أو یحطّ من شأنها. فالتأمل فی أعمال أوحدی المراغی تشیر إلى أنه خرج مرفوع الرأس من مثل هذا الاختبار الصعب کما کان علیه حال أساتذته الکبار، و أن السخریة و المطایبة لم تهبط بکلامه و أدبه إلى حضیض السخافة و التفاهة بل و کان لها دور فی رفع أدبه إلى مراتب أرقى. طبعًا بالإضافة إلى السخریة الحکمیة و العرفانیة و فی نفس الوقت النقدیة و الثوریة یمکن العثور على نماذج أخرى فی أعمال أوحدی منها الأشعار التی نظمها فی ذمّ النساء و الزواج. و إذا جاز لنا أن نحکم على أساس ظواهر الأمور أمکننا القول إن أشعاره تنمّ عن وضع عائلی لم یکن مرضیًا و مریحًا کما ینبغی. و لکم أن تقرأوا هذه الحکایة:
قال ابن و هو باک لأبیه
أعنّی یا أبتی على الزواج
فقال له یا بنّی ازن و لا تتزوّج
و خذ النصیحة من الناس و لا تأخذها منّی
إن قبض علیک الحارس بجریمة الزنا
فسوف یطلق سراحک فقد قبض علی کثیرین غیرک
و إذا طلبت الزوجة فهی لن تترکک
و إن ترکتها طلیقة فلن تترک شیئًا لا تفعله
ألا تستلهم العبرة منی و من أمک
کم لقیتَ و لقیتُ من الویلات
اترک الزواج فلن یبقی لک خبزًا و لا حطبًا
و انظر للحیة أبیک فلم یبق منها إلا نصفها
فی غمرة هجمات المغول عل بلاد إیران کان هناک الکثیر من الشعراء الإیرانیین، و منهم أثیر الدین الأومانی الذی شاهد و عاش بکل جوارحه و روحه ضراوة الجیوش المغولیة و وحشیتها. شاهد اضطراب حال الناس و عیشهم و أیضًا عدم کفاءة الحکام، کما شاهد انهیار منزلة العقل و الدین و الثقافة و کساد أسواقها و اضمحلال المروءة و الفتوة. و لا حاجة لتصفّح کتب التاریخ لمعرفة الوضع الذی عاشه أثیر الدین الأومانی، بل یکفی أن نقرأ أبیاتًا مما نظمه هذا الشاعر المهموم المعذب کی نعلم ما المصائب و البلایا التی نزلت بهذه البلاد إذ ذاک. فالویلات التی تترک حتى الشعر حقیرًا تافهًا فی عین هذا الشاعر الفحل ویلات عظیمة حقًا:
یا الهی من سنّ سنّة الشعر فی هذا العالم؟
لا بارک الله له فی دنیا و لا آخرة کما لم یبارک لجماعة الشعراء
یا أخی لا أسوء فی العالم من صنعة الشعر
حذار حذار أن ترتکن على هذا الهشّ الخائر
نظمه نزع الروح و کتابته همّ على القلب
و خیر لک أن لا تتذکّر محنة قراءته
ما هذه الصنعة التی لا تترکک
لحظة واحدة فی عمرک سعیدًا مبتهج الفؤاد
و إن شعر أثیر الدین الأومانی هو شاهد آخر على أن الاستبداد و الظلم و الجور یموّن الأدب الساخر المهموم الصدامی. فلا مراء فی أن أثیر الدین لو لم یعش أجواء الفاجعة العارمة لهجمات المغول و لم یشاهد عن کثب کل ذلک الخراب و الظلام و الفساد لما ترشحت عن قریحته کل هذه الطعون و الغمزات لزمانه خادم السفلة الأخسّاء، و لما سجّل تاریخ الأدب فی ذاکرته مثل هذه الأبیات المتألقة الراقیة:
لست سعیدًا لدورانک أیها الفلک
أطلقنی فلست جدیرًا بالقیود و السلاسل
إن کنت میّالًا للسفهاء و الجهلة
فأنا أیضًا لست بکثیر عقل و حلم
یتسنی اعتبار نظام الأصفهانی مقلدًا للخیام النیسابوری بامتیاز.. مقلد صرف لم یکن لدیه ما یضیفه للمصدر الذی انتهل منه. یبدو أن نظام أراد تحدّی بعض المشهورات و المسلمات فی زمانه، و التی غدت فی عداد المقدسات، على غرار ما کان یفعل أسوته الشهیر، لکن محاولاته لم یکتب لها النجاح و الذیاع بدرجة تذکر. ربما لأنه افتقر للعمق و دقّة النظر اللذین کانا للخیام، و فقر التفکیر العمیق هذا هو الذی أدى إلى أن لا تتجاوز أشعاره حدود المزاح و المطایبات الطریفة بدل أن تطلق زلازل فی المعتقدات و القناعات. و للقارئ أن یطلع هنا على هذین النموذجین من شعره:
الخمر أطیب من الماء ألف مرّة
و من الخمر کل شیخ شاب
سأشرب الخمرة ملیًّا فهی تذهب بالهموم
کم أبقی روحی فی التعب و العذاب؟
إذا ثملت و وقعت غیر واع
فلن یصدر عنی خطأ و لا صواب
و فی موقف عرفات یوم الحشر
فلن ینجینی ذنب ولا ثواب
أو أبیاته التی یقول فیها:
مضى تساقط الأوراق و ها هو الشتاء
طوبی لمن کانت له خیمة و خباء
النار و الخمر فی هذا الفصل
خیر مال و أفضل جاه
أوقد نارًا و اطلب خمرًا
فهذه هی الجنة و تلک فی الأفواه
و لا تنس أن هذا کلام عن جنة الجسم
حتى لا تقل إن نظام رجل ضال
و واضح أن هذا المعنى مذکور مرارًا فی رباعیات الخیام و لکن بنحو أکثر فنًا و أقوى سبکًا، خصوصًا حینما یقول:
یقولون إن جنة العدن طیبة بحورها
و أقول إن عصیر العنب أطیب
خذ هذا المعجّل و اترک عنک ذلک المؤجّل
فقرع الطبول مستطاب من بعید
حقا لو لم یظهر لسان الغیب الخواجة حافظ الشیرازی لکان لکمال الدین أبی العطاء محمود بن علی المرشدی الکرمانی الملقب بالخواجوی الکرمانی مکانة مختلفة بین الناطقین بالفارسیة. لقد أطلق حافظ الشیرازی أشعاره بمهارة و فن رفیعین إلى درجة همّشت دیوان الخواجوی الکرمانی المعاصر له. و إلى جانب الاعتراف بعظمة الکرمانی و قدراته یجب الاعتراف بأن ما یمیّز کلام الکرمانی عن کلام حافظ هو «الشطارة» أو «رندی» التی فی شعر لسان الغیب. و هناک طبعًا نصیب لصناعة الألفاظ عنده و دقته المتناهیة فی استخدامها. على أن التدبّر فی طابع السخریة لدیهما یشیر إلى أنه بمقدار ما یلجأ حافظ للشطارة و الدقة و الطرفة یمیل الکرمانی إلى الصراحة و الشدة لیشفی غلیله من الکبیر و الصغیر. اقرأوا هذه الأبیات لتروا کیف یذکر الخواجوی الکرمانی جنازة أمیر توفی فی أصفهان:
ذات یوم توفی أمیر فی أصفهان
رأیت الجنازة على أکتاف النزاحین فبقیت فی حیرة
سألت شخصا: لِمَ النزاحون فی هذه المدینة
اختاروا من بین الأعمال حمل الجنائز؟
حمل الأموات مهنة مستقلة فی کل مدینة
و قد أبدعوا کل مهنة لأصحابها
نظر بتعال و قال: سمعنا منذ القدم
أن الحمامیین یحملون النجاسات !
