قصیر أمین بور

فصل من کتاب ( الشعر والطفولة )

فصل من کتاب ( الشعر والطفولة )
ولو إفترضنا أن غایة الکلام هو التواصل مع بقیة البشر غیر أن هذا الأمر لا یصح دائماً مع الأطفال. یتعلم الطفل الکلام بین سن الثانیة والرابعة فی تلک المرحلة الأولیة أغلب الکلام هو من نوع ( الموجه الى النفس ) فهو لا ینتبه إن کان أحداً یعیر کلامه إنتباهاً أم لا .
سه‌شنبه ۲۶ اسفند ۱۳۹۹ - ۱۲:۰۶
کد خبر :  ۱۳۷۹۳۴

 

 

 

 

 

فصل من کتاب ( الشعر والطفولة )

 

 

قیصر أمین بور

تعریب: جمال کاظم

 

إن کنت قد أنصت الى أحادیث أطفال دون سن السابعة من العمر ، فستعرف حتماً أنهم یتمتعون بلغة خاصة بهم ، ویمکن أن تکون الکثیر من المفردات المستخدمة لدیهم مألوفة لدى الکبار، لکن مضامین أغلب تلک الکلمات لها فی آذانهم معنى آخر.

فالطفل لا یوجه کلامه للبشر فقط ، بل یتوجه به الى ألعابه ، الى الأشجار ، والى نفسه أیضاً، وحدیثه متواصل دون إنقطاع یتخلله قفزٌ من موضوع الى آخر.

للباحث الفرنسی ( بیاجیه ) دراسة حول لغة الطفل قام خلالها بمتابعة طفلین دون سن السادسة ولمدة شهر کان یراقب ویسجل الملاحظات حول کل ما یقولونه دون أن یشعرهم بوجوده وبعد تحلیل نتائج تلک التجربة توصل الى ان کلام الأطفال ینقسم الى نوعین   أساسیین :

  • کلام موجه الى نفسه ( شخصی )
  • کلام موجه الى الآخرین ( إجتماعی )

 

ولو إفترضنا أن غایة الکلام هو التواصل مع بقیة البشر غیر أن هذا الأمر لا یصح دائماً مع الأطفال. یتعلم الطفل الکلام بین سن الثانیة والرابعة فی تلک المرحلة الأولیة أغلب الکلام هو من نوع ( الموجه الى النفس ) فهو لا ینتبه إن کان أحداً یعیر کلامه إنتباهاً أم لا .

فعملیة الکلام بالنسبة له تعبّر عن تجربة تلقائیة حسیة – حرکیة ممتعة . یعید فیها ویکرر الأصوات والکلمات ، وعلى الأغلب یکون کلامهم من جانب واحد وطویل ویتناول مواضیع شتى. ولا یستهدف أحداً بذاته .

وقد سمّى ( بیاجیه ) هذا النوع من الکلام على غرار ما هو مشهور فی المسرح من إصطلاح أی ( المونولوج ) [1] . الکلام من طرف واحد. ما یسمى: بالتفکیر بصوت عالٍ [2] عند الکبار وهو یشبه کثیراً ماذکرناه عند الصغار ، الکلام من طرف واحد.

الکلام من طرف واحد وبشکل جماعی، هو أکثر الأشکال إجتماعیة للکلام الموجه للنفس ، یشمل الکلام من طرف واحد للأطفال فی وقت واحد ، ویشیر الى ان عدد من الأطفال یتکلمون مع بعضهم البعض دون أن یعیر أحدهم إنتباهاً لکلام الآخر ، أو أن یمنحه جواباً .

یقول بیاجیه:

الطفل تحت سن السابعة نادراً ما یحتاج الى علاقة واضحة مع الآخرین وبعدها تصبح لغته أکثر إجتماعیة ، ویسعى لأن یتواصل مع الآخرین من خلالها ، یرجو ، یأمر ، یهدد ، یُخبر ، یسأل . ویمکن القول أن الشخص الکبیر حتى وهو لوحده یفکر بطریقة إجتماعیة ، لکن الطفل دون سن السابعة حتى وهو وسط الآخرین یفکر بطریقة الکلام الموجه الى النفس .

غیر أن الطفل فی الکلام الاجتماعی یتبادل الأفکار مع الآخرین ویقول لسامعه شیئاً مثیراً أو یجلب إنتباهه . کذلک ینتقد ، ولا یتوقع من الذی وجه له الانتقاد أی رد فعل ، وغالباً ما یکون نقده عاطفیاً لایستند الى أی دلیل أو منطق ما.

