قاسم المحمودی

الأدب العربی فی الأهواز (حلقة الأولى)

الأدب العربی فی الأهواز (حلقة الأولى)
ترجع نشأة الأدب العربی المعروفة فی منطقة الأهواز إلى عصر الفتح الإسلامی، تزامناً مع الموجة الأولى من الفتح العربی الإسلامی التی طالت معظم الأراضی المجاورة للجزیرة العربیة. و لأن هذه المنطقة منطقة متداخلة فی التاریخ و الجغرافیا و السکان مع جنوب العراق منذ الأزل، کان طبیعیاً جداً أن تتأثر المنطقة بالحضارة العراقیة ومنها الأدب بکافة صنوفه و اتجاهاته و مدارسه.
يکشنبه ۱۹ ارديبهشت ۱۴۰۰ - ۱۱:۴۴
کد خبر :  ۱۳۹۰۸۴

 

 

 

 

 

الأدب العربی فی الأهواز      

بقلم قاسم المحمودی

ترجع نشأة الأدب العربی المعروفة فی منطقة الأهواز إلى عصر الفتح الإسلامی، تزامناً مع الموجة الأولى من الفتح العربی الإسلامی التی طالت معظم الأراضی المجاورة للجزیرة العربیة. و لأن هذه المنطقة منطقة متداخلة فی التاریخ و الجغرافیا و السکان مع جنوب العراق منذ الأزل، کان طبیعیاً جداً أن تتأثر المنطقة بالحضارة العراقیة ومنها الأدب بکافة صنوفه و اتجاهاته و مدارسه. و ثمة عوامل کثیرة و متنوعة أدت إلى تفاعل إیجابی مع اللغة العربیة و إفرازاتها من أدب و شعر و تألیف و تدوین و تصنیف، لتکوّن منطقة الأهواز مدرسة خاصة بها فی النقد و الأدب إبان الإزدهار الذی شهدته الحضارة الإسلامیة فی القرنین الثالث و الرابع الهجریین (التاسع والعاشر المیلادیین) بشکل أخص؛ و لقربها من أحد المراکز الثقافیة الحضاریة الرئیسة و هی البصرة فقد کانت تنحو دائماً منحى هذه المدینة. و من أبرز أوجه تأثرها بالبصرة انتشار الإعتزال کمذهب فکری متحرر بعقلانیته التی تشحذ الهمم و تنمّی ملکات التفکیر؛ فقد کان المذهب المتبع عند غالبیة سکان الإقلیم، و لعل للخلفیة الفلسفیة المتمثلة بمدرسة جندی سابور، دوراً فی نحو المنطقة مثل هذا المنحى، و قد نبغ العدید من أبناء المنطقة الذین کانوا أئمة عصرهم فی الإعتزال، متضلعین فی نفس الوقت بالأدب مثل أبی علی الجبائی (تـ 303هـ/915م) و نجله أبی هاشم (تـ321هـ/930م)، الذین کانا من أعلام عصرهما الأدبیة و بالأخص منهما أبو هاشم الذی یؤکد یاقوت عند التعریف بجُبى فی معجم البلدان أنه "کان کأبیه فی علم الکلام وفضل علیه بعلم الأدب، فإنه کان إماماً فی العربیة". و لا ینبغی أن یفوتنا الکلام عن الخوارج و حرکتهم السیاسیة التی انطلقت فی العصر الراشدی و اتخذت من أرض الإقلیم موطناً أو ملجأ لها. و أظننا فی غنى عن تناول أدب و بلاغة و فصاحة الخوارج الذین کانوا بدواً أو شبه بدو، یحملون إلى جانب سیوفهم وقسیّهم، ألسنة تسیل فصاحة و أدباً ولسناً، و ظلوا طوال الفترة الأولى من اشتباکهم مع السلطة فی العراق، یتخذون من الإقلیم مسرحا لوقائعهم و معارکهم، و ما عسى أن یدور فی هذه المعارک من شعر و أدب وخطب و رجز و ما شاکله، مما یمکن اعتباره النواة الأولى التی تلقفتها هذه الأرض من اللغة العربیة. و شعر الخوارج کثیر، جمع و تُدورس، و یعکس علاوة على ما فیه من قیمة أدبیة، جغرافیا المنطقة و ملامحها الذی أصبح مصدرا خصبا للجغرافیین لتحدید الأعلام و المواقع الواردة فیه. و من نتاج العاملین السابقین و تلاقحهما و تفاعلهما و عوامل و عناصر أخرى، کان أن قدمت المنطقة الشاعر الکبیر الذی أعطى ثورة التجدید التی کان بشار بن برد رائدا فیها، دفعاً جدیداً و أکمل ما بدأه بشار؛ حیث ولد أبو نؤاس و قضى سنینه الأولى فی أحضانها، حتى ارتحلت به أمه کما هو معروف فی سیرته إلى البصرة. و أبو نؤاس غنی عن التعریف، فهو علم من أعلام الشعر العباسی، بل ظاهرة إجتماعیة و حضاریة و ثقافیة فی عصره، ملأت الدنیا صخباً و دویاً بما أحدثته و ابتدعته من أسالیب الحیاة و صرعات الموضة فی المأکل و المشرب و الملبس، إلى جانب نقلته الکبیرة للشعر العربی الذی کساه مسحة حضریة راقیة رقیقة، ابتعدت به عن شظف البادیة و وعورة لغتها و أخلاقها. و من الأهواز أیضاً و بالتحدید من سهل میسان، أو دُسْتمیسان کما کانت تدعى قدیماً (دشت میشان) إلى الغرب منها، التابعی الزاهد و الأب الروحی الأول للتصوف اللاطقوسی فی الإسلام، الحسن البصری (تـ 110هـ/729م) الذی ملأ الدنیا ببلاغته و سیرته و زهده، کما یروی ابن خلکان فی ترجمته؛ أما الصفدی فیقول فی ترجمة الحسن بالوافی: "و کان رأساً فی العلم و الحدیث، إماماً مجتهداً کثیر الاطلاع، رأساً فی القرءان وتفسیره، رأساً فی الوعظ و التذکیر، رأساً فی الفصاحة و البلاغة". کما یقول الجاحظ فی البیان عن بلاغة الحسن: "أما الخطب فإنا لا نعرف أحداً یتقدم الحسن البصری فیها"؛ وقد خلّف لنا هذا الرجل الکثیر من الکلم والمقطعات ذات القیمة الأدبیة العالیة فی شتى ما یعرض له من شؤون هذه الدنیا، و الزاخرة بالحکمة و النکتة و الأدب الرفیع، و المتناثرة فی کتب الأدب و السیر؛ و قد تکون رغم ضآلتها ذات أثر بالغ فی تنمیة النثر و الخطابة والنهوض بهما، حیث تخرّج من تحت عباءة البصری جم غفیر من أئمة الأدب و اللَسن الذین کانوا مضرب المثل، أمثال واصل بن عطاء و عمرو بن عبید و سواهما من أئمة الإعتزال. و من مواطنی الحسن و أبناء بلده، سهل بن هارون الکاتب المیسانی الشهیر، الذی کان کاتباً بحجم العلاّمة العلم الجاحظ و الذی یصفه الجاحظ نفسه فی البیان بأنه"من الخطباء الشعراء الذین قد جمعوا الشعر و الخطب، و الرسائل الطوال و القصار، و الکتب الکبار المخلّدة، و السیرَ الحسان المدونة، و الأخبار المولَّدة"؛ کما کان ممن تولى بیت الحکمة للمأمون، و لکن لیس باستطاعتنا الحکم على آثار سهل وقیمتها إلا عبر ما حمل إلینا من أوصاف فی بطون الکتب القدیمة، إذ لم یبقَ إلا النزر القلیل من بعض رسائله رغم کثرتها. و الإشادة التی تسجل بحقه تعکس ما سبق و قلناه عن جلالة قدره وجودة قلمه و سموکتابته. و ثمة صفحة من صفحات تاریخ هذه المنطقة قد تم إغفالها إن سهواً أو عمداً؛ و هی تلک الحملة المبارکة التی کانت بمثابة الوقود فی محرک الحضارة العباسیة، و أعنی بها حملة التعریب و الترجمة. فکل أمة ترید أن تنهض علیها أن تترجم، و کل أمة نهضت ترجمت و نهضتْ بنفسها عبر الترجمة، و الأمة العربیة لم تکُ بدعا و لا استثناء من ذلک. و ما أرید الوصول إلیه من هذا هو أن هذه الحملة النهضویة العظیمة شارک فیها أبناء هذه البلاد أیضاً، إن لم نقل أنهم کانوا روادها و قادتها. وعلینا لفهم جذور القصة أن نعود إلى القرن الخامس المیلادی عندما یعتلی الإمبراطور الرومانی یوستینانوس (527ـ565م) العرش، و هو إمبراطور رغم منجزاته الحضاریة لم یتسع أفقه ـ وعلى العکس من باقی آثاره ـ للفلسفة الإغریقیة أو على الأقل ما تبقى منها فی بلاده؛ حیث ضیق علیها ما وسعه التضییق، و بالغ فی ذلک حتى ارتأى حملة الفلسفة و الفکر المتحرر أن لابد مما لیس منه بد، ألا و هو الهجرة. وحانت التفاتة من الملک الساسانی أنوشروان لیحتضن هذه الکوکبة من العلماء التی تحاول أن تجد ملجأ لها یؤیها ویجمع من شتاتها. رحب أنوشروان بهؤلاء و أسکنهم فی الأهواز، حیث أسس لهم ما یمکن اعتباره معهداً أو جامعة، أو أکادیمیة، أو سمه ما شئت، لیبذروا علمهم فیه، حسبما تروی لنا ذلک دائرة المعارف الإسلامیة. و لما کان الأب یوّرث ابنه و الإبن یرث أباه، فی توارثیة عائلیة لازلنا نشهدها حتى الیوم فی العدید من مدن المنطقة، تلاقف هؤلاء جذوة العلم کابراً عن کابر، لیوروا بها جذوة الحضارة العربیة الإسلامیة. و برز من هؤلاء ثلة من الرجال استطاعوا تعریب أمهات کتب الیونان و الأمم الأخرى المحتویة مختلف العلوم. و ما جبرائیل بن بختیشوع المتضلع بصنع الأدویة و العقاقیر، و ابنه بختیشوع المشهور بالطبیب (تـ 266هـ/879م) و کلاهما من الأطباء الذین عربوا للمنصور و المأمون العدید من کتب الطب و العلوم المرتبطة به، و کذا جبریل بن عبدالله بن بختیشوع أحد أبناء الأسرة المذکورة و الذی عالج عضدالدولة، حیث وقع الإختیار علیه باعتباره أشهر أطباء عصره، و جورجیس بن جبریل الطبیب السریانی رئیس جندی سابور الذی خدم المنصور، و عبیدالله بن جبریل بن بختیشوع، و یوحنّا بن ماسویه صاحب الوصایا الطبیة المأثورة و المتناثرة فی الکتب القدیمة، و علی بن سهل بن ربّن الدورقی المعروف بالطبری لأن أسرته ولیتْ أعمالاً فی طبرستان فی شمال إیران، صاحب المؤلفات العدیدة و أستاذ الطبیب و الکیمیائی الشهیر أبی بکر الرازی مؤلف "الحاوی"، و آخرون سواهم کثر، إلا أشهرَ ما أثمرته مدرسة جندی سابور الأهوازیة. و مما یجدر التذکیر به أن الطبیب لم یکن مجرد طبیب حینئذ، بل عادة ما تترافق مهنة الطب مع لقب "الحکیم" المقصود به الفیلسوف، و الفلسفة تقود بدورها إلى معرفة العلوم التجریبیة و الطبیعیة الأخرى، مما یعنی أن حاملها جامع لکل ذلک متضلع فیه، و ما یعنینا من کل هذا، هو هذا الدور المحوری الذی لعبه هؤلاء فی الجَسر بین الحضارات السابقة و اللاحقة عبر الترجمة و نقل مجمل تراث تلک الحضارات إلى الحضارة العربیة الإسلامیة. و لا یخفى على أحد الزخم التطویری الهائل الذی تخلفه الترجمة فی أیة لغة، حیث تفتح لها آفاقا لا توصف سعةً و رحابة. وتستمر حلقة الإبداع بعد هذه الخطوة الجبارة و التی تمت على ید أبناء هذه البلاد طوال العصور اللاحقة، مواکبة رکب الحضارة أولاً بأول، لم تتخلف عنه ولم تتوانَ.