و لیست کل الأشعار الساخرة للخواجوی الکرمانی على هذا المنوال طبعا، لکن غالبیتها تقترب إلى الهزل و الهجاء. و من أجل أن لا نجانب الإنصاف فی استعراض أسلوبه الأدبی نقرأ أیضًا هذه الأبیات فی شخص یبدو أنه طمع فی کلام الخواجوی الکرمانی و أراد سرقة أشعاره:
الغراب الأسود الذی یسرق التغرید
فی الربیع من البلبل الغرّید
لو أخذته المقادیر إلى روضة الرضوان
لسرق منها شجرة طوبى
و لو کتب لیده أن تنال جدائل الحسان
لسرق السواد من شعور الحسان
و لو مرّ فی الأسحار بأطراف البستان
لسرق النسیم من السنابل العطرة
لا عسى أن تطأ قدماه المروج
و إلا لسرق ألوان الورود النضرة
تارة تراه یتحیّن الفرص
لیسرق الحاجبین من فوق العیون
و إذا غرق فی بحر عمان
فلا شک أنه سیسرق اللؤلؤ من الأصداف
لا سبیل له حتى إلى شعرة فی رأس
و إلا لسرق الشعور من الرؤوس
لو مرّ بخاطری معنى بکر
فلن استطیع الجهر به لأنه سیسرقه
لا عجب لو سرق مثل هذا اللصّ
اللقب من کنیة الخواجو
یمکن القول بضرس قاطع أن أشهر الأدباء الإیرانیین الساخرین هو عبید الزاکانی. حتى الذین لا معرفة لهم إطلاقًا بالأدب الإیرانی الساخر قدیمه و حدیثه یعرفون عبید الزاکانی بوصفه شاعرا ساخرا لاذعا. بعبارة أخرى، فإن اسم عبید مرادف للأدب الساخر کما یرتبط اسم محمد رضا شجریان بالموسیقى التقلیدیة الأصیلة فی إیران علی سبیل المثال. کان عبید شاعرًا و کاتبًا، و من المشهور أنه کان أیضًا عالمًا و فقیهًا قدیرًا. و قد أعدّ رسالة تناول فیها المسائل و النقاط المهمة التی تعنی أهل العلم، و لکن یبدو أن أحدًا لم یکترث لرسالته فکان لهذا تأثیره البالغ فی حیاة عبید زاکانی مما دفعه نحو الهزل و الهجاء و السخریة.
لم یمض زمن طویل حتى صار العالم النحریر مولانا عبید الزاکانی أشهر الأدباء الساخرین فی الفارسیة. و من أسباب شهرته هذه فی الأدب الساخر همّته و جدّه و اجتهاده فی هذا المجال. و حسب تعبیر الأدیب عمران صلاحی فقد هجم الزاکانی على الأدب الساخر هجوما شاملا کاسحا. و أعماله لافتة للنظر جدا سواء من الناحیة الکمیّة أو من حیث الجودة و النوعیّة. لو نظرنا للشعر خارج أطر الوزن و القافیة و اعتبرنا أساسه الحکمة و الخطابة لوجب اعتبار عبید الزاکانی ضمن الطراز الأول من شعراء الفارسیة الساخرین، أما إذا اضطررنا لمجاراة التمییز الدارج بین النظم و النثر حسب الأطر التقلیدیة المقررة فیجب القول أن تألق عبید الزاکانی کان فی مجال النثر أکثر منه فی مضمار النظم. ما تبقى لنا عن عبید فی إطار الشعر لا یعدّ محاولات جادّة، فمعظم أشعاره ضعیفة من حیث اللفظ و المعنى إلى درجة لا یبقى معها مکان حتى للطرفة و الشطارة و المزاح و الدعابة. و قد استخدم المضامین الجنسیة بکل صراحة و تحلل، معبّرًا عنها بأقل درجات الظرافة و الذوق. طبعًا یجب استثناء بعض الأبیات الواردة وسط الحکایا المنثورة، و کذا الحال بالنسبة لمنظومته ذات التسعین بیتًا المسمّاة «القط و الفأر» و التی یلوح أنها تعریض بالأمیر مبارز الدین و تنویه بالشیخ أبو أسحاق و أعوانه الذین قتلوا فی حرب غیر متکافئة. القط هو مثال الریاء الدینی و الخبث و القسوة و الظلم و الجور و المتاجرة بالدین، و الفأر مثال لطیبة القلب و المظلومیة و الطالبة بالحق. و قد أهمل عبید الزاکانی فی هذه المنظومة التعریف التقلیدی و الکلاسیکی للقافیة و استخدمها کما طاب له مما ساعد کثیرًا على تکریس الأجواء الساخرة فی المنظومة. و بالإضافة إلى هذا ثمة رباعیات بدیعة لعبید لیست ببعیدة عن فهمنا للأدب الساخر:
اشرب الخمر المصفاة ما استطعت
اشربها مع الأصدقاء على رغم الأعداء
لا تفکر أن رمضان قادم غدًا،
اشرب الیوم الخمر و احمل غدًا همّ غد
لو لم تکن أسطر هذا المقال مقیّدة بقید «الشعر الساخر» لأمکننا تخصیص حجم أکبر للأعمال الرائعة الفریدة لعبید الزاکانی، و استعرضنا بمزید من التأمل و التدقیق نماذج متألقة من أدبه الساخر؛
الرؤیا الکاذبة
قال له شویعر مهذار: لیلة البارحة رأیت سیدنا الخضر علیه السلام ألقى ریقه المبارک فی فمی. فقال له: خسئت، إنمّا أراد الخضر أن یبصق على وجهک و لحیتک ففتحت فمک فوقع البصاق فی فمک.