إن أوامر ومطالب وتهدیدات الأطفال فی هذه المرحلة تعکس التأثیر المتبادل بین المتکلم والمستمع.

من الخصائص الأخرى للکلام الاجتماعی ، إن طرح الاسئلة والأجوبة والتی تبدأ من السن الثانیة أو الثالثة وفی السنة الرابعة والخامسة تأخذ شکل أسئلة لا نهایة لها. والعدید من الأطفال یطرحون أسئلة کثیرة غیر موجّهة لأحد ولا تنتظر جواباً من أحد.

وأحیاناً هم أنفسهم یقدّمون الإجابات عن أسئلتهم تلک ، وإجابات وتوضیحات الأطفال لا تعنی أحداً غیرهم . رغم أنهم لا زالوا لا یعرفون الکثیر من الأشیاء ، لکنهم یطلقون لخیالهم العنان فی نسج التوضیحات . ویمیلون لاستخدام کلمات مثل ( هو ) أو ( ذلک ) ، دون أن یقولوا إلى أی شىء یشیرون. ویکمن خلف میل الأطفال هذا ( نظرة ذاتیة ) ضامرة ، ویمیلون إلى تجاوز جوانب مهمة فی تطرقهم لقصة ما، أو إستعراض حوادثها بشکل غیر صحیح .

وأحیاناً یجمعون بین واقعتین لا علاقة مشترکة بینهما. وبعد أن یتجاوز الطفل حالة   (النظرة الذاتیة ) ، یبدأ من خلال _ الألعاب اللغویة _ [3] بالأصوات والأنغام وکذلک الألعاب التی ترافقها الأغنیات التی تساعده فی إنعطافة لابد منها فی الکلام ، وبعد فترة من التمرین على القافیة و ( الجناس ) وإطلاق مواضیع جذابة وممتعة ، یتمکن الطفل من توسیع ترسانة لغته.

وتدعى المرحلة التی یبدأ فیها الطفل الاستعانة باللغة الاجتماعیة، ( التفکیر الشهودی ) وهو من سن الرابعة حتى سن السابعة من العمر .

 

ویقسم بیاجیه الکلام فی هذه المرحلة الى ستة أنواع:

 

  1. متناغمة مع أعمال الآخرین .
  2. التعاون فی العمل.
  3. التعصب.
  4. الانطباعات الأولیة.
  5. التعاون فی التفکیر التجریدی.
  6. الانطباعات الفعلیة.[4]

 

للوهلة الأولى یبدو أن لا تشابه بین الشعر الذی یمثل أعلى وأعقد تجلی لتطور اللغة ولغة

الطفل ، والتی هی أکثر المراحل بدائیة لتشکل اللغة ، ولکن عندما نتفق على أن ( الشعر هو إنعطافة أو إنبعاث داخل اللغة ) [5] .

فاننا سنرى ان مثل هذه الوقائع لا یندر حدوثها فی لغة الطفل. وما نسعى إلیه من خلال إعطاء أمثلة معینة هو تسلیط الضوء على أوجه التشابه بین الشعر ولغة الطفولة.

وکما ذکرنا فرغم إستعانة الأطفال بنفس الکلمات من اللغة المشترکة إلا أنهم یقصدون منها معانی ومضامین مغایرة ، وهذا ما یتصرف به الشاعر مع اللغة :

                سأصهر الحرف والصوت والقول معاً

                لأهمس لک دون الحاجة لهم

                وعندما یخفق شراع الکلام ، تلوح الشواطىء

                وعندما سأقول لا ..، سیکون ذلک ملاذ إلا ...

                                                                       مولوی

 

الطفل لا یوجه کلامه إلى البشر فقط، بل لکل الأشیاء بما فیها نفسه . وإن دققنا فی الأمر سنرى أن أغلب الأشعار هی من نوع – طرف واحد – أی لا تخاطب أحداً بعینه وأغلب رسائل وشکاوى الشاعر موجه الى نفسه والآخرین ، منها على سبیل المثال :

مخاطبة الشاعر لنفسه وهو الأکثر شیوعاً فی القصائد الفارسیة ، فمثلاً نقرأ فی قصائد حافظ الشیرازی :