و عندما نقلب کتب الأدب و التراجم یواجهنا العدید من الأسماء المنسوبة إلى الأهواز، و أصحابها ینتمون إلى شتى صنوف العلم، من دینیة کالفقه و الحدیث والقراءات الذین لمع من بینهم مثلاً، الحافظ العلاّمة الجوالیقی، عبْدان بن أحمد الأهوازی المتوفى سنة 306 أو 307هـ/919م. بعسکر مکرم کما یقول ابن خلکان، صاحب التصانیف الکثیرة فی شتى علوم الدین، وصولاً إلى الإعتزال کتیار فکری، إلى الطب و ما یترافق معه من علوم، وانتهاء بالعلوم الإنسانیة الأخرى، و منها ما نحن بصدده بشکل خاص، و هو الأدب ما بین منظوم ومنثور. و تقدمتْ أکثر الأسماء شهرة فی الشعر؛ ومنهم فی هذه الحقبة من حرکة الإبداع فی المنطقة نواجه، محمد بن عبدالله بن شعیب المخزومی بالولاء، والمعروف بالأخیطل الأهوازی الموصوف بأنه ظریفٌ ملیح الشعر، ولعل لقبه یشی بمذهبه الشعری. وقد یکون بالإمکان الحکم على شعره من خلال القطع المتناثرة من شعره، والتی رواها له کل من السریّ الرفاء والنویری والمرزبانی والصفدی وابن المعتز وهو عنده مشهور بـ"برقوقا"، وآخرون، وکلها فی اللهو والوصف والخمر والغزل، وهی فی أوزان خفیفة مما یعنی أن الأخیطل کان شاعراً ییمم شطر المواضیع التی تعبر عن الحیاة وملاذها ومتعها، ویضیف الصفدی ـ ناقلاً عن المرزبانی ـ أنه کان یسلک مسلک أبی تمام. والأخیطل هذا من شعراء القرن الثالث الذین قدموا بغداد فی أوائل المئة المذکورة ومدحوا أمیرها ابن طاهر؛ ویضیف ابن المعتز فی ترجمته أنه من "المحسنین المجیدین" ناقلاً عنه أنه قال:" أنشدت یوماً أبا تمام شیئاً من شعری فقال لی: اذهب إذا شئت فلیس للناس بعدی غیرک". ومن شعراء الأهواز أیضاً، محمد بن عبدالعزیز السوسی الذی یقول عنه الثعالبی فی یتیمته:" أحد شیاطین الإنس، یقول قصیدة تربی على أربعمائة بیت فی وصف حاله وتنقله فی الأدیان والمذاهب والصناعات..."؛ أما الصفدی فیضیف موضحاً عن سیرته وحیاته:" کان ظریفاً ماجناً؛ ذکر أنه ورث مالاً جزیلاً من أبیه فأنفقه فی اللهو واللعب والعشرة وافتقر، وله القصیدة السائرة التی أولها:

الحمـد لله لیس لی بخت         ولا ثیـاب یضمها تخت

کان فی الموصل سنة ثلاث وخمسین [وثلاثمئة] وبعدها موجوداً وهو حی یرزق..." والقصیدة التی یتکلمان عنها لم یتبقَ منها سوى زهاء السبعة عشر بیتا نقلها الثعالبی فی یتیمته، وهی بحق ملحمة البؤساء المسحوقین الذین تحول السوسی إلى عضو فی نقابتهم بین عشیة وضحاها. ولا تکاد تترک موقفاً من مواقف البؤس إلا وتقف عنده لتصف فیه ضروب التقلب فی ضنک العیش الذی کان تعانی منه الناس فی تلک الفترة. وفی القصیدة نبرة ساخرة عابثة بهذا الشقاء المخیم على حیاة هؤلاء الذین تقلبت بهم صروف الدنیا فی طرفة عین. ولا یبدو أن شهرة السوسی وموهبته کانتا کفیلتین بتوفیر حیاة کریمة تسد له رمقه وتوفر له قوت یومه. فکأنه استکبر إذلال نفسه عبر السؤال المباشر فابتکر أسلوباً للشکوى من شقائه وإیصال رسالته ومسألته فی واقع الأمر إلى المعنیین. ولعل هذا هو السبب فی وصفه بالظرف حیناً والمجون حیناً آخر، فکأنه اجترح هذه السخریة سلاحاً مشهراً فی وجه البؤس الذی فرض علیه شد الرحال وانتجاع غیوث الشام، حیث الحمدانیون فی حلب. والنتف الیسیرة من قصیدته تکاد تشابه إلى حد بعید قصیدة أبی دلف الخزرجی الذی یتناول الشقاء من جانب ثانٍ فی قصیدته الساسانیة المشهورة، إذ تغلب نبرة الفخر على قصیدة الخزرجی؛ فهو ملک حاز مملکة الأرض وله الجیوش الجرارة، وهو الضارب الجزیة على الناس فی أصقاع المعمورة و...؛ ولسنا بصدد الموازنة بین هاتین القصیدتین لکن الشیء بالشیء یذکر. کما خلف لنا السوسی الذی کان یتشیع أیضاً، بعض المراثی فی أئمة الشیعة روى أطرافاً منها الخوارزمی فی کتابه "مقتل الحسین" ولیست بذات قیمة أدبیة عالیة. وأیضاً من شعراء المنطقة ممن أتى الثعالبی على ذکرهم فی یتیمته، ابن خلاّد القاضی وهو أکثر من روى له من الشعر، وابن أبی سهل الأرّجانی وسواهما. وکذلک من الأسماء التی تتردد فی عالم الشعر أبو الرجاء أو أبو المرجّی ـ وربما المرجّى لا أدری ـ الشطرنجی العروضی الضریر الأهوازی، مادح الوزیر الصاحب بن عباد حین قدومه الأهواز، وأبو عمرو أحمد بن عمرو الأشتر القیسی الأهوازی، عاصر ثورة الزنج وأسر فیها، کما مدح الوزیر الفتح بن خاقان حسبما ینص الوافی، و زُمرة الأهوازی الذی یأتی على ذکره الجاحظ فی کتابیه البیان والحیوان، وکذا الحجاج الأهوازی الذی یروی له الراغب الأصفهانی فی محاضراته بیتین طریفین هما:

تعس الزمان لقد أتى بعُجاب     ومحا رسوم الظرف والإعجاب

وأتى بکتاب لو انبسطت یدی   فیـهم رددتهـم إلى الکتّـاب

ومثله أبوالحسن الأهوازی القائل فیما یرویه عبدالرحیم العباسی فی معاهده:

قلتُ لمن لام لا تلـمنی   کل امرئ عـالم بشانه

لا ذنب فیما فعلت  إنی    رقصت للقرد فی زمانه

من کرم النفس أن تراها    تحتمل الذل فی أوانـه

وهی من طریف التخریج للمواقف المحرجة التی یقع فیها المرء؛ ومحمد بن الدورقی الشاعر (القرن الثالث الهجری)، ذکره ابن المعتز فی الطبقات والمرزبانی فی المعجم، وأحمد بن محمد الدورقی، ولا أدری إذا ما کان یمت إلى سابقه بصلة قرابة؛ یصفه الصفدی بشاعر العسکر ویورد أبیاتاً له، وهو من المئة الثالثة أیضاً. ولهؤلاء جمیعاً حفظت کتب الأدب والتراجم بضع نتف من الشعر وأطرافاً من أخبارهم متناثرة هنا وهناک. لکن أشهر الأسماء اللامعة هو العلامة ابن السکیت الدورقی (تـ 244هـ/858م) صاحب المؤلفات العدیدة والمفیدة، والذی لمع نجمه فی الردح الأول من الدولة العباسیة، إذ عهد إلیه الخلیفة المتوکل بتربیة وتنشئة أنجاله. ومعروف أن الخلفاء کانوا یحرصون على أن یحظى أبناؤهم بأحسن تعلیم. واختیار المتوکل له دلیل على تضلع ابن السکیت وتمکنه فی علوم العربیة التی یحرص المتعلمون والمعلمون على اتقانها والتفنن فیها.کما علینا أن نأخذ بعین الاعتبار أن الاختیار وقع علیه دون سواه، وبغداد وسائر البلاد المجاورة لها تزخر بجهابذة العلماء الذین تشد إلیهم الرحال للإمتیاح من علمهم. ونظیره فی الأدب أبو أحمد العسکری (تـ 382هـ/992م) أحد أعلام الأدب والنقد فی عصره، وهو من تلامذة العلامة ابن درید (تـ 321هـ/933م)، ومثله ابن أخته أبو هلال العسکری (تـ بعد 395هـ/1005م) الذی کان شبیه خاله فی العلم والأدب إلى جانب تتلمذه علیه، وثالث العسکریین الثلاثة أبو الطیب عبدالواحد بن علی اللغوی المتوفى عام 351هـ/962م. فی حلب، وهؤلاء الثلاثة من أشهر أبناء البلاد من مدینة عسکر مُکرم (بندر قیر)، ومن أرباب التصنیف والتألیف. وأیضاً أبو أسعد أحمد بن عیسى الأهوازی من جندی سابور ذکره الصفدی، ومثله ابن کبیر أحمد بن محمد بن الفضل الأهوازی، نقل الصفدی فی ترجمته عن ابن الندیم قوله أن له کتاب "مناقب الکتّاب"، مضیفاً أنه صاحب بلاغة؛ والوزیر أحمد بن محمد العباسی الحویزی ونجله الحسن المعروف بابن الحویزی (تـ 573هـ/1177م)، وکلاهما من الأدباء العلماء؛ والإبن عالم بالقراءات والموسیقى کذلک، ذکرهما الصفدی فی الوافی مورداً لهما أشعاراً عن الخریدة. ومن الحویزة أیضاً عمر بن أحمد بن علی، أبو المفاخر الأنصاری، قاضی الحویزة (القرن الـ 6/12)؛ "کان باقعة زمانه وفرید عصره، ویغلب علیه الهجو والخلاعة والمجون؛" على حد تعبیر الصلاح الصفدی فی الوافی، قدم بغداد ومدح الوزیر الزینبی. وکذلک أبو الحسن علی بن محمد الأهوازی النحوی الأدیب صاحب "علل العروض"، ذکره یاقوت وأثنى علیه، وعلی بن عبد الرحمن الخزاز السوسی المشهور بأبی العلاء اللغوی من السوس (شوش)، قال عنه یاقوت فی معجمه:"من أهل الأدب واللغة ولا أعلم من حاله غیر هذا."، وآخرون لم یتبقَ من أشعارهم وآثارهم إلا القلیل، هذا إن تبقى منها شیء أصلاً. وفی الحقیقة إن حرفة الأدب کانت تدرک کل من تصبح له ید فی العلم یومها؛ فالطبیب وهو طبیب یکتب النص الأدبی ویقرض الشعر، مثلما فعل الحکیم أبو القاسم هبة الله بن الحسین الأهوازی الطبیب (تـ نیف 550هـ /1155م)؛ ترجم له العماد فی خریدته وذکر قطعاً من شعره. وکذا القضاة وقد تقدمتُ فی الکلام عن الجبائیین وغیرهما وعن أدبهم وتضلعهم فیه، ومثلهم القاضی أبو الحسن أحمد بن الحسن الأربقی الذی یکتب یاقوت فی "معجم البلدان" عن موقف لا یخلو من طرافة وقع للأربقی:"قرأت فی کتاب المفاوضة لأبی الحسن محمد بن علی بن نصر الکاتب: حدثنی القاضی أبو الحسن أحمد بن الحسن الأربقی بأرْبـقَ، وکان رجلاً فاضلاً، قاضی البلد وخطیبه وإمامه فی شهر رمضان، ومن الفضل على منزلة؛ قال: تقلد بلدنا بعض العجم الجُفاة، والتَفَّ به جماعة ممن حسدنی وکره تقدمی، فصرفنی عن القضاء، ورام صرفی عن الخطابة والإمامة، فثار الناس، ولم یساعده المسلمون؛ فکتبت إلیه بهذه الأَبیات:

قـل للـذین تألبـوا وتحزّبـوا     قد طِبْتُ نَفساً عن ولایة أربـقِ

هَبْنی صُدِدْتُ عن القضـاء تَعَدِّیاً    أأصَـدُّ عن حِذْقی به وتَحَقُّـقی

وعن الفصاحة والنـزاهة والنُّهَى     خُلْقاً خُصِصْتُ به، وفَضْل المنطق"

وکذلک ناصح الدین أحمد بن محمد أبو بکر الأنصاری الأرّجانی (تـ 544 هـ/1149م) قاضی تستر وصاحب "الشعر الرائق، وشعره فی نهایة الحسن" على حد قول ابن خلکان؛ وله دیوان مطبوع فی أکثر من ثلاثة عشر ألف بیت، استخرج من خریدة العماد الأصبهانی ویتیمة الثعالبی ووفیات ابن خلکان وسواها. وقد أخذ شعره ومعانیه حیزاً کبیراً فی عصره وبعد عصره أیضاً. نقل فیه العباسی فی "معاهد التنصیص" عبارات الصفدی أنه:"أحد أفاضل الزمان، کامل الأوصاف، لطیف العبارة، غواص على المعانی، إذا ظفر بالمعنى لا یدع فیه لمن بعده فضلاً، قال أبو القاسم هبة الله بن الفضل الشاعر: کان الغَـزِّی [صاحب] معنًى لا لفظ، وکان الأبیوردیّ صاحب لفظ لا معنى، وکان القاضی أبو بکر صاحب لفظ ومعنى ..." والأرّجانی هو القائل فی نفسه وشعره:

أنا أفْقَـهُ الشعراءِ غیرَ مُـدافع     فی العَصر لا بل أشعرُ الفقهاءِ

شعـر إذا ما قلتُ دوّنـه الورى     بالطبـع لا بتکلف الإلقاءِ

کالصوت فی قلل الجبال إذا علا    للسمع هاج تجاوُبَ الأصداءِ"

وفی الحقیقة إن الفصل بین من یتعاطى قرض الشعر وله اختصاص آخر، إنْ فی الکتابة والأدب أو فی أی فن وصنف من صنوف العلم أمر صعب، بل مستحیل استحالة تامة، وما تقدم من أخبار وأحوال من ذکرتُ، شاهد على ذلک؛ وبما أننی لست هنا بصدد حصر کل من قرضوا الشعر إذ لا أعتقد أن ذلک ممکناً، إنما هو عرض لأمثلة توضح الصورة عن أوضاع البلاد الثقافیة والأدبیة، أظن أن علی الإکتفاء بما أوردته؛ ولا شک أن من ضاعت حتى مجرد أسمائهم فضلا عن أشعارهم، أکثر مما وصلنا.

هذا عن الشعر وأبرز من عالج قوله، أما عن الکتابة والنثر فهو لا یکاد یستحصل من کتب الأدب والتاریخ والسیرة. ولا أعرف نصا أبقته صروف الدهر مما سطره کتاب أهوازیون؛ وقد تقدم القول فی سهل بن هاورن الکاتب المیسانی والحسن البصری، لکن ما خلفه هذان وأقرانهما یوشک أن یکون منعدما أو فی حکم المنعدم. ولا یمکن أن یساور أحداً الشک حول عدم وجود کتّاب أدب أو أدباء کتّاب من هذه البلاد، کیف وقد أتى القاضی التنوخی ـ مثلاً ـ فی نشوار المحاضرة على ذکر أکثر من ثلاثة أسماء تحمل صفة "کاتب"، مثل عبدالله بن محمد بن مهرویه بن أبی علاّن الأهوازی الکاتب وهو من أقرباء التنوخی کما یصرح هو بذلک، وأحمد بن محمد بن الحسین الکاتب الأهوازی صاحب المناصب الرفیعة فی العهد البویهی فی الأهواز، والکاتب المعروف بابن المهندس، محمد بن محمد بن عثمان الأهوازی، والذین یکثر التنوخی النقل عنهم فی کتابه السالف ذکره. ویبدو أن هؤلاء الثلاثة کانوا کتابا دیوانیین؛ والکتاب الدیوانیون أو الرسمیون لابد وأن یکونوا متمرسین فی الکتابة العربیة، متمکنین من ضروب التعبیر والإنشاء، ممن ألقت إلیهم اللغة أزمتها وأسلست لهم قیادها. وکذا سعید بن إبراهیم أبوالحسن النصرانی التستری کاتب آل الفرات الوزراء وصنیعتهم، وهو صاحب تصانیف ومؤلفات فی الأدب والنحو؛ کما أن له شعراً أورده الصفدی فی الوافی والعباسی فی المعاهد؛ ویضیف الصفدی أنه "کان یلزم السجع فی کلامه". ثم إن الحاجة أمّ الإختراع کما یقال، ولما کان الأهوازیون یعیشون حضارة مزدهرة فیها الکثیر من التعقیدات، شأنهم شأن غیرهم من أبناء الحضارة العربیة الإسلامیة، فلا شک أن الحاجة إلى التعبیر ستکون ملحة، بل ملحة جدا، وهذا یقودنا إلى الإختراع والإجتراح وهو هنا الکتابة، وأکید أن هذا ما تم فعلاً. فإذن الکتابة کانت موجودة وبوفرة لا تدع مجالا للشک، لکنها لم تصلنا لظروف عرضت وعاقت ذلک؛ ولانعدام التفاصیل لا یمکننا تسجیل ملاحظات تفصیلیة عن ذلک کله، لا فی قلیل أو کثیر. ومسألة لا یجب أن یفوتنی ذکرها وهی أنها لما کان إقلیم الأهواز قریباً من بغداد مجاوراً لها، متداخلاً فیها، ولما کان أرباب العلم والثقافة ومن هو فی حکمهم، راغبین فی نیل الشهرة أو التقدم المهنی کما یقال فی عصرنا، فطبیعی أن ییمموا شطر بغداد طلباً وطمعاً فی کل ذلک؛ وإذا کان هذا إثراء لواقع بغداد، فقد کان خسارة لا تعوض لأبناء المنطقة؛ حیث أن بغداد تعودت أن تختطف بتألقها المبدعین الأهوازیین وهو ما یدعى الآن "هجرة الأدمغة". وهذا واقع ذلک العصر حیث نجد أن معظم أبناء البلاد المبدعین قد شدوا الرحال إلى مدینة السلام مجربین حظوظهم فیها، ومثل هذا الوضع منطبق على سائر البلدان العربیة والمسلمة أیضا.

