شعر الثورة والمقاومة فی ایران
د. محمد رضا روزبه
تعریب: حیدر نجف
السلالة البهلویة التی تولت زمام السلطة فی ایران ابتداءً من اردبیهشت سنة 1305 [أیار 1926م] بفعل ما کان لمؤسسها رضا خان من قوة وسطوة، وبفضل المیول الحداثیة والتغریبیة لدى رجال الثورة الدستوریة، سقطت فی 22 بهمن سنة 1357 [11شباط 1979م] بشعارات تراثیة وبعد کفاح مریر خاضته جماعات وأحزاب مختلفة من الشعب الایرانی.
کانت سنة 1978 سنة الانفجار.. إنها السنة التی انشغل فیها الشعب بکل قواه بالاستئصال والاقصاء أکثر من انشغاله بالبناء. کانت سنة حریة الصحافة واطلاق سراح المعتقلین السیاسیین وتشکیل الاحزاب والمنظمات العدیدة، وسنة الاضرابات والمظاهرات، والمفاوضات السیاسیة وإفشاء الفضائح و... وأخیراً انتصار الثورة الاسلامیة فی ایران. قبل سنة الانتصار کان الشعر والأدب الایرانی یتحدث عن أشیاء، وبلغة الاشارات فقط، تحولت فی ذلک العام الى واقع مشهود فی الشوارع، لذلک لم یکن لأی أشعار أو مجامیع أو أنشطة أدبیة انعکاسات تذکر باستثناء مجامیع وقصائد معدودة.
الشعراء والفنانون غیر الملتزمین وهم المنخرطین فی تیارات من قبیل "الموجة الجدیدة" و "الشعر الأصیل" تراجعوا الى الهامش تماماً وسط الطوفان السیاسی الذی شهدته سنة 1979 والسنة التی سبقتها، فما عاد لهم من دور یذکر، وکانوا أنفسهم بالطبع لا یدّعون أیة مشارکة أدبیة فی المیادین السیاسیة.
أما الشعراء الملتزمون الذین سبق أن تحدوا – رغم کل اختلافاتهم وتبایناتهم – فی خندق مواجهة النظام البهلوی، وراحوا ینظمون القصائد لشهداء بعضهم البعض، فقد انفصلوا عن بعضهم سنة 1979م وأخذ کل شاعر أو مجموعة ینظم وینتج من وحی منهجه السیاسی.
بعد انتصار الثورة فی ایران وتولی القوى الدینیة زمام الأمور بمساعدة الشعب وارادته، دخل الشعر الایرانی طوراً جدیداً، حیث تجلى حماس الثورة فی الشعر الایرانی وترکت بصمات الحالة الثوریة على لغته تأثیراً عمیقاً.
سوف نشیر فی بحثنا هذا الى خصائص الاسلوب والمضمون فی شعر الثورة حتى نهایة عقد الثمانینات، وذلک فی ضوء وجود عدة جماعات وتیارات شعریة نشطت خلال هذا العقد:
النقطة التی ینبغی الانتباه الیها بدقة هی أن انتصار الثورة الاسلامیة ومن بعدها الحرب المفروضة من قبل النظام البعثی العراقی على ایران طوال ثمانیة أعوام وضعت البلد فی ظروف نادرة جعلت حتى الشعراء غیر الملتزمین، أو أولئک المعارضین للنظام البهلوی وغیر المتقبلین فی الوقت نفسه لتولی القوى الدینیة زمام الأمور من بعده، جعلتهم غیر قادرین على إخلاء قصائدهم تماماً من مضامین الشهادة والمقاومة، لذلک واکبوا – شاؤوا أم أبو - عن وعی أو عن غیر وعی، وسواء کانوا من المؤیدین، أو المعارضین، التیار الذی استوعب واستغرق ایران برمتها.
