" الشتاء فی الآداب العالمیة "
دراسة مقارنة
الدکتور: عباس العباسی الطائی
للشتاء سهم فی الأدب کما لسائر الفصول. وقد تناول الشعراء الشتاء بأشعارهم کلّ على شاکلته ووفقاً لبیئته، فمنهم من أعطاه وصفاً حسیاً فوصفَ ثلجه وجلیده وبرده وصقیعه وأعاصیره کبعض کبار الشعراء الایرانیین فی الأدب الفارسی القدیم، أمثال:
الرودکی والفردوسی والمنوجهرى ومسعود سعد السلمان وهکذا کمال الدین اسماعیل الذی وصف الثلج بقصیدة جعل ردیفها [1] کلمة برف
أما فی الشعر الفارسی الحدیث، فقد تناول الشعراء "الشتاء" بأسالیب رمزیة، ومن بینهم الشعراء إخترنا "أخوان ثالث" وقارناه بالشاعر الانکلیزی سوینبرن والشاعر ة العراقیة نازک الملائکة.
أولاً: "سوینبرن":
هو الشاعر الانکلیزی المعروف ( 1837 – 1909 )؛ وله قصیدة شهیرة بعنوان "بسـتان بروسـرباین"، کتـب عنهـا النقـاد ومنهـم: "ت.س- الیـوت" و "أولیور إلتن". و "بروسرباین" فی الأساطیر الرومیة، اسم لابنة "زیوس" و "دمیتر" اله الزرع، وقد خطف "هادس" اله الحکم على ما تحت الأرض، "بروسرباین" وتزوجها، لکن دمیتر، أعادها، وتمَّ الاتفاق على أن تعیش بروسرباین فصلی الربیع والصیف على وجه الأرض، وتبقى فی الخریف والشتاء تحت الأرض. وکان ذلک رمزاً للإنبات والنمو والجدب والجفاف.
وفی هذه القصیدة إشارات الى هذه الأسطورة التی یرمز بها الشاعر سوینبرن الى الجمود والاحتقان فی عصر حکم "البیوریتان" الجائر، یقول فیها:
" لقد سئمت من الدمع والضحک
من أناس یضحکون ویبکون
ومما قد یحدث بعد ذلک
ومن أجل أناس یزرعون ویحصدون
ومن الأیام والساعات
ومن الورود العقیمة وأزاهیرها الذابلة
ومن الآمال والأحلام، والقوى الجبارة
ومن کل شیءٍ سوى النوم " [2]
ویرى الناقد "ألیور إلتن" أنَّ فی هذا الشعر سحاباً من "الموت والصمت". ففی شعر سـوینبرن، "الریـاح السـاکنة" و "الأمواج المیتة" و "الأزهـار الذابلـة الممزقـة" و"الورود العقیمة" و "المزارع الجافة" و "السـنین المنصرمة" و "المصائب الخطیـرة" و "الأحلام المیتة" و "أزهـار مجمـدة تحت الثلـوج لم تتفتح" و "الأجنحـة المتعبة" و"نومٌ أبدی".
کما یصور الموت "إمرأة مصفرة اللون على رأسها تاج من الأوراق الذابلة الجامدة، تجمع کلّ ما هو فان ٍ بیدیها الباردتین الخالدتین، وهی تنتطر الجمیع" [3].
فشعر سوینبرن نموذج للشعر المعبر عن أحوال عصره من خلال أسطورة ٍ قدیمة ٍ، أضفى على عناصرها تصاویر حیة.
أما الیونان فإنهم یُصورون الفصول الأربعة على شکل نساء، والشتاء تمثله لدیهم إمرأة عاریة الرأس واقفة الى جانب أشجار عاریة من الأوراق [4].
ونحن لا نشک فی أن الشاعرین الآخرین قد عثرا على قصیدة " بستان بروسرباین " لسوینبرن". وإن راودنا بعض الشک فی حصول أخوان ثالث علیها، فلا نشک فی حصول نازک الملائکة على هذه القصیدة على الاطلاق، لأنَّ نازک قد إتصلت بالأدب الانکلیزی وعاشت فی تلک الدیار لفترة طویلة.