عین الیقین
راق غزله هذا لأحد أبناء الشیوخ لم یکن یخلو من بلادة و له دعاواه فی الشعر و الشاعریة:
من طول ما عشعشت فی روحی الحزینة و عینی الساهرة
رحتُ أظنُّ کلّ قادم من البُعد هو أنت
حین انتهى عبید من قراءة القصیدة إعترض ابن المشایخ على مطلع شعره قائلًا: قلت: رحتُ أظنُّ کلّ قادم من البعد هو أنت، فربما کان القادم حمارًا أو بقرة؟ فقال له: أظنّه أنت..
المجوسی المتظاهر بالإسلام
کان مولانا الشیخ حسین فی زمن المیرزا السلطان أبو سعید مأمورًا مستقلا بحیث أن المیرزا کان یقول إن مولانا شریک ملکی. و ذات یوم أقنع مجوسیًا بالإسلام و وضع عمامته على رأس المجوسی المستسلم توًّا، و أهداه جبّة من خزینة المیرزا، و أرکبه فرسًا و جال به سوق المدینة بین قرع الطبول و تزمیر المزامیر. فقیل للمیرزا إن مولانا أدخل مجوسیًا فی الإسلام و أهداه عمامته فوضعها على رأسه. فقال: «إنَّ مولانا یضع عمامته على رأس مجوسی منذ ستین سنة».
ما قرأتموه کان مختارات من «لطائف عارف جام» الواردة فی کتاب «لطائف الطوائف». ألّف مولانا فخر الدین علی الکاشفی هذا الکتاب بعد أربعین عامًا من وفاة الشاعر الإیرانی المعروف الجامی. و تدلّ هذه الحکایات القلیلة خیر دلالة على مدى موهبة السخریة و الطرافة و البدیهة عند الشیخ الجامی. فضلا عن ذلک, فإن تخصیص فصل مستقل فی کتاب قیم هو «لطائف الطوائف» لطرائف الشیخ و دقائقه یشیر بحد ذاته إلى مدى اشتهاره بهذه الخصال الرفیعة المحبّبة.
ما نقرأه عن شطارات الجامی و طرافته یخلق لدینا توقع معین نقترب به من أشعاره فلا نجدها تلبّی ذلک التوقع کما ینبغی. مع ذلک لا یمکن المرور بعبد الرحمن الجامی مرور الکرام عند الحدیث عن الشعر الإیرانی الساخر، خصوصًا و أن کمّ الحکایا الساخرة التی نظمها کان ملحوظًا.
لنقرأ معًا هذه الحکایة التی ربما نظم مضمونها شعراء و کتاب غیر الجامی، لکن الاستماع لها بروایته لا یخلو من طرفة:
وقف دبّ على جرف النهر طامعًا
کان یرید اصطیاد سمکة
و إذا بسمکة تقفز من الماء فجأة
فمدّ الدبّ یده فی اللحظة لیصطادها
فانزلقت قدمه من مکانها و سقط فی الماء
و ألقى فروته فی الماء من خطئه
کمّ من الناس قطع الطمع طریقهم
بقوا ساقطین فی الآبار دون أن یشربوا من مائها
طلب الماء لحیاته
فلم یر منه غیر هلاکه
کان الماء حالکًا ممتدًا
لم یجد فیه الدبّ المسکین أیة حیلة
راح یتخبّط و یتخبط دون جدوى
إلى أن ترک نفسه للأمواج یائسًا
و کان شخصان على جرف النهر
عاکفین على حاجة لهم هناک
تساءلا: ما ذا الذی نراه.. أهو حی أم میت؟
کأنه جلد مملؤ بالقماش و الألبسة
بقی أحدهما علی ساحل النهر
و ألقى الآخر بنفسه فی الماء
ظلّ یسبح إلى أن وصل للفروة الممتلئة
و کان الدبّ یطلب لنفسه منقذًا
قبض الدبّ بیدیه بقوة علی السبّاح
فأعیی السبّاح أن یسبح
یئس السبّاح من نفسه بین تلک الأمواج
راح یصعد تارة و یغطّ تارة
حین رأى صاحبه حاله من على جرف النهر
نادى علیه: یا صاحبی العزیز
إن کان الجلد ثقیلًا اترکه و انج بنفسک
اترکه لأمواج النهر
فقال له صاحبه: لقد ترکت الجلد
و لا طمع لی فیه
لکن الجلد لا یترکنی و حالی
إنما کسر ظهری بقبضته و مخالبه.
أربعة شعراء مختلفین
سبق أن ذکرنا أن الأدب الساخر شهد نموًا نوعیًا و کمیًا ملحوظًا من القرن السادس للهجرة فما بعد، و اللافت أنه ظهر خلال هذه الحقبة کما هو الحال بالنسبة للحقبة التی سبقتها أربعة شعراء أیضًا کانت لهم تجارب مختلفة و مذهلة، و احتلت السخریة فی أعمالهم مکانًا جدیرًا بالاهتمام و الملاحظة. أربعة شعراء کان لهم دور بالغ الضخامة فی تکوین ثقافتنا، و سجّلوا فی تاریخنا منزلة فاقت الحدود الدارجة الطبیعیة. و نفرد لهم فی ما یلی فصلًا مستقلًا اعترافاَ بمکانتهم الممیزة.
الشیخ فرید الدین العطار النیسابوری
فرید الدین محمد بن إبراهیم إسحاق الکدکنی المشهور بالشیخ فرید الدین العطار النیسابوری عاش فی النصف الثانی من القرن السادس و الربع الأول من القرن السابع للهجرة، و کان من نوابغ الثقافة الإیرانیة – الإسلامیة. أعماله المنثورة و المنظومة تعبّر عن شخصیة عاشقة والهة زهدت مطلق الزهد فی کل ما فی هذا العالم، و لم تتخذ من رصید سوى العشق و الهموم و الآلآم. یقول هو نفسه حول هذا المقام: «روایة أحوال الألم و أقواله یصنع من غیر الرجال رجالًا، و من الرجال أسودًا، و من الأسود أفذاذًا، و من الأفذاذ عین الآلآم بعینها!». و مع ذلک فإن فی کلماته المحمّلة بالهموم ملاحة تسهّل قراءتها على القرّاء. و لا شک أنه لو لا هذه الملاحة فی کلمات الشیخ لما استطاع أحد أن یطیق کل هذا الجنون و الآلآم. تتوفر جمیع آثار الشیخ النیسابوری على مستوى واف و کاف من الملاحة و الحلاوة فتخرج جدیرة بالسماع، على أن هذه الهموم و الملاحة بلغت ذروتها فی أحد أعماله الذی یعدّ من روائع الأدب الإیرانی الساخر، ألا و هو عمله المسمّی «مصیبت نامه».