هذا فی الحقبة الأولى من الحضارة العربیة الإسلامیة أما عن الحقبة التی تلت سقوط بغداد، ولتقدیم المزید من التفصیل عن النثر، خاصة فی العصور المتأخرة، سوف أترک الحدیث للأستاذ عبدالرحمن اللامی صاحب "الأدب العربی فی الأحواز من القرن 11 وحتى منصف القرن 14هـ"، حیث یبدو لی أن ما توصل إلیه السید اللامی حول النثر خیر ما یمکن التوصل إلیه، لا لسبب إلا لأنه کان یمتلک المصادر الکافیة بین مخطوط ومطبوع، والتی لا تتوفر لی، کما أنی سأعوّل على ما کتبه فی تناولی النثر على أیة حال، لذلک أفضّل أن ألخص ما أورده بإیجاز شدید. وما سیأتی سیثبت مرة أخرى أن الغلبة الأدبیة فی أدب الأهوازیین دائما کانت للشعر على النثر، لا فرق بین العصور المتقدمة أو المتأخرة فی ذلک، حیث إن بعض الذین سیأتی ذکرهم هم أشهر بالشعر منهم بالنثر. یعمد اللامی فی الفصل الذی خصصه للنثر، إلى تلخیص أسالیب الکتابة فی الإقلیم إلى ثلاثة مدارس رئیسیة سأختصرها فیما یلی، أولاها المدرسة السهلة الواضحة على حد تعبیره، التی تعنى باللفظ والمعنى معاً، والثانیة تعنى بالمحسنات البدیعیة والسجع، والثالثة تعنى بالتعقید والإغراب ویضیف عن کل ذلک بوصف عام:"تتسم کتاباتهم بالموضوعیة والواقعیة؛ فتناولوا أموراً تخص مجتمعهم وأحداثا تجری من حولهم..." ثم یجمل أبرز المواضیع التی تناولتها هذه الکتابات: أولا، تصویر الحوادث والوقائع، سائقاً نموذجاً لابن رحمة الحویزی یصف فیه معرکة؛ ونموذجاً آخر هی مقامة لابن علوان الکعبی یصف فیها معرکة الأتراک مع الدیریین فی البصرة وتغلب علیها أسالیب المقامات المعروفة، حیث الزخرفة اللفظیة والإغراب والإطناب، والتهویل والتقلیل وما إلى ذلک؛ ثانیا، الرسائل السیاسیة والمکاتبات التی تدور بین حکام المنطقة وزعمائها وهی هی، شکلا ومضمونا، ثالثا ما أطلق علیه الرسائل الوصفیة "وهی من الأغراض النثریة التی أبدعوا فیها لما جبلوا علیه من أخیلة متدفقة وذوق سلیم وفکر ثاقب، فوصوفوا مشاهد الطبیعة وتناقضات الحیاة المادیة والمعنویة"، سائقا رسالة للأدیب نور الدین الجزائری فی صفة السیف سماها "الرسالة السیفیة"، وهی تنتمی إلى المدرسة التنمیقیة التحبیریة التی تغرق فی جمالیة اللفظ، وتقع الرسالة فی نحو من صفحتین ولا بأس بها. رابعا السیرة الذاتیة، ضارباً الفصل الملحق بکتاب "الأنوار النعمانیة" لنعمة الله الجزائری والذی خص به نفسه، مثلاً لهذا الضرب من الکتابة المرسلة، الخالیة من التصنیع والتنمیق. ویستمر اللامی فی جرد وسرد الأغراض النثریة لیبلغ بها ثمانیة، منها المواعظ والقصص والمناظرات والأخوانیات وأخیراً الإجازات العلمیة. ومما یلفت الإنتباه أن معظم النماذج التی ساقها لهذه الأغراض ترجع إلى القرن الثامن عشر وبشکل خاص ترجع إلى الجزائریین، وهم متأخرون زمنیاً (من أحیاء القرنین الـ18و19) کما أنهم عرفوا بالکتابة أکثر مما عرفوا بقرض الشعر. وکلها تقتفی أثر القدماء لا جدید فیها أو تجدید، بل هی استمراریة للعصور السابقة، مبنى وفحوى؛ لیخلُص بعد ذلک إلى أبرز الناثرین وهم عنده، نعمة الله الجزائری (1050_1112هـ /1640ـ1700م)، وابن علوان الکعبی القبانی (1053ـ1130هـ /1643ـ1718م)، وأیضا الحکیم محمد مؤمن الجزائری (1074ـ1130هـ /1663ـ1717م)، وکذلک نور الدین الجزائری (1088ـ1158هـ /1677ـ1748م).

وینشطر تاریخ الحرکة الأدبیة فی الأهواز شطرین شأنه شأن الحضارة العربیة الإسلامیة ککل؛ فالشطر الأول هو ما قبل سقوط بغداد على ید التتر، والشطر الثانی ما بعد ذلک. ولکل من أدب الحقبتین نکهته وخصائصه وأسالیبه المعروفة ولسنا بصددها. ثم تدور عجلة الزمان لتستقر على عهد جدید، یفصل بین القرون الأولى وبین هذه القرون المتأخرة ثلاثةُ إلى أربعة قرون. ففی القرن التاسع الهجری/ الخامس عشر المیلادی یبزغ فجر جدید فی المنطقة وتصبح أرض الإقلیم هی الوجهة والمقصد للأدباء الذین ما انفکوا یتوافدون إلى عاصمتها الحویزة. وهذا العصر المشعشعی بدأ فعلیا منذ الربع الثانی من القرن السادس عشر أی عندما نعمت الإمارة المشعشعیة فی الحویزة بشیء من الإستقرار بعد ما خاضت الکثیر من مرارات الإضطراب والتذبذب، لتوفر بیئة فیها الکثیر من متطلبات الإبداع، وفعلا کان الأمر کذلک. ولأترک الکلام هنا للأستاذ البحاثة هادی بالیل الذی کرّس جلّ سنواته فی تتبع تاریخ المنطقة وتراثها الأدبی والعلمی، وذلک فی مقال له عن الحویزة عاصمة المشعشعیین بعنوان "الأدب الشیعی فی الحویزة والدورق" والذی نشر فی مجلة الموسم حیث یقول:"ولما ظهر السادة الموالی فی الحویزة، وأسسوا إمارتهم المشعشعیة فی المنطقة فی منتصف القرن التاسع الهجری، اتخذوا الحویزة عاصمة لهم واعتنوا بنشر مذهب أهل البیت علیهم السلام، فهوت نحوهم أفئدة علماء الشیعة وأدبائهم، فقصدوا الحویزة من أقصى البلاد، ویمموها من کل فج ووهاد، فحظوا بترحیب حکام المشعشعیین وإجلالهم، وأغدقوا علیهم بالعطاء والصلات، فتجمع أهل العلم والفضل فیها، وبنیت المدارس، وبرز الأساتذة والمدرسون، وقصدها طلاب العلم من جمیع أطراف المنطقة. ومن أبرز تلک المدارس، مدرسة آل أبی جامع العاملی، التی أسست فی العقود الأولى للقرن الحادی عشر، وتخرج منها جماعة من رجال العلم والأدب فی المنطقة. ونتیجة لحضور العلماء وسکناهم فی الحویزة فقد ألفت فیها الکتب والأسفار ونقلت إلیها مخطوطات قیمة من شتى أنحاء المعمورة، واستنسخت فیها نسخ جلیلة ونادرة، وتأسست فیها مکتبات عامرة تضم کتبا فی أنواع العلوم المتداولة آنذاک. ومن أهم تلک المکتبات، مکتبة أمراء الحویزة، التی لا تزال بعض مخطوطاتها موجودة إلى زماننا هذا فی المکتبات العالمیة وفی إیران والعراق. وکان علماء هذه المنطقة یمتازون بصبغتهم الأدبیة على سواهم بالإضافة إلى تخصصهم فی سائر الفنون العلمیة،..." وحقا کان الوضع کما وصف، حیث یذکر السید بالیل المذکور أنه ترجم لـ111 علما من أعلام الحویزة فی کتابه المخطوط، "الیاقوت الأزرق فی أعلام الحویزة والدورق"؛ لعل أبرزهم الشاعر الکبیر السید شهاب الدین بن معتوق (تـ 1087هـ/1676م)، والشیخ عبد علی بن رحمة (تـ 1075هـ/1665م) صاحب المصنفات المتنوعة، ووالی الحویزة السید علی بن خلف (تـ 1088هـ/1677م)، الذی حاول فی أشعاره بث الروح فی جسد الشعر العربی عبر معارضة أشهر القصائد العربیة، ناهیک عن الذاتیة الکبیرة التی تحلى بها شعره. هذا حال الحویزة أما مدینة الدورق فقد کانت صنو الحویزة أدباً وعلماً، إذ ألقى عصا الترحال فیها جملة من العلماء المهاجرین من الشام على إثر الصدام الصفوی ـ العثمانی فی تلک الحقبة، أو من منطقة البحرین والأحساء فی شرق الجزیرة العربیة حیث متـوا للمشعشعیین بأکثر من صلة، للعروبة والجوار والطائفة الواحدة التی ینتمون إلیها، ولقوا منهم کل ترحاب وتشجیع، لا سیما أیام والی الدورق الأدیب السید عبدالمطلب بن حیدر ـ جد ولاة الحویزة ـ الذی کان عالماً فاضلاً، وکذا نجله السید خلف والد السید علی الحویزی الوالی الأدیب والشاعر المشهور، وعداد هؤلاء فی العلماء، إذ لهم تآلیفهم وکتبهم التی بقی البعض منها لحسن الحظ. وفی الحقیقة فإن کتب المتأخرین من أصحاب تراجم العلماء وکتاب سیرهم من مثل أعیان الشیعة وأمل الآمل وروضات الجنات وریاض العلماء وأخرى غیرها کثیرة، طافحة بتراجم علماء وشعراء وأدباء من أبناء الإقلیم. وللحویزة بصمة لابد لمن یتناول تاریخها من التعریج علیها ولو بإلمـام، ألا وهی قضیة "البند" التی شغلت حیزا کبیرا من الدراسات الحدیثة، لاسیما تلک التی تتناول الشعر الحر ونشأته؛ حیث عد البند نموذجاً رائداً للشعر العربی الحر، وذلک قبل الإحتکاک العربی ـ الغربی فی القرنین الماضیین، وبالتالی یکون الشعر الحر شعراً عربیاً أصیلاً نابعاً من خصائص اللغة العربیة وعروضها وموسیقیتها، غیرَ دخیل کما یُتصور عبر الآداب الغربیة. وأقدم نماذج مأثورة من البنود هی تلک البنود الخمسة التی فی دیوان الشاعر شهاب الدین بن معتوق والتی ساقها لمدح والی الحویزة السید برکة بن منصور. کما أن أنضج نماذج البند هی بنود الأدیب السید علی بن بالیل الدورقی (تـ حدود 1102هـ/1690م) وهی لیست فقط الأنضج معنى ومبنى، بل هی الأکثر عددا کذلک، حیث تبلغ زهاء الـ 150 بندا، وموضوعها کما یقول ابن بالیل نفسه:" هذه نبذة بنود قد بندتها علی بحر الرمل، وعدتها 153 بندا غزلا أو مدحا، وقد وضعت کل بند منها علی أربعین کلمة، اسما کانت أو فعلا أو حرفا؛ مشیرا فی کل منها إلی مسألة علمیة أو صناعة بدیعیة وإلی کل من الأمرین معا علی المعیة." ومما ینبغی لی ذکره حول هذه البنود وعددها، أنها تذکرنی بمزامیر داود فی العهد العتیق فی تشابههما بالعدد، ولعل ابن بالیل أشار إلیها فعلاً عن وعی وقصد، أو أنه أراد مضاهاتها إن لم نقل التفوق علیها عبر إضافة ثلاثة بنود أی بفارق ثلاثة بنود على المزامیر. والبند لمن لا یعرفه "حلقة بین الشعر والنثر"؛ یتحرر فیه کل من الشعر والأخیلة من عمودیة القصیدة وما تفرضه هذه العمودیة من قیود، لکنه یحافظ على الإیقاع والموسیقى. وللشاعر أن یحدد موضوعه کما یشاء لا یحده أو یصده عن ذلک شیء؛ أما عن نشأته فقد قالوا أنها کانت فی حلقات الذکر الصوفی والإنشاد الدینی، وقیل غیر ذلک. والبنود التی بین أیدینا أکثرها، بل کلها أهوازیّ أو عراقیّ أو بحرانیّ، تجمع هؤلاء جمیعاً جامعة العروبة والجوار والطائفة الواحدة، ومن نظم  على البند من غیر أبناء هذه الأقطار الثلاثة من أمثال العشّاری ـ وهو شاعر سوری الأصل ـ فإنه تعرف علیه فی العراق حیث کان یقیم ویدرس. ومما لابد من تأکیده هو استحالة نسبة نشوء البند إلى غیر منطقة الأهواز حیث فیها ولد، وعلى أرضها دبّ ودرج، وعلى أیدی أبنائها بلغ عنفوانه وذروته؛ ومن نظم علیه من غیر أبنائها فهو آخذ منهم، لائذ بهم، نسیمه یرکد عند هوائهم، وأرضه تنخفض عند سمائهم، والنماذج الموجودة من البند تشهد بذلک.