نراجع فیما یلی مقطعاً من قصیدة " آخر اللعبة " لأحمد شاملو التی نظمها فی الأیام الأخیرة من الحکم البهلوی:
ما تنفعکَ الحدیقةُ والأشجارُ
وقد خاطبتَ غصونَ الآسِ بالمنجلِ ؟
أنّی وضعتَ أقدامکَ من الأرضِ
یتمردُ النباتُ على الخروج
لأنکَ لم تؤمن یوماً بتقوى التراب والماء
آهٍ آهٍ، فقد کان مصیرنا نشید
اللاإیمان الذی رددهُ جنودکَ
جنودک العائدون من فتح قمم العاهرات
انتظر.. لترى ما تصنع بکَ لعنةُ اللیل
فالأمهاتُ الموشحاتُ بالحداد
المفجوعاتُ بأجمل أبناء الشمس والریاح
لم یرفعنَ رؤوسهنَّ من السجود بعدُ !
من ناحیة، کان شعر الدفاع والمقاومة فی ایران استمراراً لأدب المقاومة فی الخمسینات والستینات والسبعینات، لکن طبیعته کانت مختلفة من عدة نواحٍ.
کان استمراراً لأدب المقاومة فی العقود المذکورة لأنه کان تجلیاً للإرادة الوطنیة والروح الجماعیة، حتى وإن لم تکن نظرات جمیع شرائح الشعب لقضایا الدفاع والمقاومة متقاربة وکان ثمة تشتت وتباین فی التصورات حول هذا الشأن.
وکان من ناحیة مختلفاً عنه للأسباب التالیة: أولاً اصطبغ أدب المقاومة فی العقود المذکورة بطابع تنویری ریادی بینما کان شعراء المقاومة فی سنوات الحرب والدفاع تابعین غالباً لإرادة الجماهیر، أو لنقل إن المبادرة فی هذا الجانب کانت لدى المجتمع، وکان الشعراء مواکبین ومشیدین بالمسیرة الجماهیریة. ثانیاً: أتشج أدب المقاومة فی عقود الخمسینات حتى السبعینات بلبوس أممی (انترناسیونالیسم) فی الغالب مع عناصر مرکزة من النظرة المارکسیة، والوجودیة، وغیرهما من الاتجاهات الفلسفیة والاجتماعیة التی شاعت فی القرن العشرین، بینما کان أدب الثورة والحرب – خصوصاً فی نتاجات الشعراء الدینیین والمثالیین – ذا طابع إسلامی إیدیولوجی بما للطابع الإسلامی الایدلوجی من ممیزات وخطاب ممیز. ثالثاً : تمیز أدب المقاومة فی تلک الفترة بأوجه أسلوبیة وجمالیة خاصة، بینما ظل أدب المقاومة فی هذه الفترة وبسبب ظهوره المفاجئ یفتقر لتمیز أسلوبی ومعاییر جمالیة دقیقة حتى منتصف الطریق. ونضیف هنا أن نخبویة الأدب فی تلک الفترة وشعبیة الأدب فی هذه الفترة وجه آخر من وجوه التمایز بینهما.
شعر المقاومة فی ایران شعر فتی وعفوی ومفتقر لأی تمیز أسلوبی. ومع أنه یتمتع بأرصدة شعر المقاومة الوطنیة فی عقود الخمسینات، والستینات، والسبعینات إلا أنه کان فی بدایاته أشبه بطفل هشّ العظام أراد إبداء ردود فعل معینة حیال ظروف طارئة. الأعمال الأولى فی هذا الحیز کانت أشبه بردود فعل عصبیة شاعریة أو نصف شاعریة، غالباً ما افتقرت للبناء الفنی الدقیق.
یذکر محمد رضا سنکری أحد الباحثین الأدبیین النقاط التالیة کأبرز خصائص هذا التیار الشعری:
وفی هذا السیاق یمکن ذکر ممیزات أسلوبیة أخرى لشعر هذه الفترة منها:
اصطفَّ الشعراء بعد الثورة الاسلامیة فی صفین ممیزین بموجب ما فرضته الأجواء السیاسیة – العقائدیة، ویمکن أن نصطلح على هذین الصفین، أو الفئتین بالشعراء الثوریین، والشعراء المستنیرین.