أما عن إتصال الشعر المعاصر العربی والشعر المعاصر الفارسی فقد تحدثنا عن أسباب هذا الاتصال وتزامن الأحداث التی ساهمت فی التطورات المتشابهة على الأدبین العربی والفارسی وبالتالی قاربت بین الأدبین کما کانا من قبل على اتصال وثیق طیلة العصر الاسلامی حتى القرن العشرین. فلیس عجیباً أن یکون اخوان ثالث قد عثر على بعض مؤلفات نازک الملائکة وهی رائدة الشعر الحر – على حدّ تعبیرها – ولها آراء فی ذلک، ولا نستبعد أن تکون قصیدة "أغنیة لشمس الشتاء" مما وقع فی ید الشاعر الفارسی اخوان ثالث.
ولنفترض أنَّ اخوان لم یعثر على شعر نازک، فیکفینا أن نقتنع بأن الشاعرین اخوان ونازک استقیا بعض مفاهیم قصیدتیهما من قصیدة "سوینبرن" لأن المشابهات لم تترک لنا أیّ تردید فی ذلک.
قصیدة " أغنیة لشمس الشتاء ":
الدکتورة نازک الملائکة: ولدت ببغداد 1923، فی عائلة عرفت بالشعر والأدب. عملت فی التدریس بعد تخرجها من دار المعلمین العلیا. ثم سافرت الى الولایات المتحدة، ثم عادت الى العراق ثم الى الکویت فعملت فی التدریس. وبعد مرض عضال طال أکثر من 20 سنة توفیت فی القاهرة فی الشهر السادس من عام 2007.
لها مجموعة دواوین، هی "عاشقة اللیل" و "شظایا ورماد" و "قرارة الموجة" و "شجرة القمر" و "یغیر ألوانه البحر".
ولها دراسات نقدیة وبحوث أدبیة أهمها " قضایا الشعر المعاصر " وتعتبر نازک الملائکة من الرواد الأوائل لحرکة الشعر الحر [5].
ویبدو أنَّ الشاعرة نازک فی قصیدتها "أغنیة لشمس الشتاء" قد استبدلت فکرة تصویر الشتاء بامرأة فی الأسطورة الیونانیة، وفکرة تصویر الشمس بامرأة شقراء جمیلة ذات جدائل شقر وشفتین ملتهبتین، لأن الشتاء فی العربیة لا یجوز وصفه بالمرأة وکذلک الموت، وراحت تخاطبها وتستعین بها على الشتاء الذی أبقت صفاته التی جاءت فی الأثرین السابقین وهی، البرد، والثلج والجلید، والجمود، وموت الأزهار الذی لا شک أنه یرمز الى موت الانسان. تقول نازک الملائکة:
الى شمس الشتاء
أشیعی الحرارةَ والرفقَ فی لمساتِ الریاحْ
ولفّی جدائلکِ الشُقْرَ حـولَ الفِجاج الفساحْ
وهـذا التحرّق فی شـفتیکِ أریقـی لظاهْ
على طبقات الثلـوج الکثیفةِ فـوق المیاهْ
أذیبی بها قطراتِ الجلیدْ
عن العُشبِ عن زهرةٍ لا تریدْ
فراق الحیاه
فما زال فیها رحیقٌ تخبّئُهُ للصباحْ [6]
وقد وجدنا بعض المعانی والمفاهیم فی قصیدة سـوینبرن لا تبتعـد عن معانی نازک، نحـو: "أزهار لم تتفتح" و "أزهار مجمدة تحت الثلوج" و "الأزهار الذابلة" و "المزارع الجافة" ومن قصیدة نازک:
ولولاکِ یاشمس مات النشید المروجْ
وجف رحیق الشذى تحت برد الشتاء اللجوجْ
ولـولاک ما کان أخشـن مـسَّ الفضاء الرهیبْ !