واستمرت الحرکة الأدبیة بنفس الوتیرة إبان حکم الإمارة الکعبیة فی مدینتی القُبـان والفلاحیة (شادگان). فمدینة القبان التی لم یتبقَ منها الآن سوى أطلالها، کانت فی أواخر القرن الـ17 ومعظم فترات القرن الـ18، مرکزاً ثقافیاً وأدبیاً ودینیاً مهماً، یزخر بالمدارس والمعاهد؛ کما کانت الموطن الأول لهجرة قبیلة کعب العربیة التی استوطنتها وأسست فیها دعائم حکمها القبلی قبل أن تنتقل فی خمسینیات القرن الثامن عشر إلى الفلاحیة (الدورق)، زمن زعیمها الشیخ سلمان بن سلطان الکعبی وخلفائه الذین أصبحت مدینتهم بفضل الرعایة التی أولوها للمبدعین، محجة ووجهة العلماء والشعراء. فقد تأسست فیها المدارس والمکتبات وتکاثر الناس على طلب العلم والإستزادة منه، کما شهدت المدینة المذکورة هجرة کثیر من البیوتات العلمیة من منطقة البحرین والأحساء وکذا العراق، مما أعطى زخماً ودفعاً جدیدین للحرکة الأدبیة والعلمیة النشطة فیها. ولمع العدید من الأسماء فیهما، لعل أبرزها العالم الأدیب الشیخ فتح الله بن علوان الکعبی القبانی، صاحب التصانیف وقاضی البصرة (تـ1130هـ/1718م)، والشاعر الکبیر الشیخ هاشم بن حردان الکعبی الدورقی (تـ 1221هـ/1806م)، الذی نجح إلى حد بعید فی بعث أسالیب الشعر العربی الأصیلة، کما مر ذکر الأدیب علی بن بالیل الدورقی صاحب البنود الشهیرة، ونجله إبراهیم بن علی (تـ حوالى منتصف القرن 12هـ/18م) وکلاهما من العلماء الأدباء، خلفا العدید من التصانیف الأدبیة، إلى جانب البیوتات العلمیة من أمثال آل المحسنی وآل الطریحی، وغیرها من البیوتات التی أسهمت عبر أبنائها فی تنشیط هذه الحرکة. ولا یجب أن یفوتنا التعریج على مدینة تستر (شوشتر) شمالاً حیث کانت هی الأخرى مرکزا ثقافیاً وعلمیاً کبیراً إلى جانب الحویزة والدورق فی تلک الفترة؛ وأشهر بیوتاتها العلمیة هم آل الجزائری الذین قدموا العدید من الرجالات العلمیة والأدبیة مذّاک وحتى یومنا هذا. وفی الحقیقة فقد تحولت تستر إلى مرکز إشعاع حضاری وأدبی، وحاضرة للمنطقة منذ بدایات القرن الرابع الهجری، أی عندما أتت ثورة الزنج على وجود "سوق الأهواز" ـ مدینة الأهواز الحالیة ـ التی کانت حاضرة الإقلیم یومها، وتلقت تستر دعماً ودفعاً ثانیاً فی العهد المشعشعی واستمرت حتى بعد إنطواء صفحته وعصره.

وفی أوائل القرن التاسع عشر تأسست مدینة المُحمّرة[خُر‍‍َّم‌شَهر]، حیث یحکم الفرع الثانی من قبیلة کعب والمدعو "ألبوجاسب" (آل أبی کاسب)، والذی یولی هو الآخر العلماءَ والشعراء اهتماماً یشجعهم على التوافد إلى حاضرته. ولا یجب أن یفوتنا أن بعد خراب سد السابلة فی العام 1177هـ/1764م، نزح سکان مدینة القبان إلى ضفاف نهر الکارون حیث تقع المحمّرة، مما یعنی هجرة مَن فی تلک المدینة مِن العلماء والأدباء إلیها. زد على ذلک أنه ما استقرت الأوضاع السیاسیة فی المحمّرة فی أواسط القرن التاسع عشر، متلقیة دعماً من الحکومة المرکزیة فی إیران، حتى استقدم حکام المدینة العدید من العلماء إلى حاضرتهم وأکرموهم وبالغوا فی رعایتهم بغیة تشجیعهم على الإقامة فیها. ولعل أبرز هذه البیوتات هی آل الغریفی ومنهم الشاعر الفذ السید عدنان شبّر (تـ 1340هـ/1921م) ونجلاه علی ومحمد علی، وکلهم خلف العدید من الآثار من ضمنها دواوین شعریة؛ وآل الخاقانی الذین تضلعوا فی علوم الدین والفلسفة إلى جانب الأدب، وأخص منهم بالذکر الشیخ سلمان عبدالمحسن (تـ 1408هـ/1987م) الذی أولى الشعر والأدب عنایة خاصة، إلى جانب کونه فقیهاً ومرجعاً دینیاً، ومن حلقاته الأدبیة فی مدینة النجف أیام إقامته فیها، تخرج الشاعر الکبیر مصطفى جمال الدین؛ وأیضاً آل جمال الدین الذین یتحدر منهم الشاعر مصطفى جمال الدین المـار ذکره، ورأس هذا البیت ومؤسسه علی بن المیرزا جمال الدین الإخباری صاحب المؤلفات والتصانیف؛ وهو أول من نزل المحمّرة بدعوة من مشایخها وتوفی بها عام 1274هـ/1858م. وقبره ظاهر فیها، وهو المعروف بمقبرة المیرزة إلى الشمال منها، وهؤلاء نشروا الأدب والشعر بشکل أخص وأقاموا لهذا الغرض، الدیوانیات والمکتبات والنوادی الأدبیة التی لا یزال البعض منها قائماً إلى یومنا هذا، حیث نهل من نمیرها جم غفیر من الأدباء والمثقفین والمهتمین؛ ناهیک عن توافد الشعراء والأدباء إلیها من کل حدب وصوب، من أمثال الأدیب اللبنانی أمین الریحانی والصحافی السوری الأدیب عبدالمسیح الأنطاکی، وشاعر العراق فی زمانه معروف الرصافی، والشیخ عبدالکریم الجزائری، والسید جعفر الحلی، والشیخ جواد الشبیبی، والشیخ عبداللطیف الجزائری وآخرون کثر، وهؤلاء جمیعا وغیرهم وضعوا المؤلفات لمشایخها ودبجوا القصائد فی مدحهم، مما یعکس حرکة أدبیة نشطة کانت تجری فی المحمّرة على قدم وساق. ولابد من القول إن من البدیهی أن تتأثر الآداب والثقافة فی المنطقة بالأحوال السیاسیة والإجتماعیة؛ فعندما تستتب الأوضاع السیاسیة ویتوفر الأمن والدعم من أولی الأمر فی البلاد، وبغض النظر عن مساحة سلطانهم والمدى الذی بلغه مجدهم، تزدهر أسواق الأدب والشعر وکافة أوجه الثقافة، دافعة قوافل المثقفین والمبدعین من العراق والبحرین وسائر المدن والمناطق للتقاطر إلیها، لتنعم بهذا الظل الوارف من دعم وتشجیع الإبداع وفی مقدمته الشعر، نجد شواهد عن کل ذلک عبر ما مرّ فی السطور السابقة. وفیما یلی سآتی على ذکر عشرة أشهر شعراء من أبناء المنطقة، مترجماً لهم باقتضاب شدید ومورداً نماذج من أشعارهم بغیة التعرف على أسالیبهم الشعریة ولغتهم الأدبیة.