الفئة الاولى هم الشعراء المدافعون عن الثورة والنظام المنبثق عنها، أما شعراء الفئة الثانیة فیجب تصنیفهم على معارضی الثورة ونظامها، أو ناقدیها.
وهذه أبرز الخصائص الاسلوبیة للشعراء المستنیرین:
أما شعراء الثورة فقد کانوا أصحاب نظرة دینیة ومبدأیة بالنسبة للدفاع والمقاومة، وغالباً ما استهواهم النصف المملؤ من الإناء، بینما واصل الشعراء المستنیرون نظرتهم المعارضة مشددین على الجانب الحالک والتراجیدی من الحرب.
حیث إن الثورة الاسلامیة حملت هویة شرقیة – ایرانیة – دینیة ودعت الى التقالید الدینیة والاجتماعیة والثقافیة المحلیة، فإن العودة للتقالید الأدبیة کانت بدورها مما أولاه الشعراء اهتماماً بالغاً. ومن هذا المنطلق، فإننا نشهد فی السنوات الأولى للثورة وفوراً فی القصائد التقلیدیة الى جانب القصائد الحدیثة. الشعراء الشباب الذین آمنوا أن القوالب التقلیدیة أکثر تناغماً مع الروح المحلیة والدینیة والعرفانیة للثورة والدفاع المقدس، عمدوا إلى إحیاء هذه الاشکال وتوظیفها لخدمة المفاهیم الدینیة، والثوریة والاجتماعیة الجدیدة. بینما رکزّ تیار الشعراء المستنیرین على القوالب الحدیثة محاولین صبّ أفکارهم التنویریة فی هذه القوالب الشعریة المنفتحة.
الشعر الحدیث من وجهة نظرهم هو الوسیلة الوحیدة للتعبیر عن الآراء والأفکار التقدمیة الجدیدة وحسب، هذا مع أن بعض شعراء هذا التیار کانوا قریبین من التقالید الشعریة والشعراء التقلیدیین، وراحوا یحلقوا بجناحی الحداثة و التقلید. کما أن شعراء الثورة الشباب نزعوا بشکل کامل نحو الحداثة الى جانب خوضهم فی القوالب والأسالیب التقلیدیة. ومع أنهم فی بدایاتهم هاجموا حداثویی الجیل السابق بشدة لمیولهم نحو الاعمال الشعریة الغامضة ، والمتشائمة ، والایروتیکیة، والمناهضة للدین والعلمانیة ، إلا أنهم اقتنعوا خلال السنوات اللاحقة بضرورة الانتفاع من التجارب والمکتسبات الفنیة لذلک الجیل، وراحوا فی مسیرة تشکیل هویتهم الاسلوبیة وخصائصهم اللغویة – التعبیریة یتأثرون ویتقلدون شعراء من قبیل : شاملو وأخوان وفرخ زاد وسبهری وآتشی و م. آزرم، ونادر بور ومشیری، و....
وفیما یلی نسلط الأضواء على الشعر الایرانی خلال هذه الفترة حسب أهم خصائصه وعناصره الفکریة :
الدعوة للثورة والتحرک ( إثارة العواطف العامة )
الشعراء فی هذه الفترة مارسوا ما یشبه الدور الاعلامی لخدمة الدفاع والمقاومة فی الحرب المفروضة، لذلک جاءت معظم قصائدهم ذات لهجة حادة وهیاجیة، وربما عادت بعض الأحیان الى وتیرة التأنی والتأمل، لکنها توخت عموماً تحفیز العواطف العامة للانضمام لقوافل المقاومة والبسالة والإیثار.