تبدأ السخریة فی هذا الأثر منذ البدایة، أی فی تسمیة الکتاب. کتاب ملئ بالحکایات الساخرة یسمّیه صاحبه «مصیبت نامه» أی کتاب المصائب، لنعلم أن السخریة و التراجیدیا لیستا ببعیدتین عن بعضهما من وجهة نظر العطار، و ظروف الإنسان فی عالم الخلقة بمقدار ما تثیر الضحک یمکن أن تکون کارثیة أو بالعکس. و یشکل أبطال مصیبت نامه أو شخصیاتها أناس لهم أسماء تنطوی على مفارقات: «عقلاء المجانین» أو «المجانین الحکماء».. إنهم عقلاء ارتدوا أزیاء المجانین لیستطیعوا التعبیر عن بعض الحقائق التی لا تطیق کل الآذان سماعها. و ذکر الباحثون أن البهلول هو رائد عقلاء المجانین. عالم جلیل أمره الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) أن یتظاهر بالجنون لیأمن جور و ظلم خلیفة العصر هارون الرشید. التظاهر بالجنون سمح للبهلول أن یلهج بالکثیر من الکلام الذی لم یجرؤ عقلاء العصر على التحدّث به، و یوصل بهذه الطریقة حقائق مرّة لاذعة إلى أسماع الناس. و یتأسّى العطار النیسابوری بالبهلول فیختار الشخصیة الأصلیة لقصصه من بین المجانین لیتاح له أن یذیع على الورق عن ألسنتهم کل ما یضیق به صدره المهموم. و من المشهود بوضوح تعاطف و تفاهم شیخ نیسابور مع المجانین الطریفین فی مصیبت نامه. و هو طبعًا لا یرى بعض الکلمات التی تفوح منها رائحة الکفر و الزندقة جدیرة بالإعلان إلا عن ألسنة المجانین الحکماء، و یحذّر العقلاء عن تکرار مثل هذه الکلمات الشاذة غیر الدارجة:
إذا نطق عاقل بمثل هذا الکلام
فأقم علیه حدّ الشرع و عذّبه
إن قال هذا المقال عاقل فقد أخطأ
لکنه مقبول من المجانین و العشاق
إنه کلام یعجب المجانین
و یهب العشاق الدفء و الحرارة
من النقاط اللافتة للنظر جدًا فی «مصیبت نامه» حالات السخریة الثوریة و المطالبة بالعدالة التی قلّ ما نرى نظیرًا لها، خصوصًا من قبل من نسمّیهم بالعرفاء. و لا مراء أن کلمات الشیخ الثوریة لا تخلو من الحکمة و الشحنة المعنویة. و بعبارة أخرى فإن الروح الثوریة و المعنویة امتزجتا فی بعض حکایات مصیبت نامه إلى درجة لا یمکن معها تفکیکهما عن بعض. فی إحدى الحکایات یرى الخواجه الأکّافی ملک عصره مستحقًا للزکاة. لماذا؟ نسمع الجواب من لسان الشیخ:
إن کان لک ملک و ذهب فی هذا الزمن
فهو للناس کله
فقد أخذته کله من الناس
و علیک إثمه کله
و لأنک لا تملک من نفسک شیئًا
فلن تنتفع شیئًا من کل ما تمتلک
مع أنک تملک أکثر من أی شخص آخر
فلا أعلم أحدًا أکثر فقرًا و دروشة منک.
تشکل الهموم و الآلآم أساس أعمال العطار النیسابوری. و قلّ أن نطالع مفردة «الألم» بهذا المقدار فی أعمال کاتب أو شاعر غیره. لکن هذه الحقیقة لا یمکنها أن تدلّ بمفردها على کون آثار العطار آثار هموم و آلام، و لکن حیث أن کل ظاهر إنما هو تجلّ لباطن، و حیث أن هناک بالتالی علاقة بین هذین المفهومین، یمکن اعتبار هذه الظاهرة الجلیة شاهدًا آخر على ادعائنا. یمکن ذکر سمات و میزات عدیدة لکتاب العطار «مصیبت نامه» من تنوّع المضامین و سعتها إلى الآراء و الأفکار غیر المألوفة.
مولانا جلال الدین محمد البلخی الرومی
«مولانا» لقب أطلق على کثیر من کبار شخصیات العرفان و الأدب الإسلامی مثلما أطلق على جلال الدین محمد البلخی، و لکن یبدو أنه کان ألیق بصاحب «مثنوی معنوی» و «دیوان شمس» من سواه، فغلب علیه إلى درجة أننا حین نذکر هذا اللقب من دون أیة إضافة أخرى یفهم منه الجمیع جلال الدین الرومی المولوی. یقول مولانا فی کتاب «فیه ما فیه» بصراحة إننی أکره الشعر، و ما أنظمه کشعر إنما هو استجابة لطلبات الآخرین. و هذا الأمر لا یختصّ به، فصاحب «قابوس نامه» مثلًا یقول أیضًا إنه ینظم الشعر للناس و لیس لنفسه. و هنا یجب أن لا نقع فی خطأ، فهذا الکلام لا یعنی التنکّر لفن الشعر إنما یفید أن الشعر بما هو شعر لم یکن ذا قیمة و مکانة تذکر فی نفوس هؤلاء العظماء. الشعر بوصفه عملًا فنیًا له الکثیر من الطلاب و القرّاء، لذا یمکن اتخاذه وسیلة لطرح حقائق معینة على أسماع طلاب العشق و المعرفة. و أتمنى أن لا یفهم هذا الکلام فهمًا إیدیولوجیًا و لا یتصوّر القارئ العزیز أن هذه الجماعة لم تکن ترى أیة قیمة فنیة للشعر، و کانت تستخدمه لمجرد التعبیر عن معتقداتها و أفکارها. هم بالطبع اعتبروا الشعر قالبًا للتعبیر عن معتقداتهم و قناعاتهم، و لهذا السبب تحدیدًا لم یکونوا غافلین عن مکانة الشعر، إذ أنهم أدرکوا أن الکلام کلما کان مهذبًا مشذبًا کان له تأثیر أبلغ و أعمق فی نفوس المتلقین. کان مولانا یقول إن مفتعلن مفتعلن قد قتلتنی، و لم یکن یقول هذا من باب المبالغة أو المجاملة، فحقیقة کلامه لم تکن لتندرج فی أطواق الأوزان و القوافی الضیقة. الأوزان و القوافی کانت تسبب له جهدًا و متاعب، لکنه مع ذلک لم یترک الأوزان و القوافی بحال من الأحوال، لعلمه أن هذه الأوزان و القوافی هی التی تشفع له عند الناس. الکثیرون انجذبوا فی البدایة لهذا الکلام المموسق المطرب لمولانا و من ثم قادتهم هذه الألحان إلى السبیل التی أرادها مولانا.