                                                         حافظ ، ضع کلمتک على سطح هذا العالم

                                                         هذا الأثر المتبقی عن قلمک ذکرى العمر

 

آه ... یا أنا ! یا أخی المخفی

                                      یدالله رؤیائی

 

کذلک الاسئلة والأجوبة المتواصلة للطفل والتی هی من خصائص الکلام الاجتماعی ، تذکر بصنعة السؤال والجواب فی الشعر. أسئلة الشاعر التی لا جواب لها ، والتی لا یعلم إلى من یوجه الشاعر أسئلته ، ومن أی شخص ینتظر الجواب . وأحیاناً تبدو تلک الأجوبة والایضاحات غیر منطقیة ، وعادة ما تأتی بشکل إنطباعات شخصیة :

قلت : مهموم فیک ، قال: همک لینتهی !

قلت إذن : کن قمری ، قال : وإذا ظهر

                                            حافظ

 

أول ما إلتقاه ، قال : من أین أنت ؟

أجاب : من بلد المحبة أنا

قال : وهناک ما یمتهنون ؟

أجاب : یشترون الهم و یمنحون الروح .....

                                            نظامی

 

لا أدری

لماذا یقولون ؛ الحصان حیوان نجیب

                        والطیر جمیل

ولماذا لا یوجد فی قفص أحد نسراً

                                          سهراب سبهری

 

فی قصیدة سبهری ( المسافر ) إذا أمعنا النظر فی العلاقة الشکلیة للأسئلة والأجوبة المطروحة ، فلا شیء أفضل من العودة الى بنیة الکلام الطفولی لیفصح لنا عن تلک الغرابة الشکلیة والانقطاع الظاهر الذی ینضح عن تلک الأشعار :

 

-أین إحتفال الخطوط ؟

- أنظر إلى التموج ، الى إنتشار جسدی !

- ومن أی مکان أصل الى السطح الکبیر ؟

- وأملأ إمتدادی إلى المساحة الرطبة من الکأس بسطوح العطش

- متى ستصبح الحیاة دقیقة کتحطم صحن زجاجی ؟

 

هنا لا نعرف من الذی یسأل ومن الذی یجیب . فبالاضافة إلى الغموض الذی یکتنف کل جملة على حدة ، هناک غموض وإنقطاع فی إرتباط تلک الکلمات مع بعضها البعض ، تماماً مثل کلام الأطفال الجماعی من طرف واحد وفی وقت واحد دون أن یصغوا إلى ما یقولون بعضهم لبعض أو أن یقوموا بالرد متقافزین من فکرة إلى أخرى دون أی علاقة منطقیة .

وأحیاناً وسط إحدى الجمل یطلقون موضوعاً ما. لکن فی شعر سهراب سبهری وبشکل عام فی کل قصیدة متکاملة یجب أن یکون عدم الترابط المشهود صلة عضویة راسخة.

هناک سؤال ملح یطرح نفسه ، لو إفترضنا أن الشعراء مثل الأطفال ، یتسم کلامهم بعدم الترابط وأحیاناً بلا معنى ، ماذا یحل بمفهوم ( الشکل والمضمون ) فی الشعر من حیث هو أثر فنی متناغم ومنسجم ؟

وهنا لا نقصد من کلامنا القول بأن الشاعر یساوی الطفل أو بالعکس. فلا غبار من أن الشاعر کشخصیة تحمل معها تجارب وخبرة أوسع بکثیر من الطفل ، ولا یستطیع ان یتخلى عن کل قدراته وإستعداداته تلک لیتحول مرة واحدة الى طفل.

کذلک الطفل لا یقدر دون إمکانات ومواهب وتجارب أن یتحول فجأة الى شاعر متمکن .

ومن أجل توضیح هذا الأمر ، علینا أن نقول أن العودة الى الطفولة فی الشعر تتجلى بصور مختلفة. وأحیاناً یکون بناء اللفظ وبناء المعنى طفولیاً .

أیضاً مثل مقاطع من قصیدة " حوریات " لشاملو :

أیتها الحوریات : أتشعرن بالجوع ؟

أیتها الحوریات : أتشعرن بالعطش ؟

ألا تحسبن حساب الذئب یأتی ویأکلکن ؟

ألا تحسبن حساب الغول یأتی ویلتهمکن مرة واحدة ؟

 

نجد هنا أیضاً أن الفکرة والنظرة ذاتیة واللغة والاسلوب طفولی. فهنا الأطفال یتصورون الحوریات مثلهم کائنات تجوع وتعطش وتخاف الغول ... الخ . ولیس خافیاً على أحد من أن خلف ذلک البناء الطفولی ، یقف عقل مجرب لشخص کبیر السن هو الشاعر مبدع ذلک النص.