1ـ الأخیطل الأهوازی: محمد بن عبدالله المخزومی (عاش معظم حیاته فی القرن 3هـ/9م)، شاعر وصاف غزِل ینحو منحى أبی تمام؛ لم یبقَ من شعره سوى عدة عشرات من الأبیات منها:

أیا کبداه من غصص الفراق      وحب مـا أراه ومـا ألاقـی

له صدغـان معقوفـان منه      بنات القلب تجنح فی السبـاق

على خـد یجمـش وجنتیه      عنـاقیـد مزرفنـة البطـاق

تلاحظه العیـون بکـل وجه    ولکـن لا سبیـل إلى التلاقی

تعاوره الحواضن کـل یـوم     بمسح العـارضین إلى التـراقی

أقـول له وقد أودى بقلـبی      سقـام ما یفتـر عن خنـاقی

أیـا قمر القبیـلة من لصب      أسیـر الحب أصبـح فی وثاق

وکذا من بدیع تشبیهاته لمصلوب:

کأنه عاشق قد مدّ بسطتـه         یوم الفراق إلى تودیع مُرتحلِ

أو قائم من نعاس فیه لوثتـه        مـواصل لتمطیه من الکسل

وأیضا یصف ورداً:

هذی الشقائق قد أبصرت حمرتها     مع السـواد على أعناقها الذلل

کأنها دمعة قد غسلت کحـلاً       جادت بها وقفةٌ فی وجنتیْ خجل

وله أیضاً:

أسمعـتَ أذنَ رجائی نغمة النعم        فأرعنی أذنـاً أمدحک فی کلمی

ریاض شعر إذا ما الفکر أمطرها         فهماً  تروّى لها لبُّ الفتى الفهم

فما اقتراب الهوى من عاشق دنف       ألـذ من ماء شعر جال فی کرم

2ـ محمد بن عبدالعزیز الکاتب السوسی، من شعراء القرن الرابع الهجری، ویرجح محقق مقتل الخوارزمی أنه توفی حوالى 370هـ/980م. من شعره:

الحمد لله لیـس لی بخـتٌ         و لا ثیـابٌ یضمّها تخـتُ

سیـان بیـتی لمـن تأمّـله        و المهمه الصحصان والمَـرْت

أمِنتُ فی بیتی اللصوص فمـا       للصّ فیـه فـوقٌ ولا تحـت

فمنـزلی مطبـقٌ بلا حـرسٍ      صفرٌ من الصفـر حیثما درت

إبریقی الکوز إن غسلت یدی      و الطین سعدی وداری الطست

وعاجل الشیـب حین صیَّرنی       فـرزدقیّ المشیـب إذ شبت

سلکت فی مسلک التصوف تن      ـمیساً فکم للذبول  قصّرت

سوّیت سجادةً بیـومٍ وأحـ       فیت سبالاً قد کنت طوّلتُ

وفی مقام الخلیـل قمت کما      قـام لأنـی بـه تبـرّکت

ثم کتبت العطـوف حتى بتد       بیـری بین الرؤوس ألفـت

حتى إذا رمت عطف بعلٍ على      عرس عکست المنى و طلّقتُ

حر فی منقّى من التـراب فکم       ذرّیتـه مـرّةً و غـربلت

یا لیت شعری مالی حرمت ولا     أعطی مـن إن رأیته اغتظت

بل لیت شعری لما بدا یقسم الـ     ـأرزاق فی أیِّ مطبقٍ کنتُ

والحمد لله قاسم الرزق فی الـ    خلق کما اختار لا کما اخترت

وله یصف جسراً:

شبهت دجلة واسط     والجسر فیها ذو امتداد

بطراز ثوب أسـود     أو مثل سطر من مداد

3ـ ناصح الدین أحمد بن محمد الأنصاری الخزرجی الأرّجانی (460ـ544هـ): الفقیه الشاعر، له دیوان شعر مطبوع فیه کل معنى لطیف على حد قول ابن خلکان، وقد طرق کافة مواضیع الشعر وله مکانة خاصة فی الشعر لاسیما بین معاصریه من أشعاره:

ومقسومة العینین من دهش النوى      و قد راعها بالعیس رجع  حداء

تجیـب بإحـدى مقلتیها تحیـتی     و أخرى تراعی أعـین الرقبـاء

رأت حولها الواشین طافوا فغیضت     لهم دمعها و استعصـمت  بحیاء

فلما بکت عینی غـداة وداعهم        وقد روعتـنی فـرقة القـرناء

بدت فی محیاها خیـالات أدمعی       فغاروا وظنـوا أن بکت لبکائی

وکذا قوله:

یروّی ضـاحیَ الوجنات دمعی       ویعدل عن لهیب جوى دخیلِ

ومـا نفعی وإن هطلت غیوث        إذا أخطـأن أمکنـة المحـولِ

وله کذلک:

شـاور سـواک إذا نابتک نـائبة    یوماً وإن کنت من أهل المشورات

فالعین تلقى کفاحاً ما دنى ونـأى     و لا تـرى نفسهـا إلا  بمـرآة

ومن شعره قوله:

تَقولُ  للبَدْرِ فی الظَّلماء  طَلْعتُهُ        بأیّ  وجهٍ  إِذا  أقبَلْتُ  تَلْقانی

وجهُ  السَّما لِیَ  مِرآةٌ  أُطالِعُها        والبَدْرُ  وهناً خَیالی  فیهِ لاقانی

لم أنسهُ  یوم  أبکانی وأضحکَهُ        وقوفُنا  حَیثُ أرعاهُ  و یَرْعانی

کلّ رأى نفسه فی عینِ صاحبه        فالحسنُ أضحکَهُ والحُزن أبکانی

4ـ شهاب الدین بن معتوق الحویزی: الشاعر الفحل وکبیر شعراء الإقلیم بلا نزاع، امتاز شعره بالطبعیة العالیة رغم غلبة الصنعة اللفظیة والبدیعیة علیه، وهو من أکثر الشعراء بل أوفقهم فی الجمع بین هاتین المدرستین؛ له دیوان شعر مطبوع؛ توفی عام 1676، من شعره:

ألا یا أهلَ مکةَ إن قـلبی         بکم علقته أشـراک الفنـون

أخذتم نحو مکتکم فـؤادی       وبین الکرختیـنِ ترکتمونی

غرامی فی هواکم عامـریٌ        فهل لیـلاکم عرفت جنونی

أمنتکم علی قلبی فـخنتُم          و أنتم سادة البلد الأمـین

أنا الخِلُّ الوفیُ وإن تجـافوا         وسائلُهم وإن لم یُـرفدونی

أود رضاهم لـو کان حتفی        وأوثرُ قربهم لـو قرّبـونی

لئن أنستکم الأیـامُ عهدی         فذکرکم نجییّ کلَ حـین

وقال متغزلاً:

رَوى عن الرّیقِ منها الثّغْرُ والشّنَبُ      معنىً عن الرّاحِ تَروی نظْمَهُ الحَبَبُ

وحدّثَتْ عن نُفوسِ الصّیدِ وجنَتُها       أخبارَ  صِدقٍ  یُقوّیها دمٌ  کذِبُ

والخالُ لصٌّ  أمیرُ  الحسن  أفرَشَهُ       نطعَ الدِّماء وهُزّتْ فوقَه  القُضبُ

مِن لحظِها لا یصونُ القِرْنُ مهجتَهُ       ولا تُضَمُّ  علیهِ  البیضُ  والسُّلُبُ

تهوی على جیدِها الأقراطُ ساکنةً       فیسْحَبُ الفرْعُ  ثُعباناً  فتضْطَربُ

من خدِّها فی قُلوبِ المُدنَفین لظىً       و فی  المُحبّینَ  من  أکفانِها  نصَبُ

ومن بارع غزل ابن معتوق قوله:

ضحکَتْ فبانَ لنا عُقودُ جُمـانِ     فجلَتْ لنا فلقَ الصّباحِ الثّانی

وتزحْزَحَتْ ظُلَمُ البراقِعِ عن سَنى      وجَناتِها فتثـلّثَ القَمَـرانِ

وتحدّثَتْ فسمِعْتُ لفظـاً نُطْقُه      سحرٌ ومعناهُ سُـلافةُ حـانِ

ورنَتْ فجرّحَتِ القُلوبَ بمُقلةً       طرْفُ السِّنانِ وطرفُها سِیّـانِ

وترنّمَتْ فشدَتْ حمائِمُ حَلیِها       وکذاکَ دأبُ حَمائِمِ الأغصانِ

لم تلْقَ غُصْنـاً قبلَها من فِضّةٍ       یهتزُّ فی ورَقٍ مـن العِقْیـانِ

عربیّـةٌ سعدُ العشیرةِ أصلُهـا      والفَرْعُ منها من بَنی السّودانِ

خودٌ تُصوَّبُ عندَ رؤیةِ خدِّها       آراءُ مَنْ عکَفـوا على النّیرانِ

یبدو محیّـاها فلولا نُطْقُهـا        لحَسِبْتُها وثَنـاً من الأوثـانِ

بخِمارِها غسَقٌ وتحت لِثامِهـا      شفَقٌ وفی أکمامِها الفَجـرانِ

سبحانَ من بالخدّ صوّر خالها       فأزانَ عینَ الشمس بالإنسـان

ومن مدیحه فی الوالی برکة بن منصور:

نِصالٌ من جُفونِکِ أم سِهامُ        ورُمحٌ فی الغِـلالةِ أم قـَوامُ

وبلّـورٌ بخـدِّکِ أم عَقیـقٌ        وشهدٌ فی رُضابِکِ أم مُدامُ...