ومن ذا یذیب
بریـقَ الحـرارة فـی ســروة جمدتهـا الثلـوج؟ [7]
والشاعرة نازک لا تقلُّ رمزیة عن الشاعر الانکلیزی سوینبرن الذی عبَّر عن الاحتقان والاختناق "بالریاح الساکنة "و"الأمواج المیتة "، فقد عبرت نازک عن ذلک " بموت النشید ".
و " کثرة المصائب وخطورتها " عند سوینبرن، تقابلها نازک "بالفضاء الرهیب". و "الأحلام المیتة" فی قصیدة سوینبرن، جاءت فی قصیدة نازک بعنوان "سـروة جمدتها الثلـوج" و
"موت للأحلام" فی شعر سوینبرن، جاء فی شعر نازک بمعنى "زهرة لا ترید فراق الحیاة، فما زال فیها رحیق تخبئه للصباح" ومعان أخرى فی القصیدتین لا تبتعد عن بعضها.
قصیدة "الشتاء":
مهدی اخوان ثالث ( 1928 – 1990 ) بدأ کتابة الشعر القدیم، وکان مولعاً بالأدب الفارسی القدیم، وسرعان ما اعتنق الاسلوب الحر المعروف بالمدرسة النیمائیة التی وضعها الشاعر الایرانی المبدع نیما یوشیج، وقد ظهر هذا الولاء بدیوانه المسمى " الشتاء " الذی ظهر سنة 1956 م.
ومن آثار اخوان، آخر الشاهنامه، والکلاب والذئاب، وقصة اللیل، والتقریر، والمنادی، ومن أبرز خصائص شعر اخوان، تعلقه بالأساطیر، والثقافة الفارسیة القدیمة، وهو متأثر بشاهنامه.. الشاعر الملحمی الایرانی الفردوسی. ولاخوان مساهمة جادة فی ترسیخ مدرسة نیما الشعریة الحدیثة.
اما شعر "زمستان" الذی نشره اخوان عام 1956م، فیتشابه مع شعر سوینبرن فی التعبیر عن المعانات من الاضطهاد وتعسف الحکم الجائر، وسرعان مالاقت القصیدة الاستقبال الحاشد من جمیع طبقات القراء الایرانین. وهذه مقاطع من القصیدة:
الشتاء
"لا أحد یردّ السلام علیک
فالکل واضع رأسه فی جیبه
ولیس من یُفکر حتى بزیارة أحبائه
فالناس لا ینظرون الى أکثر من تحت أقدامهم والطریق مظلم وخطیر
أخرج یده من تحت ابطه مکرهاً، کی یصافحه، فالبرد قارصٌ جداً "
ان قصیدتی سوینبرن واخوان، تحکیان عن الکبت والضیق من الضغوط السیاسیة، أما قصیدة نازک فهی أیضاً ناتجة عن الأوضاع السیاسیة فی العهد الملکی فی العراق وما کان یعانیه الشعب العراقی آنذاک.
اذن فالقصائد الثلاث ناتجة عن أوضاع سیاسیة متشابهة مما جعل الشعراء الثلاثة... ینطلقون من قواعد متشابهة، فجاءت عناصر قصائدهم متشابهة والرموز فیها متقاربة أیضاً. والظالم رمزوا عنه بالشتاء ورمزوا عن الظلم والکبت والاحتقان بالبرد والجلید والثلج والانجماد.
فی قصیدة الشتاء:
فالنفس الخارج من الصدر
یتحول الى سحابة سوداء
ثم تتجمد کالجدار أمام عینیک
فاذا کان النَفَس هکذا، فماذا تنتظر
من الاصدقاء والاقارب والأباعد ؟!