یرى کاتب هذه السطور أنه ما من شاعر جدیر بالاهتمام إلا و أولى متلقیه الأهمیة اللائقة بهم، و هذا طبعًا لا صلة له بالمیل للعوام و الانهماک فی المناسبات الیومیة الزائلة. بل الشاعر الذی یهتم بمخاطبیه و جمهوره ینظّم کلامه کما فعل کبار شعراء الفارسیة بحیث یترّسخ لفترات طویلة و آماد بعیدة فی أذهان و ضمائر المتلقین الموهوبین المتصعّبین. و المثال البارز لذلک هو لسان الغیب الخواجه حافظ الشیرازی الذی بقی کلامه عبر القرون جدیدًا بل من أجدد الکلام. أقول هذا لأقول إنه حینما یولی عاشق واله ماقت للشعر کل هذا الاهتمام لمتلقیه و یضع دیوانًا کبیرًا من مفتعلن مفتعلن إرضاء لخواطر الناس و نفوسهم، فإنه بلا شک لن یغضّ الطرف عن الأدب الساخر الذی یعدّ من أروج الکلام سوقًا. استخدام مولانا للسخریة کان استخدامًا واعیًا تمامًا. و من عجائب و سحر مولانا مزجه هذا بین عالمی الوعی و السکر. إنه غیر واع بمقدار ما هو واع. و لهذا السبب نرى أن لکل واحد من أعماله الثلاثة لغته الخاصة. لغة مولانا فی «فیه ما فیه» لغة شاملة مستوعبة لأن جمهور «فیه ما فیه» مزیج من الخواص و العوام. فی تلک المجالس کان العلماء مخاطبی مولانا و کذلک عموم الناس، فاضطر من أجل تصریف أذهان جلسائه أن یستعین بلغة ترضی الخواص و یستسیغها العوام. و «مثنوی معنوی» یضمّ نفس هذه المفاهیم و المعانی، بل إن بعض التشبیهات و الحکایات وردت فی «فیه ما فیه» بحذافیرها تمامًا، و لکن حیث أن المتلقین فی المثنوی هم حسب الظاهر من الخواص غالبًا لم یتحاش مولانا التحدّث بطریقة رمزیة ثقیلة على الأذهان بعض الشیء. أما غزلیات «دیوان شمس» الهائجة المائجة المتدفقة بالحرارة فلها حکمها المختلف تمام الاختلاف. الغزل ساحة لتجلیات الروح العاشقة الفیاضة الولهی لمولانا. إنه حین نظمه الغزلیات لیس بفقیه و لا عالم متکلم فاضل، إنما هو مجنون یرقص باسطًا ذراعیه کالدراویش هادفًا إلى بعثرة کل العادات و الأعراف التی تسود عالمه و عصره.
إذن، اقترب جلال الدین من الأدب الساخر باختیاره و حریته، أی إنه لم یکن أدیبًا ساخرًا بطبیعته الذاتیة. مثلًا کان الأنوری شاعرًا ساخرًا بطبیعته. إنه یمزح و یتلاطف و ینهج منهج المطایبات و السخریة حتى فی مدائحه و شکایاته. طبعًا لا یمکن تجاهل الدور الذی لعبه العارف الشهیر المذهل عالم الإسلام شمس الدین ملکداد التبریزی فی حیاة مولانا و نظرته للوجود. لقد غیّر شمس التبریزی روح مولانا و عالمه، و أنزله من على منبر الفقه و الکلام إلى أزقّة الشعر و العشق. کان مجنونًا کبیرًا تتموّج فی کلامه الملتهب القاطع أمواج الجنون و الکبریاء.. کلام لا یزال غریبًا إلى الیوم و مختلفًا تمامًا عن کلام غیره من العرفاء الإیرانیین المشاهیر. و من جملة خصائص اللغة التی اعتمدها أسوة مولانا السخریة المحببة و الصدامیة فی نفس الوقت، و التی لا یمکن أن نجد لها نظیرًا أو بدیلًا. و قد کان جانب کبیر من هذه السخریة أثناء سجالات و مجادلات دارت بین شمس التبریزی و أدعیاء الوصول للحقیقة. مثلًا کان هناک مدع متکبّر یقول: لقد أثبتّ الله بعدة أدلة، فردّ علیه شمس التبریزی غاضبًا: یا أخا الفاجرة، الله ثابت دون أی دلیل، إذهب و أثبت نفسک.
من السمات البارزة للسخریة عند مولانا جرأتها و صدامیتها و استهزاؤها بدعاوى الأدعیاء، و هذه سمات ملحوظة فی کل مکان من مقالات شمس التبریزی، و تأثیرها على نتاجات مولانا واضح جدًا و مما لا سبیل لإنکاره. لیس من المیسور التحدّث فی هذه العجالة عن السخریة فی مثنوی معنوی، و مع ذلک یلوح أن من المناسب الإشارة هنا إلى نقطة أو نقطتین فی هذا الصدد. أولًا غالبیة ما یجری على ألسنتنا من المثنوی أو ما تسرّب منه إلى حیاتنا و ما سار مسار الأمثال و الحکم بین الناس أبیات و مصاریع یمکن تسمیتها ساخرة بکل ثقة.
ثانیًا هدم المحظورات التی مارسها مولانا لم یکن میسورًا له إلا باللغة الساخرة. بفضل اللغة الساخرة یستطیع مولانا السخریة من الفقهاء و المتاجرین بالدین و الصوفیة و سائر الشرائح المتنفذة فی عصره. إنه قادر فی ظل الأجواء الساخرة على الجمع بین الألفاظ النابیة و المفاهیم المقدسة السامیة إلى جانب بعضها لیسجّل أکبر تحطیمًا للمحظورات المضمونیة و الصوریة فی تاریخ الشعر الإیرانی. إننی حینما قرأت «مصیبت نامه» للعطار النیسابوری تحمّست إلى درجة تصورت معها أن مولانا بکل عظمته لم یستطع الاقتراب من العطار فی قدراته الساخرة. و الیوم بعد أن ابتعدت عن ذلک الهیاج لا أرید إصدار حکم آخر کأن أفضّل کلام مولانا على شیخ نیسابور، إنما أرید القول إن کلا العظیمین أنجز عملًا عظیمًا یلیق باسمیهما و شأنیهما. إنجاز العطار له نکهته و أریجه الخاص، کما أن کلام مولانا و کل واحد من هذین العظیمین یستعرض أمام أنظارنا مناظر بدیعة و فذة. المجال المقتضب فی هذه السطور لا یسمح لنا بمزید من الکلام عن مولانا، إذن فلنجعل ختامه إشارة إلى إحدى حکایات المثنوی. یروی مولانا فی الدفتر الثانی من المثنوی قصة رجل أعمى یصادف کلبًا فی زقاق، فینطلق الأعمى من شدة هوله و خوفه بمدح الکلب، و تنبثق ظروف کومیدیة دالة، و تبدو المدائح التی یسردها الأعمی فی مدح الکلب لافتة و طریفة جدًا، لکن الأطرف منها النتیجة المحیّرة التی یخلص إلیها مولانا من هذه الحکایة و المعارف التی یسردها فتدهش القارئ بحق:
فقال من شدة اضطراره: أیها الأسد
ماذا ینفعک من صید نحیف مثلی
أصحابک فی السهول تصطاد الحمیر الوحشیة
و أنت تصطاد أعمى فی هذا الزقاق؟
أصحابک یبحثون عن الحمیر الوحشیة للصید
و أنت تکید لتعثر على أعمى فی زقاق؟
الکلب العالم یصطاد حمارًا وحشیًا
و الکلب البلید یرید صید الأعمى
إذا تعلم الکلبُ العلم نجا من الضلال
و سار فی السهوب وراء الصید الحلال
إذا صار الکلب عالمًا غدا خفیفًا متوثبًا فی الزحف
و إذا صار عارفًا صار من أصحاب الکهف
الکلب یعرف ما هو الصید المفید
یا إلهی ما هذا النور الذی یجعلنا نعرف الأشیاء
حین لا یعرف الأعمى فلیس لأنه بلا عیون
بل لأنه سکران بجهله.