طرح الشعراء فی مثل هذه القصائد نمطین من العیش أحدهما العیش الایمانی الهادف والثانی العیش غیر الهادف والخالی من الهموم. داعین عواطف الجماهیر لاختیار النمط الافضل من العیش. وأکدوا أن أفضل أنماط الحیاة هو ذلک المتجلی فی الجهاد والاستشهاد والعوالم المعنویة الأخرى:
نحن السائرون خلف الأبطال ، ها نحن کما نحن
نحن آخر الأبطال إن کنا مشتتین أو مجتمعین
لم تبق من زهرة بید الربیع إلاّنا
لم یبق خلف الفرسان من أحد إلاّنا
أسرج براق الحوادث فلابد من العروج
لابد من الخروج لطلوع صبح جدید
لا تقل یائساً: یا أخی، أن للمساء لون حالک ...
أقسم بالفجر وأقسم: إن الصبح خلف الأبواب
( علی دامغانی)
إن لم یبق فی هذا الکفاح من طریق سوى الموت
ستسقط الرؤوس من أوج الشموخ فلا یبقى رأس.
یا نسائم العشاق المسافرة فی الغربة، قولی لغربان بستان الغفلة.
إذا حلّق نسر الغیرة فی الذرى فلن تبقى فی الغیوم أجنحة أو ریش.
کما تتساقط الخمرة من هذا الرحیق أقداحاً ، سیأتی ذلک الیوم الذی لا یبقى فیه دلیل للذهاب أقوى من الشهادة ...
(عبدالجبار کاکائی)
إقرأ باسم الوردة الحمراء فی صحاری اللیل
لتستیقظ وتثمر جمیع البساتین
إقرأ وإقرأ مرة أخرى، لتعود الحمائم البیضاء
مرة أخرى لأعشاشها الدامیة.
من سیقرأ إن کنت صامتاً ؟
من سیبقى إن ذهبتَ أنت ؟
من ینشد الأناشید لغرستنا الخالیة من الأوراق ؟
إقرأ باسم الوردة الحمراء وغنّ أنشودة الحبّ
أنشد نشید الحبّ بأیة لغة تجیدها.
(محمد رضا شفیعی کدکنی)
تصویر مشاهد الحرب الرهیبة:
طفق الشعراء فی هذه الفترة ومن أجل إثارة المشاعر العامة فی المجتمع وتوعیة أبناء الشعب بما کان یحدث فی السجون السیاسیة، وما حدث فی المظاهرات والمسیرات التی قام بها الناس فی الشوارع والأزقة، وما جرى بعد ذلک فی جبهات القتال والمدن المتضررة بالحرب، طفقوا یصورون مشاهد حماسیة مهولة للنضال والحرب ویضعون أمام أنظار قرائهم مشاهد حیة ومؤثرة للواقع الذی جرت فصوله فی الحرب المفروضة وما تخللته من جهاد ومقاومة، عسى أن یکون کل ذلک بمثابة الوثائق الدالة على مظلومیة شعبنا أو یحضّ شرائج المجتمع الغافیة واللاأبالیة على التحرک والحیاة ولو فی قرارات نفوسهم.
أنا أعلم بما فی قرارة الصدر
وبالبیوت الدامیة
وبقصة الدمیة المدماة
بانفجار المخ فی رأس صغیر
على وسادة مکتظة بالاحلام
أحلام طفولیة حلوة
بتلک اللیلة السوداء
تلک اللیلة التی انحنى فیها
رجل على ساقیة الشارع
یبحث بعینین حمراوین مذعورتین
عن یده الأخرى
صدقونی .. لقد شاهدت بعینی الساهمتین هاتین ..
طفلاً یرکض من الخوف مسرعاً
لکنه کان بلا رأس ...
(قیصر أمین بور)
الاشادت بالشهید والشهادة والایثار والتضحیة:
من أهم الموضوعات فی شعر المقاومة فی ایران المراثی وقصائد المدیح التی نظمها الشعراء تکریماً للشهداء والمعاقین والاسرى الأحرار وسائر المضحین فی الحرب المفروضة وما اقتضته من جهاد عصیب.