عجِبْتُ من الزّمانِ وقد رَمانا       ببَیْنٍ مـا لشِعبَـیْهِ اِلتِئـامُ

فکیف تُصیبُنـا منهُ سِهـامٌ       وجُنّتُنا ابنُ منصور الهُمـامُ

تَسیلُ من النفـوسِ له بحـارٌ       ونیرانُ الوَطیسِ لها اِضطِرامُ

ألا یا أیّها الأسَـدُ المُحـامی       عن الإسلامِ والمَولى الإمـامُ

ویا اِبْنَ القادِمینَ على المَنایـا       إذا ما الصّیدُ أحجَبَها الصِدامُ

ومَنْ زانتْ وجـوهُ النثرِ فیه       وفی تَقـریضِهِ حسُنَ النِّظـامُ

وتاه العید فیـک هوى وباهى    بک الأقطار وافتخر الصیـام

فمـاذا العیـد إلا مستهـام     دعـاه إلى زیـارتک الغـرام

فلا عـدم ازدیارک کل عـام     یمـر ولا عـداک له سـلام

5ـ علی بن خلف المشعشعی: والی الحویزة الأدیب الذی یمثل نبرة التجدید الشعری المحاولة بث الروح فی جسد الشعر العربی فی قصائده؛ کما شغلت الذاتیة بما لها من قیمة، حیزاً کبیراً من شعره. له دیوان شعر کبیر لایزال مخطوطاً، توفی 1677، من شعره:

ودع فـؤادک إن الرکب  مرتحـل     غـداً تسیـر به الوخـادة  الذلل

فی القـرب والبعد لا تنفک فی تعب    فالشوق إن نزلوا والحزن إن رحلوا

مـا فی محبتهم من  راحـة لشـجٍ     إن قاربوا سقـموا أو باعدوا قتلوا

أمن دمی صبغت خداه حین سطت     جفناه أم عـادها من سفکه الخجل

وقوله:

أحِـنُّ إلى ذاک الزمـانِ وإنمـا      حَنِینی  لِمَن زان الزمـانَ بقُرْبِهِ

وأهْوَى الحِمَى لا أنَّنی عاشقُ الحِمَى   ولکنَّنی  مُغْرىً  بسُکـان شِعْبِهِ

فآهاً لوَجْدِی کیف یبْقَى رَسِیسُه     وآهاً لصَبْرِی کیف یقْضِی بنَحْبِهِ

وله:

یا مَجْمَعَ الأزهـارِ والوَرْدِ         لا کـان هذا آخرَ العـهدِ

حَیَّتْ طُلـولَک کلُّ غادیةٍ         وجَب الثنـاءُ لها على الرَّنْدِ

للهِ لیلتـُنا علیـک وقـد         مزَج السرورُ الهَـزْلَ بالجِدِّ

والزَّهرُ یبسَم کلَّما هَملتْ         عینُ السحابِ بواکِف العَهْدِ

ونَسِیـمُک المُعْتلُّ صَـحَّ به        جسمِی من الآلام والجَهْـدِ

أهْـلاً به من زائـرٍ طَرقتْ         أنْفـاسُه بالعنـْبَرِ الـوَرْدِ

مـا زال یحْکینا ویُسِنـد ما        یحْکیه عمَّن حَلّ فی نَجْـدِ

لا عن قِلىً فارقتُ زهرَکَ یا         خیرَ الرِّیاضِ و لم یکنْ وُدِّی

إن کان حیَّى بالسرورِ فقد         أبْقَى بقلـبی لاعِـجَ الوجدِ

فکـأن أحمـره بأصْفـرِه         دمعی غداةَ نأیْتَ  فی خَدِّی

وقوله:

إن سُرَّ وَاشِینـا بفُرْقتـِنا    إذْ سـاءَه ما کان فی القُربِ

ظَنّـاً بأن البُعـدَ صاحبُه    ینْجُو من الأشْجـانِ والحُبِّ

لا سُرَّ وَاشِینـا فإنَّـک قد  حُـوِّلْتَ من عیْـنی إلى قلبی

6ـ ابن رحمة الحویزی: الأدیب العالم الجامع لعلوم عصره وثقافة زمانه المتضلع بها، له شعر رائق ومؤلفات عدیدة بین أدبیة وتاریخیة، توفی عام 1665، من أشعاره:

قـام یجْلُوها وفی الأجْفانِ غَمْضُ     والنَّـدامى نُـوَّمٌ بعضٌ وبعـضُ

والضِّیـا یرمِی بها الفَجْر الضِّیا       ولخیْلِ الصبح فی الظُّلُمات رَکْضُ

وکأن اللیـلَ غَیْـمٌ مُقْلِـعٌ         لَمَعـانُ الکـأسِ فی جَنْبَیْه وَمْضُ

فی ریاضٍ نسَجتْ فیها الصَّبا         ولَهـا فی زهْرِهـا بَسْطٌ و قَبْضُ

ضَـرَّج  الـوردُ بها  وَجْنتَـه       والأقـاحِی ضُحَّکٌ والآسُ غَضُّ

وکـأنَّ النّـَرجِسَ الغَضَّ بهـا      أعْیُـنُ الغِیدِ ومـا فیهنَّ غَمْضُ

وکـأن الْبـانَ قَـدٌّ مـائِسٌ       کـلُّ غصنٍ منه عِرْقٌ فیه نَبْضُ

وکـأنَّ الأرْضَ ممَّـا أنبـتتْ       زَهَراً جَوُّ السمـا و الجوَّ أرْضُ

مجـلسٌ طُـلَّ دمُ الکـأسِ به       و له ظِـلٌّ له طـولٌ و عَرْضُ

نظـمتْ فیه  الـلآلِی حَبَبـاً      حین عنْها صدَفُ الـدَّنِّ یُفَضُّ

بی وبالـرَّاحِ الـذی أجْفَـانُه     تحسِم البِیضِ صحاحاً وهْی فَرْضُ

کیف تَرْجُو البِیضُ نحْوی رَسْمَها    و لها فی خِـدِّها رَدٌّ و نَقْـضُ

مـا وفَتْ دَیْنـِیَ منها وَلَـها      فی فُـؤادِی أبـداً نَشْرٌ و نَقْضُ

یـا حبیباً قد غـدَا مُعْتـزلی      لیس لی عن سُنَّةِ العُشَّاقِ رَفْضُ

إن یکُن قد شِیبَ دمعی بدَمِی     حُمْرةً فالوُدُّ فی الأحْشاءِ مَحْضُ

مُستقِـرٌّ نُهِـک العظـمُ به       بعد أن ذابَ له لحـمٌ و نحْضُ

وبقلبی عقْـربُ الصُّـدغِ له       کلَّما هبَّ الصَّبا نَهْشٌ و عَضُّ

حمَّلت جسـمیَ أعْبـاءَ الهوى     و هو لا یُمکِنُه بالثوبِ نَهْضُ

وله أیضا:

أقرقف فی الزجاج أم ذهـب    و لؤلؤ مـا علـیه أم حـبب

شمس علا فوق قرصها شهب    والعجب الشمس فوقها الحبب

حمـراء قد عتقت فلو نطقت    حکت بخلق السماء ما السبب

إن لهبوها السقـاة فی غسـق    یمزق الـلیل ذلک اللـهب

وإن حساها النـدیم مصطبحا     ألم فی الجیـش همه الطرب

لم أدر من قبل ذوب عسجدها    أن بها التبـر أصله العـنب

لله أیـامنـا بـذی سلـم      سقتک أیام وصلنا السحب

والروض بالمـزن یـانع أنـق   والغصن بالریح هزه الطرب

والنهر یحتـاکه الصبـا زردا    إذا نضت من بوارق قضب

فخـاننا الدهر بالفراق وقد      رثت جلابیب وصلنا القشب

عجبت للدهـر فی تصـرفه     وکل أفعـال دهرنا عجب

یـا عربا باللوى وکـاظمة     لی فی مقـاصیر حیّکم أرب

بأهیف کالقـضیب قـامته     تسقیه دوما جفونی السکب

کالشمس أنـواره وغـرته      فمـا له بالظـلام ینتسب

تسفح من سفح مقلتی سحب     إذ لاح من فیه بارق شنب

7ـ علی بن بالیل الدورقی:صاحب البنود الأشهر؛ له إلى جانب البنود قصائده المعروفة بقلائد الغید وهی جیدة جزلة، وقصیدته الموسومة بالقلادة وهی مفقودة، وهی قصیدة حِکمیة. توفی عام 1690 من شعره:

بی من ظبـاء نجیـل أعین فنیت     منها الحشاشة بین النجل و النجـل

أغرى الهوى بی و أغریت الفؤاد  به    و لم أضق عنه  لو ضاقت به  سبلی

و الطرف جـارَ على ضعفی بقوته     ورب ذی کسل یقوى على الکسل

و بدل الدهر منی فـاحمـاً سبطاً     تعنـو لـه  نظرات الأعـین النجل

وما یرید الهوى منی وذی حججی    فی الرأس بیض و لا أقوى على الجدل

ولیس لی حـاجة فی دار عـاتکة     کلا و لا نـاقتی  فیها و لا  جملی

بذلت نصحی وما قصدی سوای به    و النفس أولى بلوم النفس و العذل

وخذ إلیک عروس الشعر ما عرفت     بحسنها  کیف تجـلى خلة العطل

تمیس و العالم  النحریـر ملبسها      قـلائد  الدر لفظـاً  غیر  مبتذل

نظمت سبع قوافٍ و هی واحدة       و رب واحـدة عن  سبعها الطول

کررت فیـها قـوافیها لقـلتها      کالمسک  لو کررته  ربة الکـلل

کأنها الکوکـب الدری منقسما      لسبعة هزأت  بالسرج و الشعـل

زان القریض بخـود منه جـاء بها     للمجتلین  لها بالسمع  فکر  علی

أنى وإنی ابن بالیل برزت بها کالرود     لو أبرزت  بالحجل مـن حجل

و لیقبلن  إلیها السمـع  مرتشفـاً      و قبله  القلب بعد  الضم بالقبل

خذها  إلیـک  یهز التیـه قامتها      کالرمح والغصن أن یهزز و أن یمل

و لیکف قائلها  فخـراً و منشدها      من کل مستمع قولان زد و قـل

ومن بنوده المـارّ ذکرها:

فتق الغیثُ عیونَ النرجس الغضِّ

فراحت شاخصاتٍ تنظر الآثار بالأحداق والأفکار

مثل العالم العامل یتلو زُبَـر الحد خشوعاً

وتری الطلّ علی حافاته کالدمع فی الجفن

سقی الله أویسَ النرجس الغض زلالاً

مالها عن ربة النرجس کالإنسان ذکراً

وکذا من بنوده:

وبدا زنجیُ ذاک الخال

یفدی العمَّ والخال

علی کرسی کسری الخد تلقی قیصرَ الجید

یمجُّ المسک من فیه، ذکیـاً فی حواشیه

صغیراً مثل إنسانک،  نفدیک بإنسانک

8ـ فتح الله بن علوان القبانی: الفقیه الأدیب والقاضی المؤلف، له أشعار جیدة، متناثرة فی مؤلفاته، من هذه المؤلفات "الإجادة فی شرح القلادة" لابن بالیل، عارض بها شرح الصفدی لـلامیّة الطغرائی؛ توفی عام 1718، منها قصیدة یرثی بها صدیقه "محفوظ" إثر مقتله فی معرکة عام 1678م :