وعلى کل حال فأن ما یهمنا هو الشعر باعتباره بناء مستقل ومنفصل عن شخص مبدعه . وشاملو نفسه فی ملاحظات دونها فی کتابه ( الهواء الجدید ) حول مقطع من هذه القصیدة وهو ( الحوریات المخططة ) تؤید وجهة النظر هذه حیث کتب :

( لقد إنجذب ابنی الصغیر بشدة الى الحوریات وخاصة الى الموسیقى المهیمنة على القصیدة  ... فکان یرسم على ألعابه عدة خطوط متخیلاً أنها قد أصبحت " حوریات مخططة " تلک العبارة التی إستخدمها قد أعجبتنی لذا إستعرتها منه ووضعتها مکان العبارة السابقة التی کنت قد وضعتها قبلاً [6] ، وأحیاناً تختفی بنیة المعنى الطفولیة خلف البنیة اللفظیة للکبار وبالعکس.

على سبیل المثال تلک الجمل البسیطة والطفولیة ( للحوریات المخططة ) نقارنها بواحدة من تلک الصور التجریدیة والمعقدة لقصیدة ( نشید الى ذلک الرجل المضىء الذی ذهب الى الظل ) .

                رجل مختصر

                        کان خلاصة

                                        نفسه

        إن إستطعنا من دمج هذین المفهومین لعمل اللغة فی مفهوم أوسع ، یجعلنا نتمکن من القول ان هذین التصویرین ورغم الفارق الکبیر بینهما من الناحیة الزمانیة والنوعیة فجذورهما تعود الى منهل مشترک. لکن عملیة التنقیب والوصول الى ذلک المنهل ، سیواجه بمقاومة شکل الجملة الثانیة فی الوقت الذی یشکل ذلک الحقیقة بذاتها، کما أشار إلیها شاملو نفسه حیث قال :

( عبارة " رجل مختصر " کان خلاصة نفسه ، قد إمتشق هیئة جدیدة بعد 18 عاماً من الصور البسیطة فی قصیدته : الحوریات المخططة ) . وأحیاناً یبدو الشکل الظاهری للشعر طفولی ، ولکن ما یقف وراءه من فکر ورؤیا ناضجة تجذب إنتباه القارىء ، وتبعد الشعر عن روح الطفولة ، فیصبح کالشکل الآتی من القصیدة ذاتها :

        حاقدون هم الأسرى

        یمتشقون مناجلهم

        قد دحرنا الظلم

        جعلنا الحریة قبلة لنا

        ومنذ أن نهض الشعب

        صارت الحیاة لنا.

                             أحمد شاملو

 

من المتفق علیه بأن أی قصیدة – أدرکنا ذلک أم لم ندرک – تحمل بین جوانحها الفکر والأحساس والتجربة والشاعر حتى لو عاد الى طفولته فأنه لیس بمقدوره تجاوز تلک التجربة والعمر الذی قطعه ، لذا فأن الشعر ولو جاء طفولیاً من ناحیة اللفظ والمعنى ، لکنه یتطلب القدرات المهنیة واللغة والموسیقى والفکر ... الخ لأجل أن یأخذ شکله المناسب وکل تلک المستلزمات هی من ثمار النضج والخبرة وهی أمور لا تصل الیها ید الطفولة .

ونحن نعرف " ان إستنتاج ناقص ، أو یتناول مفهوم السبب والنتیجة بشکل مقلوب ویفکر بشکل غیر مترابط " [7] ، غیر أن الشاعر یدرک العلاقة السببیة للأشیاء بحس ووعی نافذ ، حتى وإن کان هذا التدخل الواعی عفویاً ! وفی هذا الجانب ینبغی القول عندما نشیر الى أن البناء اللفظی أو المعنى الظاهر غیر مترابط فأن ذلک لا یعنی إنعدام الانسجام ، بل سیعنی أنه لن یکون أثراً فنیاً کاملاً ولن یصل بنا الى غایته المرجوة ، لکن إذا ظهر علیه النقص وهو فی ذروة کماله ، فذلک هو المطلوب أی یشوبه الارتباک وعدم الترابط فی الظاهر وهو فی قمة التناغم .