وواضح جداً أن الإشادة بالشهداء والشهادة یتضمن لوناً من الدعوة غیر المباشرة للمشارکة فی سوح المقاومة والفداء سواء کانت ظاهرة، أو خفیة. المناخ العام للمجتمع کان یسیر صوب تکریس ثقافة الاستشهاد، وشعراء الشهادة وکتابها کانوا فی الحقیقة العاملین والدعاة لهذه الثقافة وهذا النمط من التفکیر. ومن هذا المنطلق کان الاعتصام بالثقافة العاشورائیة وفکرة الانتظار والعناصر الدینیة عموماً الى جانب التراث الوطنی والاساطیری بمثابة مواد ممتازة لتطعیم أو تأسیس هذه الاعمال الشعریة. کما لم یغفل شعراء هذه المیادین والمفاهیم عن الثورات والحرکات المماثلة خارج الحدود کتلک التی جرت فصولها فی فلسطین، أو أفغانستان أو البوسنة.
جئت اللیلة لزیارة ضواحی هتافکَ
وشفاهی تعترف شامخة:
لولا حنجرتُکَ
لما أرتفع عقل هذه الحنجرة
الى مستوى الهتافات العالیة.
( حسن حسینی)
اذا قضى عاشق محب سقطت على الأرض شجرة سرو فی البستان
وازدادت میاه السواقی حمرةً.
لا تستهن بالتفاح الأحمر اللماع
فکل واحدة منه رأس مقطوع على مشانق الاغصان
انقطعت شآبیب المطر، لکن الدماء لا تزال
تقطر فی البستان من قبضة الصنار
أمطار الدماء والخناجر، قلتها وکانت مکرورةً
إلزم الصمت أیها الشاعر وأمطر بدل الحدیث عن الأمطار
( حسین منزوی)
المحکمة رسمیة
المتهم موجة صرخوا فیها : " توقفی " ...
ولم تتوقف
المتهم حمامةٌ
لم تطر عن قبة الصخرة
المتهم عصفور لا یجید العبریة
المتهم کل شاهدات القبور
المکتوب علیها: بسم الله
وکل الأمهات
اللاتی یحملن فی بطونهن أولاداً
فی أکفهم حجارة !
(علی رضا قزوة)
الإشادة بالملاحم والبطولات:
القصائد التی تتخذ من الاشادة بالملاحم والبطولات غرضاً لها هی الأخرى من الأرکان البارزة فی شعر المقاومة. یتحول رجال الحرب والجهاد فی مظهر قدسی الى نموذج " الانسان الأفضل " والعیش حیاةً إنسانیة. وهکذا یتحول الشاعر عبر الاحتفاء بالبطولات والملاحم التی سطرها المقاتلون لساناً شاکراً لرجولات الرجال وهتافاً داعیاً الغافلین والقاعدین الى ساحة الدماء والاخطار والایثار والتضحیات.
أکتب، أکتب، أکتب، أسطورة الصمود...
التاریخ بکل فصوله المشرقة شعرة من هذا الزمن
هذا الشجاع الشجاع .. هذا البطل المغوار
عظیم عظیم ایها الموت إن کنتَ حمایة للوطن
أکتب عن الذین قالوا: إما الموت، أو العزة
ساروا برجولة حتى الموت، أکتب أکتب: نعم أکتب
(سیمین بهبهانی)
ما من خفاش
یقتحم أرض الشمس
إلا وکان سئ العاقبة
إنه لساطع جداً
أنّ الشمس
إشراقة حتمیةٌ
فی هذه الضفة ..