حزنی علیک مدى الزمـان مقیم     حـاشاه أن یثنیه عنک ملوم

جادت لفقدک کل عـین ثـرة      و بکل قلب قرحة وکلـوم

نبکی ومـا یجدی البـکاء وإنما    جهد المقصر دمعـه المسجوم

ونود لو سمح الزمـان بمثـل من    نفدیک من حتف وأنت سلیم

إیهٍ خلیـلی إن رأیـت وإن ترى    والأمر فی کل الورى معلوم

یوما تجمعت القـبائـل کلهـا    فیه وأمر ضـلالهم مبـروم

قد أقبلوا زمـرا کأن سیوفهم     بـرق ومشتبک الرماح غیوم

لم أنسَ محفـوظا غداة لقاهم     فـردا وجیش عداته مرکـوم

من بعد إخـوته الذین تقدموا    فی الحـرب وهو مؤجج مضروم

رکعوا الأسنة خوف قولة قائل    هذا  ابن جود الله و هو هـزیم

عرفوا المنیـة ثم خاضوا قعـرها     إن  الفرار مع  البقـاء  ذمیم

سـاقوا العدو بما یساقی مثله     لو أن حربهم  السجـال تـدوم

حتى هوى وهوى فکان فقیدهم   کبر المصاب إذ  الفقـید  زعیم

هذا الذی تبکی  علیه  صحائف      تتـلى و آثـار له  و علـوم

هذا الذی تبکیه أضیاف الدجى     و المعدمون و أرمـل و یـتیم

هذا  الذی تبکیه آساد  الشرى   من  قومه فبـهم علیه  وجـوم

والله ما  أنتـم بأقـران لهم      فی  الحـرب لکن القضا محتوم

فلأبکین  علیک  مستور الحیا     إن  التجـلد فی  المحبـة لـوم

و لأسألن الله فی جنح الدجى     غفـرانه  لک إنـه لرحـیم

وله من الغزل:

من لصب غلب الشوق اصطباره     فلذا  بـاح  و للحب  إمـارة

لعبت فی عقلـه  أیـدی الهـوى    فلعذر خلع  الیـوم  عـذاره

هو کـالغصن  إذا مـاس لنـا      و کبدر التمّ حسناً و نضـارة

یـا غـزالا من  ربى کـاظمة     کدر الخاطر مذ أبـدى نفـاره

کان یأتی منک طیف فی  الکرى      و لأمـر منـع  الیوم مـزاره

ما على  مثـلک  لو  واصـلنا     فعسى یطفی من القلب شـرارة

9ـ هاشم الکعبی: اشتهر بمراثیه الحسینیة وهو شاعر جزل فخم اللفظ مدوّیه، وهو الأکثر توفیقا فیما أرى من الشعراء الذین حاولوا بعث الشعر العربی العباسی وما قبله والمشهور بجودة وفخامة ومتانة ألفاظه ومعانیه. له دیوان کبیر فی شتى الأغراض، منه مقصورة عارض بها مقصورة ابن درید توفی عام 1806، من شعره:

یـا ساکن القلب هل من رحمة لشجٍ       مغضٍ على سقم  مفضٍ  إلى  عدم

ما عند نـاظره والقـلب مـن أرب      بعد الحمى غـیر منهل ومضطـرم

أسـوان لیس له بعد الـنوى جلـد      یقوى به غـیر قرع السن  من ندم

صفر الأنـامل بـادی الغی فی ضجر     مقسم القـلب بین الخمص والهضم

مُـناه عـود المطـایا لـو تعـود له     بمـا تحمـلن من ورد و من عنـم

لا رأی للرکب أن یخشى الضلال دجى    والصبح فوق المطایـا غیر منکتـم

و کیف یبغی الشذى و الروض تحمله      أکوارها فی انتشاق الشیح  فی الحزم

وله من طریف الغزل وظریفه:

لی الله کم تلحو اللواحی وتعذل   و کم أبتدی عذرا و کم أتنصـل

یریدون بی  مستبدلاً عن  أحبتی    أحالوا لعمری  فی الهوى و تمحلّوا

متى کانت العذال تنصح عاشقا     متى کانت العشاق للنصح تقبـل

وقال أیضا:

أهاج حشاک للشادی الطروبِ     قریر العین فی الغصن الرطیـب

فکم للقلب من وجـد وحزن      وکم للطرف من دمع سکوب

ونفس حشو أحشـاها همـوم      یشیب لها الفتى قبـل المشیب

تبـیت ولیـلها بالهـمّ هـادٍ     وحشو نهارها عقـد الکروب

تخیـل أن ضـوء الصبح لیـل    به جاء الصبـاح من الغروب

تجهـم لیس  تدری ما تـلاقـی    کفـایتها من الصبح القریب

ترى الأحزان مثل الفرض فرضـاً    وتحـریم السلوّ من الوجوب

وله یصف موقعة کربلاء وفرسانها:

وشد على قلب الکتیبة مهره    فراحت ثباً مثل المهى تتجفل

أخو نجدة لم یثنه عـن عزیمة     سنان ولم یمنعه ما رام منصل

یکر فلا تلـقاه إلا جمـاجماً      تطیر وأجساداً هنالک تعقل

و إلا طُلا تبرى ومعتقلاً یرى     وسابغة تفرى وعضب یفلل

10ـ عدنان الغریفی: أبرز من حفلت أشعارهم بالذاتیة الطاغیة من أبناء البلاد، إلى جانب رصانة أسالیبه ولغته، توفی سنة 1921، من شعره:

واعجباً منک یا فؤادی       یسعرک الدمع و هو غیث

وأنت یا قلب تخـتشیه      و هو غزال وأنت  لیـث

مرّ یریث الخطـا وئیداً       کذاک مشی القطاة ریث

وقال ناصحاً:

الناس فی الدنیا زجاج       ما أن لکسرته  عـلاجْ

فارفق ولـو متملقـاً       یجبى لحضرتک الخـراجْ

وکن ابن دهرک دائماً       فلکل إنسـان  مـزاجْ

وقال:

ألا قل لمن أبدى الزهادة إذ نأى      به الجـد والتاثت علیه المقـادر

رویدک لا تنصب وقلبک فارغ       فربـک یدری ما  تکن الضمائر

و ما توبة الإسلام ممـن یتوبها        بمجـدیة إن لم تعفَّ  السـرائر

وما وجه ذی الوجهین والله عالم      وما تعب الأجساد والقصد حائر

هو الجد أو فارجع بصفقة خاسر       وما الناس إلا ذو رباح و خاسر

وقال من قصیدة فی رثاء صدیقه الشیخ خلف العصفوری من فقهاء المحمّرة:

ما عاد قلبک یوم البین إذ صدفـوا     عنه وما کفکفوا العین التی طـرفوا

أتبعتـهم مقلـة حـرى مـولهة      تجاذب الدمع فیها الشوق والشرف

راحـوا فمن نفر من بثه نفـروا      عنه ومن نفـر من رحمـة وقفـوا

ما ضرهم لا أغبت بنت ربـعهم      جونُ السحاب و لا أجفانی الوطف

لو أنهم جبروا القلب الذی کسروا     أو أنهم دملـوا القرح الذی  قرفوا

لما غـدا جانب الزوراء یلـعب بی     ولا استقلت برحلی الجلة  الشرف

ما ملت عن عهدکم یوما وإن لعبت     بی المطایـا و مستنی نؤى  قذف

ولا ثملـت بشیء غـیر ذکـرکم     وإن یکن لکم فی غیـری الشغف

و غـایتی من  هواکم إن  ولعت به    أمـا اللقـاء و أما الموت و التلف

وقال مخمساً شطر الشاعر سعد بن محمد المعروف بـ"حیص بیص" وقد أجاد فیه:

وأهیف معسول اللمى قد ضممته     لتقبیل خد بل لریـق نهلته

و مذ  جرت فی  تقبیله  و أطلته      بدا عرق من خـده فسألته

لماذا تبدى قال لی وهو یمزح

لعمرک قدی الغصن راق انثناؤه    ومن وجنتی الورد طاب اجتناؤه

ومن خجل خدی تصبب ماؤه    ألا  إن  ماء  الورد خدی  إناؤه

"وکل إناء بالذی فیه ینضح"

وقال کذلک:

أعلى العشـاق تعتـرض    وهـم نصب البلا غـرض

وقفوا عن نصح ناصحهم     وإلى غـی الهوى رکضـوا

حملوا أضعاف جهـدهم     وبمـا قـد حملـوا نهـضوا

وعلى أرواحـهم کـلف    وعلـى أجسـادهم  مرض

ومن غزله أیضا:

سل العـاشقین و ما جرعوا      من  الغـانیات و أوصابها

و سل  عنهم الأدمع المرسلات   و جـرع المرارة من صابها

ولیل التمام و عدّ  النجـوم      و فعـل الغـرام بألبـابها

فإن کنـت منهم وإلا فدع      سبیـل الهیـام لأربـابها

إلیـک فلست کفـوءاً لها       ولا أنت من بعض خطابها

ومن بذل النفس نال النفیس      ونـال به بعـض أرغابها

قائمة ببعض المصادر والمراجع:

  1. البیان والتبیین، أبو عثمان الجاحظ البصری، تحق. عبدالسلام هارون.
  2. تاریخ الأدب العربی فی الأحواز من القرن 11ـ14هـ.،عبدالرحمن اللامی، ط. بغداد.
  3. الحیوان، أبو عثمان الجاحظ البصری، تحق. عبدالسلام هارون.
  4. خریدة القصر، العماد الأصبهانی تحق. مجموعة من المحققین.
  5. طبقات الشعراء، ابن المعتز العباسی تحق. صلاح الهواری، ط. بیروت.
  6. معجم الأدباء، یاقوت البغدادی، تحق. مرجلیوث، ط.محمد فرید وجدی القاهرة.
  7. معجم الشعراء، المرزبانی، فاروق اسلیّم،ط. بیروت.
  8. نهایة الأرب، النویری: تحق. لجنة، ط ، القاهرة.
  9. الوافی بالوفیات، الصفدی، لجنة، ط ، القاهرة.
  10. وفیات الأعیان، ابن خلکان الدمشقی، تحق. إحسان عباس، ط. بیروت.
  11. یتیمة الدهر، الثعالبی تحق. مفید قمیحة، ط. بیروت.

ارسال نظر