الجمال العزیزة
حسن فرهنگی
تعریب: علی رضا خواجه بور
إنتقل فی 1993 الى العاصمة طهران و بعد مدة وجیزة أثمرت جهوده فی تأسیس بیت القصة الإیرانی. من روایاته المطبوعة «النساء یضحکن مثل بعض» و «لیلى ذریعة الاضطرار» و «الکاتب لا یموت یمثل» و «مذکرات حب متسول» و قد حصلت بعض روایاته و قصصه على بعض الجوائز. قصة الجمال العزیزة هی من أعماله غیر المنشورة.
أتکلم عن نفسی أولاً
إسمی هو حسین. لا أعلم من الذی أراد أن یکون اسمی حسیناً. سألت عدّة مرّات ممن أعیش معهم و لکنهم لم یکونوا یعلموا. على أیة حال فإسمی حسین. لم أر أمی حتى الآن و قد بلغت العشرین. قصة أمی کالتالی: فی یوم من الأیام ترى أمی رجلاً على جَمل یمر من محلتنا فتسأل أمی الرجل عن ثمن ذلک الجَمل، یسمع أبی بالخبر فیطلقها و هذا حدث عندما کنت لم أبلغ من العمر، الا شهراً واحداً. فتنازلت أمی عنی لأبی و ذهبت تبحث عن مصیرها، و لأن أبی لم یستطع الاعتناء بی أعطانی لخالة له لم تکن تنجب أطفالاً و هکذا أصبحت إبناً لهم. من ذلک الوقت و أنا کلما رأیت جَملاً تذکرت أمی. من حسن الحظ إن هذه الأیام من النادر أن نجد جِمالا فی الشوارع و الأزقة لذا فانا لا أذکر أمی إلا قلیلاً. کل عام فی شهر محرم تأتی إحدى المواکب الحسینیة بعدة جمال إلى محلات فأذهب لمشاهدتها. فانتحب باکیاً إلى أن یأتینی أحدهم و یربت على کتفی قائلاً کفى یا أخی أجرک على الله. فأبتعد عن المکان بذریعة ما کی لا یقع بصری على الجِمال و إلا فلا أستطیع أن أتمالک نفسی عن البکاء. فی إحدى المرّات عندما کنت أبکی وقع نظری على أحد الجِمال و کان یبکی هو الآخر أیضاً، فاعتلى صوت نشیجی أکثر و أکثر. کنا ننظر إلى بعضنا و نبکی و الناس فی لطم و نیاح. فضاع صوتی بین أصوات النیاح المرتفعة من ذلک الجم الغفیر و لم ینتبهوا إلیّ الا عندما یتوقف الموکب الحسینیّ عند أحد الأبواب لیشرب الناس الشربات المقدّم لقصد القربى و أداء النذر. عندها لم أکن لآخذ بالشربات من الطبق استمریت ببکائی العالی فکان الناس یلتفتون إلیّ و ینظرون لی. فی یوم من هذه الأیام قال لی أحدهم کفى یا أخی و قال الآخر تقبل الله منک.
الآن سأتکلم عنک.
کنا للتو قد عدنا من العرض الى المنام. کان الجنود جمیعهم قد ألقوا بأنفسهم على الأسرّة من التعب و إذا بالمأمور یدخل. فقفز الشباب من على أسرّتهم و اجتمعوا حوله و قرأ المأمور أسماءهم واحداً تلو الآخر. کلهم کانت لدیهم رسائل إلا أنا. عندها شعرت أن لم یعد هناک متعب غیری. إذ إنهم بعد أن أتموا قراءة الرسائل شرعوا بتلمیع أحذیتهم و قیاس الأحزمة بمحازمهم و ترتیب الأسرّة و ما شابه ذلک.
أخذت حقیبتی و ودعت شریکی فی السریر. قال لی: إلى أین؟
قلت: سأهرب.
ظن إنی أمازحه. هویت علیه أقبله، قال: لا تنخبل. قلت: ستصدق بعد حین. کان قد وضع رسالته على السریر فقال لی و هو یرمقها: یا حمار! على الأقل کان من المفروض أن تجد لک صدیقة حتى الآن کی تراسلک.