ضفة البیوت التی لم یبق
منها بیت بلا شهید
( سلمان هراتی)
نزعة العرفان والحب العرفانی:
من السمات الأخرى للشعر المبدئی فی هذه الفترة نزعته العرفانیة التی شهدت طبعاً درجات متفاوتة من الضعف والقوة فی مسلسل هذا التیار. فالمناخ الدینی والمعنوی لجبهات القتال یفرز بشکل طبیعی ضرباً من روح الزهد والحب والعرفان لدى المقاتلین ولدى الشعراء الذین یتغنون ببطولاتهم. اعتبر شعراء هذه الفترة النزوع نحو العرفان ضرباً من الانبعاث المعنوی فی الشعر والشاعر، فرفعوا یافطات الحب العرفانی والمعنوی حیال قصائد الحب المکشوف والایروطیقی والرومانطیقی فی العقود التی سبقت انتصار الثورة. ولا یفوتنا أن نقول إن هذه الرؤیة العرفانیة التی اتخذت فی الغالب حبکة تقلیدیة ونادراً ما اتسمت بنسیج إبداعی، ارتبطت أحیاناً بالمنحى الملحمی، وبهذا نواجه نوعاً من العرفان الملحمی أو الملاحم العرفانیة فی بعض منجزات هذه الفترة.
ولابد أن نضیف هنا أن الشعراء لم یکونوا أحیاناً لیتعدوا فی فهمهم للشعر العرفانی حدود الالفاظ والمصطلحات العرفانیة:
لاح فی المرآة ثانیةً
بغیوم شعره المسافر فی الریح
ونشید " أنا الحق " الأحمر
لم یفارق شفاهه
ما الذی قرأته فی صلاة العشق
حتى بقیتَ على المشنقة سنیناً عدداً ؟
وهذه الشحنات الهرمة
لا تزال تتحاشى جثمانک
(محمد رضا شفیعی کدکنی)
الحسرات (إدانة الذات) :
من أبرز وأشمل المفاهیم والأغراض فی شعر المقاومة خلال هذه الفترة هو التعبیر عن الشعور بالحسرة والغبن أمام ما فاز به الشهداء والمجاهدون والمعاقون. یرى الشاعر بروح ملؤها الحزن أنه متخلف عن قافلة الحب والشهادة فیترک آلام طلبه للعافیة والسلامة وخلوه من الهموم لأدویة الملامة والمذّمة. وفی هذا الصراع مع الذات یطرح الشاعر على نحو غیر مباشر " صراعاً مع الآخر " فعندما یجد الشاعر نفسه متخلفاً بائساً سیخاطب جمیع المتخلفین عن رحلة الجهاد والشهادة ویوجه عتابه وخطابه لهم.
نحن الذین نصدر کل هذه الآهات
والأنین الکاذب من أجل الحب
لماذا نتحسر على إصدار
حسرة واحدةٍ
فی رثاء العشاق الکثار الکثار
الذین نثروا دماءهم من أجل الحب
دون حسرات ؟
(قیصر أمین بور)
توظیف الاساطیر الوطنیة والرموز الدینیة والعرفانیة:
من المؤشرات الأخرى فی أسلوب شعر المقاومة وبنیته التوظیف الواسع الذی اجترحه الشعراء للأساطیر والاشارات واللمحات والتنویهات الوطنیة والدینیة و العرفانیة. بسبب شیوع الثقافة الدینیة وتبعاً لها الروح العرفانیة فی بدایة الثورة وفترة الحرب المفروضة فقد انصب الحجم الاوفى من هذه الاشارات واللمحات على المفاهیم والمضامین الدینیة لا سیما ثقافة عاشوراء، والثقافة العلویة وما یتعلق بسائر الأئمة من أهل بیت النبی (ص). وجاء توظیف الاساطیر القومیة والوطنیة بالدرجة الثانیة رغم أن تحاشی النظرة الشوفینیة، والمیل للمنحى الدینی " الأمة الاسلامیة الواحدة " لم یجعل مثل هذه الاساطیر والنماذج رکناً رئیسیاً فی شعر المقاومة خلافاً للأدب الایرانی فی عصر الثورة الدستوریة وزمن رضا بهلوی.