سعدی الشیرازی
یدّعی إیرج پزشکزاد فی کتابه «السخریة الفاخرة عند سعدی» أن الأجانب تحدثوا سنین طوالًا عن الأدب الساخر عند سعدی و لا زالوا یتحدثون، لکننا کإیرانیین لم نفتأ غافلین عن هذا الجانب من جوانب آلهة الأدب و الکلام الفارسی سعدی. فما السبب؟ لا أظن أن هناک تعمّدًا فی القضیة. لقد کنا غافلین أساسًا عن الأدب الساخر إلى ما قبل سنوات. إذا کنا نبحث عن الجواب فینبغی طرح السؤال بصورة صحیحة. لقد کنا غیر آبهین حتى لعبید الزاکانی إلى ما قبل سنوات، و کذلک لشاعر کبیر مثل إیرج میرزا. أرید القول إننا لا نرتاح أساسًا للشعراء و الکتاب الشجعان الذین أمسکوا مرایا صافیة أمامنا لیطلعونا على معایبنا و نواقصنا. قال البعض إن سعدی الشیرازی له فی تصوّرنا نحن الإیرانیین منزلة سامقة إلى درجة تقترب من الأساطیر، لذلک لم یکن من المناسب أن ننسب إلیه السخریة، و لم نجد من اللائق أن توجّه له مثل هذه التهمة. لا أدری.. ربما لا یخلو هذا الکلام أیضًا من نصیب من الحقیقة، و لکن ربما کان الأصح أن نقول إنه لم یکن ثمة فی آدابنا إلى ما قبل بضعة عقود شیء اسمه «الأدب الساخر» معترف به رسمیًا. لا أن مفردة السخریة «طنز» لم تکن موجودة، بلى، کانت مفردة السخریة فی الأدب الفارسی منذ زمن قدیم جدًا بمعنى یفید تقریبًا الطعن و الغمز و اللمز، أما أن یکون هناک مکانة خاصة للسخریة و الکتابة الساخرة و تجری حولها دراسات و بحوث، فلا. هذا التعامل مع الأدب الساخر لا یمتد إلا لعدد قلیل من السنین، و طبعًا من أجل تدارک غفلة أحقاب طویلة عن الأدب الساخر لسعدی الشیرازی أکثرنا الکلام خلال الأعوام الأخیرة عن الجانب الساخر فی أدبه، و هذا بحد ذاته مؤشر إیجابی.
وفق القراءة التی لنا الیوم عن الأدب الساخر لم یکتب الشیخ الأجل سعدی الشیرازی شیئًا غیر الأدب الساخر. لیس الأدب الساخر الیوم شیئًا فی مقابل الکلام الجاد. و إذن، یمکن العثور على الکثیر من السخریة فی الکلام الجاد، کما یمکن العثور على کثیر من الجدّ فی الکلام الساخر. یقول مولانا جلال الدین الرومی «الهزل تعلیم فاسمع بجدّ» و یلوح أن فی قوله هذا نوعًا من العتاب على مخاطبیه فی عصره ممن یعتبرون الهزل مجرد مزاح و کلام غیر جاد، و ربما کنا نحن الیوم نفهم کلام مولانا أفضل من معاصریه، لأننا ننظر فی کلامه الساخر و أنداده کما ننظر فی الکلام الجاد. طبعًا یمکنکم أن تقولوا «السخریة» بدل «الهزل» لیشمل قولکم کل تفریعات السخریة بما فی ذلک الهزل. أعود و أقول إن سعدی الشیرازی کاتب ساخر بامتیاز حسب قراءتنا المعاصرة للسخریة. کان ینظر للعالم و شؤونه من زاویة ساخرة، و یبدو لی أن هذا الکاتب و الشاعر الفذّ نظم بعض غزلیاته لمجرد السخریة. و من ذلک الغزل التالی:
کل من کان فی الصباح عند شخص ما
طرقت الأهواء و الوساوس رأسه کل مساء
لا تمنّی قلبک بوفائه و صحبته
فالمنافسون مثلک کثار کثار
یصادقک و یتزلف إلیک
طالما کنت قادرًا متمکنًا
یقول لک أنت الیوم فی کل هذا العالم
مؤنسی و ندیمی و حبیبی
و یقول لغیرک غدًا
إن العالم قفص على قلبی من دونک
کالنحل یحطّ هنا و هناک
هو ذبابة أین ما کانت فریسة
کلها دعاوٍ فارغة بلا معنی
صدقه خاو فارغ کالجرس
یذمّ هذا عند ذاک بأنه حمار
و یعیب ذاک عند هذا بأنه تافه
أین ما رأیتَ أحدًا من هؤلاء
لا تعره أیّ بال فإنه لیس بأحد
وصفوا سعدی الشیرازی بأنه شاعر الحیاة لأنه ملتصق بالأرض أکثر من غیره من الشعراء. و بالطبع فإنه کغیره من الشعراء بسبب ما له من لوثة جنون لا یمکنه أن لا یکترث لعالم المعانی، بید أن نظرته المعنویة لا تؤدی به إلى الإفراط و التنکّر لشؤون الدنیا. إنه لا یرى العالم سجنًا للبدن بل مناظر ملونة جمیلة، و هدیة ثمینة من الخالق تعالى نقضی فیها أیامًا عاشقین مسرورین:
مسرور أنا فی العالم فالعالم مبتهج به
أعشق العالم کله فالعالم کله منه
و الفارق بین سعدی و الشعراء القائلین بوحدة الوجود یکمن فی هذه المفردة الصغیرة «من». العرفاء المیالون لوحدة الوجود یرون العالم هو، و یؤکدون أن لا شیء سواه، لکن الشیخ سعدی یرى لموجود اسمه الإنسان قیمة و کرامة و قربًا خاصًا. و الإنسان هنا لیس الإنسان الذی خلعوا علیه المعانی العجیبة الغریبة الفانتیزیة، إنما هو إنسان ذو لحم و دم و عظم و أعصاب. إنسان یمشی و یجوع و یتزوج و یفرح أحیانًا و یحزن أحیانًا، و یمرض أحیانًا و یموت أخیرًا. یتحدث سعدی الشیرازی عن مثل هذا الإنسان. إنسان یعشق الجمال لأنه إنسان، و بالتالی لا یستطیع أن لا یسخر من کلام الذین ینهونه عن عبادة الجمال:
الجماعة الذین یقولون بحرمة النظر للجمال
حرّموا النظر و أحلّوا دماء الناس
قد لا نصدّق لو قیل لنا إنه کان فی زمن سعدی من لا یستطیبون لهجته الساخرة المداعبة، و ینکرون علیه کلامه لنفس الأسباب التی نحمده الیوم علیها. أو یمکن عدم استساغة کل هذه اللطافة و الظرافة و الفن المعجز و الانزعاج من عالم فسیح من الحیویة و الشباب؟! و أقول مستشهدًا بکلام الشیخ نفسه فی ختام الباب الثامن من «گلستان»: «غالب کلام سعدی مطرب مطایب، و ضیّقو الآفاق یطعنون فیه لهذا السبب و یقولون إن إنفاق الدماغ و تحمّل دخان المصابیح من دون جدوى لیس من فعل العقلاء. و لکن لا یخفى على ذوی القلوب المستنیرة و هم من توجّه إلیهم بکلامه أنه نظم درر المواعظ الشافیة فی سلک العبارات، و مزج دواء النصیحة المرّ بشهد الظرف و المِلح، حتى لا یحرم طبعهم الملول من تیجان القبول.
لقد قدمنا النصیحة فی مواطنها
و قضینا عمرًا فی هذا المقام
و إذا لم ترغب بذلک بعض الأسماع
فما على الرسول إلا البلاغ المبین».
نشکر الله شکرًا کثیرًا على أن الشیخ الأجل رأى الکلام المطرب المطایب من واجبات الأنبیاء، و لم یأبه لترهات المتحجّرین ذوی العقول و الآفاق الضیّقة، و لولا ذلک لخسرت البشریة خسرانًا عظیمًا، و حرمت من کنوز قیمة. و کما قال الشیخ نفسه فإن الشکل الغالب لکلامه کان مطربًا مطایبًا. حتى حینما لا یتوسل سعدی بالسخریة یبقی کلامه مطایبًا، نظیر الدیباجة المتألقة لگلستان التی تعدّ ذروة فی حسن الکلام و فنونه. و لکن حین تتحوّل المطایبة إلى سخریة یتضاعف ألق کلامه و درجة تأثیره و نفوذه فی النفوس. لنقرأ:
لو بقیت تقرأ القرآن بهذه الطریقة
لذهبتَ برونق الإسلام
و لنقرأ أیضًا هذه الحکایة القصیرة الطریفة من «بوستان»:
ذات لیلة لم ینم کردی من وجع فی جنبه
و کان هناک طبیب عاده فقال:
إنه یأکل أوراق العنب أکلًا
لا أحسب معه أن الحیاة تمتدّ به لغیر هذه اللیلة
فثقل المأکل غیر المناسب على الصدر
أثقل حتى من نبال سهام التتار
إذا التوت الأمعاء من لقمة
مضى کل عمر الجاهل هدرًا
و شاء القضاء أن یموت الطبیب تلک اللیلة
و یعیش الکردیّ أربعین عامًا بعدها !
حافظ الشیرازی:
إذا کانت «الشطارة» (رندی) من أرکان السخریة الرکینة فلا غرو أن یعتبر الخواجه شمس الدین محمد الشیرازی الملقب بحافظ من عظماء هذا الفن الشریف. و طبعًا للشطارة معناها الواسع المبهم المغلف بالأسرار و الغموض. و لأصحاب الرأی و الاختصاص کثیر من الکلام حول هذا المفهوم المحیّر الغامض. و مرادنا من «الشطارة» فی هذا المقام أسلوب من السلوک و القول یطرح فیه الشخص «الشاطر» الحقائق بطریقة لا یستطیع معها أعداء الحقیقة خلق متاعب له. أی إنه یترک لنفسه دومًا سبیلًا للإفلات من هجمات المفتین و الرقباء. و طبعًا فإن المفتین و الرقباء و المحاسبین لیسوا متخلفین إلى درجة لا یفهمون معها مراد الشاطر، لکنهم لا یستطیعون مع ذلک فعل شیء. فالشاطر لا یتحدّث بصراحة حتى یمکن اتهامه بسهولة بتسوید الأجواء و تعتیمها و تشویش أذهان الناس و إفساد عقولهم. بل إن التحدّث بکلام ذی وجوه عدّة من خصوصیات کلام الشطار حتى یأخذ کل إنسان من ذلک الکلام ما یراه مفیدًا مجدیًا صحیحًا. ربما حاول الکثیرون فی الأدب الإیرانی التحدث بهذه اللغة و هذا الأسلوب، لکن حافظ الشیرازی فقط من بین کل هؤلاء استطاع تصریف الکلام و صیاغته بحیث یجد کل امرء نفسه و شکله فی مرآته. یمکن البتّ بخصوص معظم الشعراء حول عقائدهم و مذاهبهم و أدیانهم، لکن الجدل لا یزال قائمًا مستمرًا بشأن عقیدة حافظ. متنوّر مثل شاملو یراه بعیدًا عن کل المعتقدات الدینیة، أی إنه علمانی بنحو من الأنحاء، و عالم دینی مثل الشهید مطهری یعتبره عارفًا ورعًا تقیًا. و لا تزال مثل هذه التفاسیر و التأویلات تتدفق حول حافظ الشیرازی و لکلّ منها أنصاره و معارضوه. إنها تفاسیر تدل – بعیدًا عن صحتها أو سقمها – دلالة حاسمة على شطارة الخواجه الشیرازی.