 

وکما قال بیدل الدهلوی :

 

        لا یملک الوصل شیئاً عن الانفصال

        الى ان نکتشف ذاتنا ،مشاعرنا غریبة

 

یعنی ( مئة صحراء من الجنون فی ذلک الجانب من حکمتی ) و

( طریقة هندامی بعیدة عن الحالة المألوفة )

وفی نفس الوقت ( بکل جماح الجنون فی قفص إدراکی )

فی وعی الکبار هذا یکمن معنى ضامر للشعر فی أعماق المکنونات الظاهرة والمستترة ، ویمکن القول : فی مکان أعمق من العمق .

أما بالنسبة لموضوعنا الأساسی ، والذی کان حول طریقة تفکیر الطفل ، کما أسلفنا فأن کلام الطفل هو من نمط الکلام الموجه الى النفس والطفل لا یعیر إهتماماً لنظرة المخاطب له ، وأحیاناً لا یمتلک القدرة على إدراک العلاقة السببیة للأشیاء .

وقد سأل بیاجیه الأطفال عن معنى کلمة ( لأن ) فی هذه الجملة : ( غداً لن أذهب الى المدرسة لأنی مریض ) . فأجاب أغلب الأطفال بأن ذلک یعنی : ( مریض ) ، کذلک الطفل غیر قادر على وضع نهایة صحیحة للجملة کما فی المثال التالی:

( سقط الرجل عن دراجته الهوائیة لأن ... ) أجاب أغلب الأطفال وبعیداً عن السبب :        ( لأن یده کسرت ! ) [8] .

فالطفل لا یمتلک القدرة على إدراک العلاقة السببیة ، بل یستطیع فقط ترتیب الحوادث دون إدراک علاقاتها الداخلیة ویقوم بترتیبها بشکل عشوائی، وهذه العشوائیة یمکن مشاهدتها فی مجالات أخرى مثل الرسم . فعندما یرسم الطفل دراجة هوائیة ، یرسم العدید من أجزائها دون أن یأخذ مسألة التناسق بین الأجزاء بنظر الاعتبار .[9]

تقول بنت بیاجیه : لأن تفکیری کان سیئاً تجاه أخی ، فقد مرض ، أو : إن أزحنا الأشجار ، ستتوقف الریح . [10]

 

إذ یعدو الجواد ، وخصلات شعره تمشط الریح

                                                    سیمین بهبهانی

 

لقد نادیتنی سهواً

وصار الوقت شتاء

عندما قلنا إسمک للمرآة عصراً

حل النوروز

لو کانت الجیاد بیضاء

لوصلت العربة الى الصباح

ولتعرفنا على أصواتنا من بعید

وکان الهم لهذا الیوم کافٍ

                             أحمد رضا أحمدی

 

عندما مات أبی ،کانت السماء زرقاء

وقطعت أمی نومها دون أن تدری ، أختی أصبحت جمیلة

عندما مات أبی ، کان الحراس جمیعاً شعراء

 

سألنی البقال :کم من البطیخ ترید ؟

وأنا سألته : کم سعر الغرام من الفرح ؟

أنا جئت الى الأرض ، وصرت عبداً

وأنت ذهبت الى الأعلى وصرت الهاً

                                       سهراب سبهری

 

 

" یقع الطفل عند سماعه الکلمات ، تحت تأثیر تداعیات حرة فی التفکیر ، یحاول أن یقابلها بأشیاء بعد أن یفصلها عن بعضها البعض ، وهذا ما یسمیه الکبار بعدم الترابط وإنعدام الأساس " .

        والخیال الشاعری ینحصر عمله فی هذا الأمر بالذات . وبالذات أولئک الشعراء الذین یرجعون فی تجربتهم الى تلک التداعیات الحرة ( لفظاً أو معنى ... أو ) . کذلک حال البعض من أتباع أدب الروایة الحدیثة . وکما ذکرنا فأن المشهد یکتنز الکثیر مما هو مستتر وفی غیر القلیل من الحالات یصعب کشف تلک الشبکة الدقیقة من العلاقات الداخلیة، ولا یمکننا أن نعثر علیها حتى فی نطاق أشکال العلاقات المجازیة أو أوجه التشابه وحتى أسباب التداعی فی علم النفس ( المجاورة ، التشابه ، التضاد ) .