لم یقل شیئا بعدها و شرع ثانیة بقراءة الرسالة. کان المعسکر محاطاً بأبراج المراقبة من کل مکان. تسلقت بصعوبة الحائط الشرقی و قفزت إلى الجانب الآخر. کان من الممکن أن یطلق الحارس علیّ النار إن انتبه لأمری لکنه لم یحصل ذلک. رکبی قد أدمیت إثر انسحابها على الحائط. الموت هو الأمر الوحید الذی لم أکن أفکر فیه فی تلک اللحظة. کنت أفکر بک فحسب. لو کان فی المعسکر ثمة جِمال لکنت استطعت التحمل. کنت أذهب إلیها و أبکی بقربها. لا أعلم لماذا عندما کنت أرى جمالاً کنت أشعر و کأنی بقربک. لکن الجنود کانوا یقولون: إنهم لن یأتوا بالجمال الى المعسکر حتى فی شهر محرم. أنا عندما کنت فی المدینة لم أکن أهتم کثیراً لأمر الجمال و لکنی فی المعسکر و عندما کنت أرى المأمور یأتی بالرسائل و یصیح بأسماء الشباب واحداً واحداً کنت أتذکر الجمال کثیراً. لذلک ذهبت فی یوم من الأیام إلى غرفة القیادة و سألت العقید: ألا یوجد هنا جِمال یا سیدی؟
فنظر السید العقید الیّ بتمعن ثم أجابنی باستهزاء ماذا ترید بالجمال یا جندی؟ قلت له: هکذا، أردت أن أعرف إذا ما کانت لدیکم جمال فی المعسکر، أم لا. أمرنی السید العقید(بالإنقلاع)، فعرفت أن لا وجود للجِمال فی المعسکر و الا فقد کان الجنود الأسبقون قد رأوها، أو سمعوا بأصوات أجراسها على الأقل و لو لمرة واحدة. بعد هذا لم یکن باستطاعتی أن أتحمل أجواء المعسکر، لذلک هربت.
لقد تکلمت عن نفسی ثانیة، و الآن سأتکلم عنک:
کنت قد عثرت على عنوان بیتها بعد جهد جهید. لم یکن أمراً سهلاً. فی دفتر نفوس أبی کنت قد عثرت على الإسم العائلی لأمی. و عندما کان یتحدث عن ذکریاته کان یقول إن أحد أخوالی یعمل شرطیاً. کان الأمر کمن یبحث عن إبرة فی مخزن القش. لکننی کنت قد استطعت أن أعثر على عنوان خالی و قد مضت عدة أسابیع حتى أعرف بیته، ثم أقمت علاقة صداقة بأحد أولاده و کان سفیهاً، فعرفت منه مکان سکن عمته.
کنت أخاف أن یکون زوجها فی البیت. فاعتمرت قبعتی و نکستها على رأسی کی لا ترى عینای. دققت الجرس فإذا بصوت إمرأة تسأل: من ذا؟
قال الجندی: أنا.
قال الجندی: إنزلی لحظة من فضلک.
و نزلت المرأة بسرعة، تبدوا انها لم تتجاوز الأربعین من عمرها. کانت لها عینان جمیلتان واسعتان و الجندی کان یرید أن یعرف من خلال ملامحها ما هی نسبته بها.
قالت المرأة: تفضل؟
قال الجندی: إسمی حسین و أنا ابنک.
انهارت المرأة. لم یکن الجندی واثقاً من أنه ابنها و قبل أن یفکر کان قد قال بأنه ابنها، فانهارت المرأة. دخل الجندی إلى الباحة و قد جلست المرأة هناک على المدارج. قال الجندی هل سیمانع زوجک؟
قالت المرأة: لا
قالت المرأة:...
قال الجندی: هل أزعجتک؟
قالت المرأة: لا
قال الجندی: سأذهب إن شئت.
قالت المرأة: لا زال مبکرًا.
قالت المرأة: عدیم المروءة لقد سود عیشتی.
قال الجندی: من؟
قالت المرأة: أبوک المعتوه.
قال الجندی: لم آتی إلى هنا کی أتکلم عنه.
قالت المرأة: لم أتیت إذن؟
قال الجندی: إشتقت الیک.
تصبب جبینه عرقًا. فجفف جبینه بطرف کمّه و أطرق برأسه یحدق ببلاط الباحة. رفعت المرأة رأسها و نظرت الى عینی الجندی التین کان من الصعب رؤیتهما من خلف النظارة. قالت المرأة: لقد آذانی کثیراً لا سامحه الله.
لم یقل الجندی شیئاً. قالت المرأة: لیتک مت أنت أیضاً و لم تأتینی بعد عشرین سنة و تدمی کبدی. قال الجندی بتلعثم: اعتبرینی میتاً. سأذهب.
قالت المرأة: لا یمکن بعد الآن.
قالت بحنان: لم لا ترفع قبعتک؟
قال الجندی: أبدو قبیحاً من دون شعر.
قالت المرأة ضاحکة: کنت قبیحاً منذ البدایة، فأنت تشبه ذلک الحمار عدیم المروءة. إرفع قبعتک.
قال الجندی: لا
قالت المرأة: لجوج، مثل ذلک المعتوه.
قال الجندی: لا شأن لی به و لا شأن لک به أیضاً. لقد أتیت لکی أراک فحسب.