والتعبیر عن الاحتقان السیاسی والاجتماعی بالانجماد والثلج والجلید، من أکثر العناصر ظهوراً فی فی هذه القصائد. والوصف ظاهر والتشبیه یکاد یکون من النوع التقلیدی المعهود. واذا کانت نازک الملائکة تستعین بالشمس الباهتة اللون فاخوان یستعین بالمسیح، لکنَّ مسیح اخوان شیخٌ عجوز ضعیف رثُّ الثیاب یقول اخوان:
" أیها المسیح یا صاحب المروءة،
أیها النصرانی یارثّ الثیاب إنَّ الجوّ باردٌ وقاس جداً
فلتزدد أنفاسه حرارة ولتطب نفساً
أجب سلامی وافتح الباب
فإنی ضیفه المغرم "
"فالحزن" المشترک عند هؤلاء الشعراء الثلاثة ظاهر لا یحتاج الى عناء فی التفکیر للوصول الیه، یقول سوینبرن:
"إنی سئمت الأیام والساعات"
واخوان ثالث یقول:
"تعال وافتح الباب فانی حزین"
ونازک تعبر عن الحزن بالبرودة فتقول:
"یحیل البرودة فیه الى دفء حبِّ جدید"
و "الشمس" فی قصیدة نازک:
امرأة شقراء لکنها "شمس شتاء" وشمس الشتاء ضئیلة الحرارة، والشمس فی قصیدة اخوان "متواریة فی تابوت الظلام" ویعبر عنها "بُثریا الفلک" یقول اخوان:
"یاندیمی، ها أنا ضیف السنین والشهور
أنا خلف الباب أهتزُّ من البرد وفی جسمی رعدة
وهذه الأصوات ما هی إلاّ معرکة البرد والاسنان
وثریا الفلک – لا أدری – هل میتة أم حیة
فهی متواریة فی تابوت الظلام المطبق"
وعند سوینبرن "أجنحتها متعبة" وهی "فی نوم عمیق دائم". و "الموت فی شعر سوینبرن" و "امرأة مصفرة اللون" وفی الاسطورة الیونانیة "امرأة عاریة الرأس" وعند نازک، الموت هو الانجماد، هو "طبقات الثلوج فوق زهرة لا ترید فراق الحیاة" وعند اخوان الموت، موت القلوب هو البرد والانجماد أیضاً، إذ یقول:
"الجو مکتظ، والأبواب موصدة
والأنفاس سحابٌ والقلوب متعبة وحزینة
وقلب الأرض میت، وسقف السماء قصیر
والشمس والقمر یغمرهما الغبار
إنه الشتاء.... "
نتیجة المقارنة:
نحن أمام ثلاثة آثار لثلاثة شعراء من انحاء مختلفة من العالم (سوینبرن شاعر معروف من بریطانیا، ونازک الملائکة شاعرة من العراق، واخوان ثالث شاعر من ایران).
ولکل ٍ من هذه الآثار قیمته وخصائصه. اما الأسباب التی دعت الى اختیار هذه الآثار للمقارنة فهی للعناصر المشترکة التی دلت خلفیاتها على اتصال هذه الآثار ببعضها سواء کان هذا الاتصال مباشراً أو غیر مباشر. أما المشابهات بین هذه الآثار فکثیرة نشیر إلیها:
لابدَّ من فوارق بین الآثار المتحاکیة وإلاّ أصبحت نسخاً طبق الأصل، ومن الفوارق فی هذه الآثار:
[1] الردیف : فی الشعر الفارسی، عبارة عن کلمة أو أکثر تتکرر بعد الروی
[2] یوسفى، غلامحسین : جشمه روشن، ص 733 و 734 ,
[3] المصدر نفسه، ص 734.
[4] المصدر نفسه، ص 735.
[5] بدوی مصطفى : مختارات من الشعر العربی الحدیث، ص 142.
[6] دیوان نازک الملائکة، مجموعتها الشعریة " قرارة الموجة "، قصیدة : أغنیة لشمس الشتاء، دار العودة، بیروت، 1986، ص371.
[7] المصدر نفسه، ص375.