وهنا یتطلب الاشارة الى أن هذا الاسلوب فی تناول الشعر لا یستهدف ولا یراد منه أن یبرر لبعض الشعراء ما نضح عنهم من أقوال غیر مترابطة ، ولا شأن لنا بکمیة الشعر ونوعیته بل أن هذا البحث یحاول أن یبدو بشکل نقص للوهلة الأولى ، وعلى سبیل المثال فأن بإمکان الکثیر من أشعار فروغ فرخ زاد وسهراب سبهری وآخرین من مساعدتنا فی الاطاحة بذلک القناع.

 

رفاق شیخوخته یتهامسون

فی حدائق لندن بعبارة جدیدة

أفضل رفاق طفولتی کانت بنت الجیران

وقد ماتت فی السابعة من عمرها

کان اسمها ( تاجی ) وهو اسم شائع کما ( تیتا ) فی بوخارست

 

کنت أبحث عن حذاء أزرق

الاسکافی جاءنی ببنی وباعنی أخضر

فی النوروز یجب إمتلاک حذاء جدید

فی النوروز هطل ثلج غریب

                                     طاهرة صفار زادة

 

 

ذات یوم جاءت الشمس الى بیتنا

منحت بنت عمی الشمس أغنیة

منحت أمی الشمس حلیباً

کبرت الشمس

                            أحمد رضا أحمدی

 

 

وکما سبق أن ذکرنا فأن الطفل بفعل النظرة الذاتیة التی تطبعه بطابعها یستخدم کلمات مثل    ( هو) و ( ذاک ) دون تشخیص ما یشیر إلیه ، ویتجاوز فصولاً من القصة ولا یراعی ( تسلسل الأحداث )

لذلک فأن بعضاً من الغموض الشاعری هو تلک النظرة الذاتیة الطفولیة . ولکن الشاعر مندغم بالأحداث ، لذلک نراه یبدأ الشعر والسرد دون مقدمات . وأحیاناً فی قسم ما من القصیدة یشیر الى أمر ما بلا تمهید ودون أی إرتباط بالأقسام الأخرى :

        من أین أتیت أنا ؟

        قلت لأمی : ( ها قد إنتهى )

        قلت : ( دائماً ، تأتی الواقعة قبل أن تتوقعها ، علیک إرسال تعزیة الى الصحیفة )

        سلام أیتها العزلة الغریبة !

                                            فروغ فرخ زاد

 

        أو أشعاراً تبدأ هکذا :

                وتنهمر الأسواط

                ومرة أخرى لم تأتی بمأثرة

                                             شفیعی کدکنی

 

        لکنک لا تدری أیة أمسیات سهرتها حتى الصباح

                                              إخوان ثالث

        هذه أنا إمرأة وحیدة

                                              فروغ

 

 ولأننی فی السماء نسجت

                رسالة رحلتی

                من خیوط الشمس

                                             یدالله رؤیائی

 

من المظاهر الأخرى للغة الطفولة ، إستخدام الأفعال القیاسیة ، کون الطفل یتعلم من خلال التقلید عبر بعض القواعد المحدودة التی یتلقفها من هنا وهناک لیستخدم أفعالاً قیاسیة أخرى، مثلاً الطفل بین سن الرابعة والخامسة بدل أن یقول ( مشى مشیت ) یقول ( نام نمیت)  وغیر ذلک من الأخطاء الأخرى التی یقع فیها الطفل عند إستخدامه اللغة وهذا یعید للأذهان تلک الانحرافات عن القواعد والأسالیب اللغویة فی الشعر :

                أنا فی صوت تفتحه

                کنت أموت لحظة بعد أخرى

                                               سهراب سبهری

 

                أنت تنبثق جمیلاً

                نحن لا زلنا نسعى

                مساءاً ونهاراً والأناً

                والأناً

                                                 شاملو

 

إستغرقت بالموت

                حتى لا یتمکن أی شىء من

                إثبات موتی

                                               فروغ فرخ زاد

 

                من هاجس العبور فی الـى العزلة

                أمر فـی من خلال قلبک

                وسأعثر مـع السفر فی سواد عینیک جمیل

                                             ید الله رؤیائی

 

                اللیل المتخم بمزامیرک العظمیة

                على الشفاه للموت

                                              محمد حقوقی

 

                لا شىء غیر بیاض الجواد بکیتُ

                                             أحمد رضا أحمدی

 

 

وکما هو معروف فان العدید من اللغویین یمیزون بین نوع الإشکالات والانحرافات ، بین تلک التی ترشح عن إنعدام المهارة والقدرة وتلک التی هی نتاج تجربة فنیة ومهارة عالیة وعلى هذا الأساس وضعوا معاییر خاصة للفصل بینهما ، وهذا الأمر لیس من إختصاص بحثنا الحالی .