قالت المرأة: عدیم الرجولة ذاک، کان قد استخف عقله فأغرم بفتاة قرویة أسوأ منه. الکریه الحقیر.
قال الجندی: لا شأن لی بهذه الأمور.
قالت المرأة: أضاع شبابی ثم أجبرنی على الزواج برجل لدیه طفلان. لا أتذمر، إنه أفضل من أبیک عدیم الکفائة.
قال الجندی: لقد هربت من أجل أن أراک.
قالت المرأة: کانوا قد أغروه بالکلام بانها أفضل منی. بماذا کانت تفضلنی؟ و لم تکن فائقة الجمال أیضاً!
قال الجندی: سیؤذوننی إن عدت.
قالت المرأة: کانت الفتاة قد جیء بها من القریة تواً و کان یقول إنها أفضل منی بکثیر! بماذا؟ لم تکن ذات جمال و لا ثروة، لا شیء، لاشیء.
قال الجندی: سأوبخ بشهر إضافی.
قالت المرأة: الحقیر الأحمق کان یجب أن یفکر بالأمر من قبل. نهضت من على الأرض و أخذت تمشی فی الباحة، قالت: کنت کباقة الورد. کنت فی السابعة عشرة من عمری فقط و هو الحقیر أیضاً لم یکن عمره قد تجاوز العشرین لقد حطم حیاتی.
قال الجندی: و ربما لم أعد أخاف أن أعرّض نفسی لمکروه بالسلاح. فالسلاح فی المعسکر کثیر کبعر الأرام و عندی أنا واحد أیضا.
قالت المرأة: کان أخی قد وضع السلاح على عنقه و اقتاده إلى المخفر. یستحق هذا. فأصر بعدها إن علاقتنا قد انتهت. إلى الجحیم. حیث أبوک الأصلع.
قال الجندی: یجب أن أعود.
إتجه نحو الباب، قالت المرأة من خلفه: إرفع قبعتک للحظة قال الجندی: لا أرید.
قالت المرأة: کأبیک عدیم الأصل عنید و خُرء.
قال الجندی: أنا ذاهب.
إنطلق و کأن المرأة عرفت تواً أنه ذاهب فنادته عاد الجندی و وقف إلى جانب المرأة، حیث إنه شعر بحرارة جسمها تلاقت أیدیهما. رفعت المرأة یدها لترفع القبعة من على رأس الجندی، نأى الجندی برأسه و قال: أنا ذاهب. و انطلق ثانیة و نادته المرأة من جدید. وهنت خطوات الجندی و عاد نحو المرأة. رفع قبعته قلیلاً کی تتمکن المرأة من رؤیة عینیه. انبهرت المرأة و هجمت نحو الجندی قائلة: بالله علیک إرفع قبعتک.
ثم تراجعت شیئاً فشیئاً و أخذت تطیل النظر إلى عینیه. قالت: جل الله الخالق. ذاک العدیم الشرف بعینه.
لم یکن الجندی قد رفع قبعته بالکامل. کانت المرأة قد بدأت بالتوسل إلیه شیئاً فشیئاً. قال الجندی: أبدو قبیحاً جداً.
قالت المرأة: أرجوک، إنک تشبهه تماماً.
أدنى الجندی قبعته على رأسه أکثر و انطلق لیذهب فارتفع صوت المرأة خلفه: هل لا زال أبوک یحتفظ بسنّه الذهب؟
الجندی کان قد اطرق برأسه إلى الأرض و یبتعد عن المکان بسرعة.
سأتکلم عن نفسی أیضًا.
الآن قد نسیت کل شیء. حتى إننی أتذکر اسمی بصعوبة. کأننی دائماً فی المعسکر و قائد الفیلق یأمرنی أن أنتظم فی الوقوف، و المشی و الجلوس. و من أجل إرضاء نفسی أعتمر القبعة حتى عندما یکون الجو حاراً. و أنکّسها حتى الأذنین. أصبحت جندیاً هارباً. أینما تقع عینای على شرطی أتذکرک. لم أعد أهتم برؤیة الجمال لقد بات الشرطی یذکرنی بک. المدینة، هذه الأیام ملیئة بالشرطة کما تعلمین و لا حاجة لی أن أنتظر من سنة إلى سنة کی أرى الجمال و أقف إلى جوارها و أبکی. فعند کل مفترق طرق هناک شرطی، أو شرطیان. بمجرد أن أراهم من بعید حتى أتذکرک و لکن لا أعلم لماذا لا أشعر بالبکاء. لا بد أن وقع لی أمر ما. لقد اشتقت إلى جمالی العزیزة لکننی لا أعلم هل سأبکی عند رؤیتها أم لا!