الشاعر مهدی أخوان ثالث کان عظیم الانبهار بالخیام النیسابوری، لذلک أطلق علیه لقب «الشاطر الأعظم فی کل الآفاق»، لکننی أظن أن مثل هذا اللقب یجدر بلسان الغیب حافظ الشیرازی أکثر من الحکیم عمر الخیام. صحیح أن الخیام أحد عظماء الثقافة الإیرانیة، و له فی الشعر الفارسی مکانة خاصة، و لذا لا یمکنه أن یکون خالیًا من شطارة، على أن الصراحة فی أدبه دفعت البعض و منهم صاحب مرصاد المعاد إلى تکفیره، الشیء الذی یعدّ فی عالم الشطارة ثلمة و نقطة سلبیة. أضف إلى ذلک أن منح الألقاب لهذا و ذاک کان له فی الماضی حساباته و معاییره الدقیقة، و لم یکن بوسع أحد الحصول على لقب الشیخ و الحکیم و الخواجه اعتباطًا. حین یمنحون للخواجه لقب «لسان الغیب» أو «الشاطر» فقد کانوا یعلمون ما یفعلون. سبق أن کتبتُ شیئًا عن الفرق بین مقام الحکیم و الشاطر، و ذکرت أن کلامی الشاطر و الحکیم قد یقتربان من بعضهما أحیانًا اقترابًا کبیرًا. و لم لا؟ الذی اطلع على أعمال کل الشعراء الذین سبقوه و صادر على مطلوب حتى أعمال الشعراء المتوسطین کیف یمکنه أن یغضّ الطرف عن رباعیات الخیام المحیّرة للألباب؟ و کم من الرباعیات اکتسبت بفضل خفة ید الساحر صبغة و نمطًا مختلفًا تمامًا. إن نظرة عاجلة للمضامین المتشابهة بین هذین العبقریین تدلنا علی الفارق بین مقامی الحکیم و الشاطر. یقول الحکیم:
إن کانوا قد أجروا قلم القضاء علیّ دون حضوری و علمی
فلِمَ ینسبون مساوئ ذلک و محاسنه لی؟
بالأمس لم أکن و الیوم کالأمس لست موجودًا لا أنا و لا أنت
فبأیّ حجّة یأخذونی غدًا إلى القاضی؟
و قد أورد الخواجة الشاطر هذا المعنى مرارًا، لکن لا بصراحة الحکیم و جرأته. یقول مثلًا:
ها و قد قسّموا القسمة الأزلیة من دون حضورنا
فلا تؤاخذ على القلیل الذی لم یأت وفق مرادک
و کلمة القلیل نفسها هنا شاهد على ذروة شطارة الخواجه الشیرازی. إنه أیضًا لا یرى لنفسه أی فعل أو قول، و یوافق الحکیم فی عدم اختیار العباد، لذا لا یمکن اعتبار المذنبین مستحقین للعقاب، لکن شطارته تدفعه إلى التحلّی بالأدب فیقول:
رغم أن الذنب لم یکن باختیارنا یا حافظ
لکن علیک برسم الأدب و قل إنه کان ذنبنا
من الضروری هنا إیضاح أن هذا لا یتعارض أبدًا مع حکمة الخواجه حافظ الشیرازی و کونه حکیمًا، کما لا یتسنی اعتبار الخیام النیسابوری خالیًا من الشطارة، لکن لو أردنا تخصیص لقب الشاطر لأحد هذین العظیمین لکان لسان الغیب الشیرازی أجدر به للأسباب التی ذکرناها. التحدّث بکلام ذی وجهین صنعة رغب فیها الشعراء رغبة جامحة. فالشیطنة و الطرفة التی فیها تضفی طابعًا غامضًا سریًّا على الکلام و تشغل الناس به کی یفتشوا عن مراد الشاعر و قصده، و یلوح أن هذه النقطة بالتحدید کانت مقصد الشعراء و غایتهم: عدم منح المتلقین لذّة سهلة. و إذا وافقتمونی القول إن هذا الأسلوب من الکلام یوجِد بحد ذاته نوعًا من الأجواء الساخرة، فیجب أن لا نشک فی أن حافظ الشیرازی أستاذ حاذق فی هذا النمط الأدبی:
تعلم طریق الشطارة من المحتسب أیها الفؤاد
ثملٌ و لا أحد یظنّ به أنه ثمل
ما هو دور المحتسب التعیس فی هذا البیت حقًا؟ و ما هو دور الشاطر؟ و هل الشطارة هنا سلبیة أم إیجابیة؟ هل جرى هنا مدح المحتسب أم ذمّه؟ و قرّاء القرآن فی البیت أدناه ما هو حکمهم و أی قوم هم؟
و ماذا لو لم یفهم الزهّاد شطارة حافظ؟
فالعفریت یفرّ من قوم یقرأون القرآن
و هل بوسعکم أن تقولوا لأی الجانبین ینحاز الشاعر فی هذا البیت؟
أخشى على خبز الشیخ الحلال أن لا یفوز
یوم الحساب على مائنا الحرام
و بالطبع فإن حافظ الشیرازی لا یتحدث من خلف الأغلفة و الأستار دومًا، لکن حتى حینما یصرّح بلهجته لا نراه ینسى المطایبة و الظرافة و الشطارة:
أتدری ما یقول القیثار و العود؟
اشربوا الخمرة سرًّا فإنهم یعزّرون
یهتکون عرض العشق و یسحقون رونق العشاق
یعیبون الشباب و یعنّفون الشیب
لم ینتجوا سوى قلوب سود، و لا زالوا
على باطل ظنهم أنهم یعملون الإکسیر
یقولون لا تقولوا و لا تسمعوا رموز العشق
یا له من کلام عسیر یقولونه
اشرب الخمر یا صاح، فالشیخ و حافظ و المفتی و المحتسب
کلهم محتالون یزوّرون لو أمعنت النظر.
لا ندری، ربما نهج حافظ منهج الصراحة کلما أتیحت له فرصة ذلک، و کلما شعر بالخطر قریبًا تحدث بلغة الإشارات و الإیماءات. ربما کان فی الأحوال العادیة یعرض الأمور بالغمز و اللمز و الکنایات الظریفة، و یقول بدعابة مثلًا:
لا تذکروا عیوبی للمحتسب فهو أیضًا
ما انفک مثلنا یطلب العیش المدام
و حین تضیق به عربدات عبید الظاهر و الریاء یستلّ سنان لسانه من غمد الفم لیقول:
انظر لصوفیّ الحیّ کیف یأکل طعام الشبهات
أطال الله ذنبه هذا الحیوان الطیب العلف
لا ندری.. لکننا نعلم جیدًا أننا لو أردنا التمثیل لأدب ساخر حکمی راق متسام شاطر طاهر حاسم مؤثر، و نقدّم نموذجًا لأصفى أشکال هذا الفن الرفیع و أکثره أصالة لما کان أمامنا سوى أن نراجع دیوان حافظ الشیرازی.