کما أسلفنا فبعد أن یتجاوز الطفل مرحلة الکلام الأولی ینتقل الى مرحلة الولوج فی الألعاب اللغویة ، حیث یتعرف على القافیة والجناس ... وفی الشعر یتجلى هذا التلاعب اللغوی بأنواع مختلفة من الصناعة اللفظیة کالقافیة والجناس والموسیقى الداخلیة ، تکرار الصوامت والأصوات الخاصة والموسیقى المحضة مثل تکرار الأصوات والمهملات ... الخ . مثل تلک التی یرددها الأطفال.

یستخدم الطفل مقطع صوتی عوضاً عن الأسماء الفعلیة للحیوانات والأشیاء ، فیقول کلمات ألفاظها تشبه أصوات الحیوانات أو الأشیاء بدیلاً عن أسماءها الفعلیة :

إسم الأصوات هی کلمات شفافة تتراءى معانیها من خلف ستار الکلمات ، والشعراء یستخدمون ذلک لأجل ترسیخ الأثر العاطفی لأشعارهم مثل :

        من قلب جیش أردشیر تأتی

        صلصلة السیوف وزخات السهام

                                                الفردوسی

 

من الخصائص الأخرى للغة الأطفال هی إعتقادهم بـ ( مادیة الکلمات ) وإن ( اسم أی شىء هو جزء من ذلک الشىء ) ، فإسم الأشیاء بالنسبة لهم هو حقیقة واقعة.

مثلاً : طفل إسمه حسن فی الصف الأول الابتدائی یتعرف على طالب آخر فی الصف یدعى حسن أیضاً . حسن الثانی یتصف بالهدوء والخجل . فی الیوم التالی یصبح حسن الأول خجولاً . فالاسم حقیقة واقعة وعلى هذا الأساس فان تشابه الاسم سیجعلهم مثل بعض .[11]

فی تجارب الطفل الأولیة لتعلم اللغة ، تکون الکلمة والشىء متلازمتان ویشکلان نتیجة واحدة فی نظره ، لذلک فان الکلمة هی جزء من الشیء ، والشیء جزء من الکلمة ، فالطفل یحتاج الى وقت طویل لکی یتمکن بشکل کامل من تفکیک الکلمة عن مدلولها .[12]

        یا الهی الذی لا مثیل له

        الجسم کالاسم ، فأجعله مشعاً

                                               سنائی

 

        شمس تبریزی أنت الشمس وسط غیوم الکلام

        ولأن شمسک سطعت تبخرت الأقوال

 

        لأننا کتبنا إسمه على التراب

        کل ذرة من التراب صارت حوراً وحوراء

                                              مولوی

 

        کالفجر إسمک یخترق جبین السماء

                                             شاملو

 

        الکلمة یجب أن تکون الریح

        على الکلمة أن تکون هی المطر

 

        وهل تذکر الجواد ....

        کان أبیضاً

        شفافاً کالکلمة

        یمضغ صمت المروج الخضراء

 

        داخل کلمة الصباح

        سیصیر الصباح

        صارت أحذیتی رطبة من لفظ الندى

                                            سهراب سبهری

 

        فی ذات اللحظة التی تمکن فیها الأطفال

        من کتابة کلمة ( حجر ) على السبورة

        هجرت الطیور بسرعة الشجرة الهرمة

                                          فروغ فرخزاد

 

        یقول الطائر : یجب کتابة الشجرة بالأخضر

        حتى أتمنى الطیران

        کتبتُ مطر ، أمطرت

                                           أحمد رضا أحمدی

 

        کتبوا إسمک على التراب

        نزف التراب

                                             ضیاء موحد

       

        جمیع الموتى إسمهم یحیى .
                                            محمد علی سبانلو

 

وکما ذکرنا فان الکلمة بالنسبة للطفل جزء لا یتجزأ من الشىء الذی تدل علیه ، وکلنا نعرف تلک الحکایة القدیمة عن ذلک القروی البسیط الذی قال:
لیس عجیباً بالنسبة لی أن یتمکن العلماء وعبر کل تلک الأجهزة التی بحوزتهم من قیاس حجم الکواکب وحرکتها ، لکن ما یحیرنی ویشغل بالی هو :

کیف تسنى لهم معرفة أسمائها.