کما تجاوز مفهوم " الوطن " فی شعر المقاومة الحدود الجغرافیة واستوعب مساحات العالم الاسلامی خصوصاً البلدان التی تعانی الجور وتخوض فصول الجهاد والنضال. وفی شعر هذه الفترة نادراً ما نواجه مفهوم الوطن بطابعه القومی الشدید باستثناء بعض أعمال الشعراء المستنیرین، ذلک أن الشعراء أطلوا على مفهوم الوطن من شرفات الدین والعقیدة لا من زوایا التراب والعرق.
کما یمکن ملاحظة أواصر التعایش بین الرؤیتین الدینیة والوطنیة فی قصائد تنتمی لهذه الفترة:
کما هو هابیل فی أرض القمح
کما المصطفى فی لیلة الإسراء
کما المرتضى فی فجر الفلاح
وکما الحسین فی دقائق السماع الحمراء
تخففنا وتخففنا
(عبدالرضا رضائی نیا)
وتشعُّ من بدر
وتصل من الکعبة
والکوفة طهران
التی تصلها لأول مرة
وتشهر " ذو الفقار"
وتختم " الظلم "
أنا بانتظارکَ دوماً
إیها العدل الموعود ...
(طاهرة صفار زادة)
الحرب والمقاومة لدى الشعراء المستنیرین :
خاض شعراء هذا التیار فی مضامین الثورة والمقاومة ولواحقها من منطلق مشاعرهم الوطنیة وبطابع وطنی وانسانی أحیاناً، وصوروا ویلات الحرب ومراراتها بنظرة تراجیدیة فراحوا یتعاطفون مع الضحایا وعوائل الشهداء والمشردین والمتضررین بالحرب، وبادروا أحیاناً لامتداح المدافعین عن الوطن وبطولاتهم.
نظرة هؤلاء الشعراء لقضیة الحرب والدفاع تعید الى الذهن نظرة الشعراء الغربیین للحربین العالمیتین الاولى والثانیة وما بعدهما، أی النفور من ظاهرة الحرب ومبارکة السلام والحریة والتعاطف مع الناس والضحایا والمتضررین من غول الحرب والدمار.
البیوت الخالیة
أطرٌ بلا صور
على جدار المدینة
على الرفوف المنفضة غبارها
الفانوس والمرآة مطفآن
الشبابیک النظیفة
نظرة فزاعةٍ
لحدیقة محترقة
ذهنیة القمح الیابسة
فارغة من الربیع
الامطار تتکسر على خدود الرمال
والبراعم تتسلق الأکیاس
کالحشرات الخضراء
ورعد الصواریخ
وبکاء النیروز المنطلق
فی إطار المدینة الفارغ
(فرشته ساری)
اکتسى شعر المقاومة فی ایران لبوساً قشیباً فی نهایة الثمانینات وانتهاء الحرب المفروضة.
واتجه الشعر الایرانی فی خاتمة هذا العقد ومطلع التسعینات فی طریقین رئیسیین:
شمل المنحى المبدئی – فی الغالب – الشعراء الثوریین الذین راحوا یواجهون الآن قضایا جدیدة منها میول المجتمع نحو الحداثة والنزعة الاستهلاکیة وانکماش القیم والاصالة التی سادت الفترة السابقة، والمفاسد الاجتماعیة والاقتصادیة، والصراع بین الفقر والغنى والخصومات السیاسیة و...
فرضت هذه التحدیات ردود أفعال مختلفة على معظم شعراء هذا الطیف، وأدخلت شعر المقاومة مناخاً جدیداً وجهه الغالب النزوع نحو " الأفق المعنوی الموعود " فی مقابل العیش فی " الأفق الموجود " .
کانت التسعینات خلفیة لأحداث جدیدة وتجارب مختلفة فی الشعر الایرانی نأمل أن نسلط علیها الأضواء فی العدد الآتی من مجلة " شیراز ".