الاختبارات البسیطة تثبت ، ان الأطفال فی مرحلة ما قبل الدراسة الابتدائیة ، یعرفون الأشیاء من خلال صفاتها. فهم یسمون الحیوان ثوراً بسبب من إمتلاکه لقرون.

والعجل یسمى کذلک لأن قرونه صغیرة، أما الکلب فیسمى کلباً لکونه صغیر ولا یملک قروناً [13]

هناک نقطة أخرى ( ان الطفل لا یستخدم الکلمات بنفس المعنى والمفهوم الذی یستعمله الکبار مثلاً جاکلین الطفلة البالغة من العمر سنتین وسبعة أشهر عندما ترى – لوسین – فی لباس جدید مع طاقیة ، تسأل عن إسم هذه الفتاة ؟

وعندما تعود – لوسین – الى إرتداء لباسها المعتاد , تقول جاکلین بجدیة : ها قد عادت لوسین ثانیة ! فالطفل فی هذه السن لا یقدر على التمییز فی ان الفرد أو الشىء یبقى هو ذاته رغم حدوث بعض التغییرات المحدودة علیه [14].

فی قسم من إختباراته برهن بیاجیه على ان الطفل لا یتعرف على ذات الأشیاء عندما تکون فی هیئات مختلفة ، وغالباً ما یعتمد منظوره الخاص للأشیاء.

الا تؤدی مثل هذه التعابیر عن الشعراء نفس ذلک الدور ؟

        مدینة غزنین لیس کما رأیتها العام الماضی

        ما الذی حدث لتتغیر هکذا هذا العام ؟

        أهی الکتائب ذاتها التی رأیتها بالأمس ؟

        وهذه ذات المدینة والأرض التی رأیتها ؟

                                                       فرخی سیستانی

 

للوهلة الأولى یمکن أن یتساءل البعض عن علاقة هذه الأشعار بلحنها وبیانها الفخم الممیز بلغة الأطفال الصغار ؟

وإن عثرنا على شىء هنا ، فلا شىء غیر مبالغة الشاعر فی عمله ولکن وکما قلنا مراراً فلسنا بصدد ظاهر الأشعار ، حتى لو إتفقنا ان لا شىء فی هذه الأشعار غیر المبالغة التی تجعل الشاعر لا یتعرف أو یتجاهل ذلک الشىء الذی طرأ علیه تغییر ما ولکن فی عمق تلک المبالغة نتحسن نکهة الطفولة ولعبها رغم ظاهر الشکل الذی لا یوحی بذلک.

 

 

المصادر:

[1] monologue

[2] Thinking aloud

[3] linguisticplays

[4] تم الاستعانة بکتاب : کیف یفکر الطفل.

[5] محمد رضا شفیعی کدکنی : موسیقى الشعر ( بالفارسیة ) – الطبعة الثانیة – طهران 1989 . ص3.

[6] أحمد شاملو ، الهواء الجدید ـ الطبعة الخامسة ( طهران : 1976 ) ص356 .

[7] هربرت جینز برغ وسیلویاأدبر ( التطور العقلی للطفل من وجهة نظر بیاجیه ) ترجمة فریدون حقیقی وفریدة شریفی ، طهران 1992 ، ص 175.

[8] ل . س . ویکوتسکی ، علم نفس الخیال والبیان ، ترجمة أحمد صبوری / طهران : دار نشر توین 1982 / ص126.

[9] هربرت جینزبرغ وسیلوما أوبر، عقلانیة الطفل من وجهة نظر بیاجیه ، ص176.

[10] حسن أحمد ، شکوه السادات بنی جمالی ، تطور علم النفس ( طهران ، نشر بنیاد 1987 ص 95 ).

[11] حسن احمدی وشکوه السادات بنی جمالی ( علم نفس التطور ) ص 94.

[12] هربرت جیز برغ وسیلویا اوبر_ التطور العقلی للطفل من وجهة نظر بیاجیه ص 147.

[13] ل . س . ویکوتسکی ، علم نفس الخیال والبیان ص 176.

[14] هربرت جینز برغ وسیلویا اوبرا ، التطور العقلی للطفل من وجهة نظر بیاجیه ، ص 138.

ارسال نظر