د. محمد کاظم حاج ابراهیمی

الأعیاد الفارسیة فی الشعر العربی

الأعیاد الفارسیة فی الشعر العربی
إهتم أدباء العرب بالأعیاد الفارسیة إهتماماً بالغاً، فسجَّلت کتب التاریخ والأدب هذه الأعیاد بصورة دقیقة مبیّنة سُنَنها وعادات أقوامها وما فیها من طقوس. وصوّروها على أنّها رمز للخیر والمحبة والوفاق والحوار، ولم ینظروا إلیها على أنها أعیاد لیست لها صلة بالإسلام وأنها عائدة الى العقائد الفارسیة القدیمة.
دوشنبه ۲۵ اسفند ۱۳۹۹ - ۱۱:۵۴
کد خبر :  ۱۳۷۹۰۰

 

 

 

 

 

 

الأعیاد الفارسیة فی الشعر العربی

 

                                                                                 د. محمد کاظم حاج ابراهیمی

عضو الهیئة العلمیة فی جامعة أصفهان

 

 

المقدمة

 

        إهتم أدباء العرب بالأعیاد الفارسیة إهتماماً بالغاً، فسجَّلت کتب التاریخ والأدب هذه الأعیاد بصورة دقیقة مبیّنة سُنَنها وعادات أقوامها وما فیها من طقوس. وصوّروها على أنّها رمز للخیر والمحبة والوفاق والحوار، ولم ینظروا إلیها على أنها أعیاد لیست لها صلة بالإسلام وأنها عائدة الى العقائد الفارسیة القدیمة. لذلک رووا أجمل قصائدهم فی مناسباتها، وزیّنوا بها دواوینهم وکتبهم.

 ویظهر لنا جلیاً من التاریخ أن عظماء المسلمین والخلفاء والسلاطین والأمراء کانوا یقیمون الاحتفالات فی هذه المواسم على أنها أعیاد مبارکة لا أعیاد لا تمتُّ الى الاسلام بصلة، وإلاّ کان ذلک طعناً فی إسلام من أجمع المسلمون على صحة إسلامهم، وسلامة عقیدتهم، وإستقامة سیرتهم. وفی هذا تبیین للتفاعل الثقافی والحضاری الذی حدث بین العرب والفرس عن طریق أعیادهم، بناءً على الشواهد الشعریة والنثریة التی إعتمدتُ علیها فی هذا المقال.

هذا التفاعل بین الأمتین العربیة والفارسیة یمثِّل واحدة من أفضل التجارب الانسانیة التی حصلت بین شعوب العالم من النواحی الثقافیة والحضاریة والاجتمایة والسیاسیة والدینیة. وبهذا الاتصال الروحی والعقلی إستطاعت الأمتان أن تشیّدا صرحاً عظیماً وحضارة إنسانیة نهلت منها الأمم الأخرى.

منحت الأعیاد الفارسیة أدباء العرب ثروة عظیمة فی مجال الأدب. ففی هذا المجال کانت تُنشد المئات من القصائد الشعریة الرائعة یتغنّى فیها أصحابها بجمال الطبیعة وما یواکبها من عطاء وبرکة، کما تجلّى ذلک فی الأعداد الهائلة من المقطوعات النثریة، حتى أصبحت تشکل باباً مستقلاً من أبواب الأدب، بحیث یمکن أن یکوّن موضوعاً خصباً لدراسة الدارسین والباحثین یطرحون فیه نظراتهم وتحلیلاتهم. ومن خلال هذا الباب ینفذون إلى أعماق المجتمع لیکشفوا طبیعة أفراده ونوع الحیاة الاجتماعیة والأسس التی یرتکز علیها بناء تلک المجتمعات.

        وعلى هذا نذکر هنا أهم الأعیاد الفارسیة التی تأثّر بها أدباء العرب، وهی:

  • النوروز
  • المهرجان
  • السّذق

 

أولاً : النوروز

(نوروز) کلمة مرکبة من لفظین؛ أولهما (نو) بفتح وضمّها أی (الجدید) وثانیهما (روز ) أی ( الیوم )، فکلمة (نوروز) فی اللغة تعنی: الیوم الجدید. وقد إستعملت کلمة نوروز فی للغة العربیة بصیغتها الفارسیة، کما عُرّبتْ الى نیروز[1]  وقال ابن فارس: "واعلـم أنَّ هذا الاسـم معرَّب، ومعناه أنه الیوم الجدیـد، وهو قولهـم:  

                 (نوروز)، إلاّ أنَّ النیروز أشبه بأبنیة العرب، لأنه على مثال فَیعول " [2].

وإشتق العرب من کلمة نوروز فعلاً هو (نَوْرَزَ) وإستُعمل فی النثر والشعر. ففی النثر قال البیرونی: " فَنَوْرَزَ لِنفسه " [3].

أما فی الشعر فقد قال أحد الشعراء:

نَورزَ الناسُ ونورزْ            تُ ولکـنْ بدموعی

 وزَکت نارهُمُ  والنا                    رُ ما بین ضلوعی [4]

 

وأستُعمل النوروز بصیغته الفارسیة، فقال البحتری فی وصف الربیع:

وقد نبَّه النوروزُ فی غلس الدّجى

أوائلَ وردٍ کُـنَّ بالأمس نُوّما [5]

 

أما فی الاصطلاح فتطلق على عید رأس السنة الفارسیة الذی یقع فی الیوم الأول من شهر فَرْوَرْدِین المصادف الحادی والعشرین من مارس (آذار) أی أول فصل الربیع.

 

  1. النوروز فی الشعر

إستوحى شعراء العرب منذ العصر العباسی جمال الطبیعة، وکلفوا بها، لأنها تشکّل أرضاً لیسکبوا فیها وحی مواهبهم الشعریة. فتعددت أغراض الشعر فیها، کالمدح والتهنئة، والوصف، والهدیّة والغزل، والخمر.

 

        أ – المدح والتهنئة

إغتنم الشهراء قدوم النوروز، لینظموا قصائد فی مدح خلیفة أو تهنئة أمیر، جاعلین من نوروز رمزاً لبلوغ الهدف الذی یرمزون إلیه، فهذا أبو تمام جعل النوروز رمزاً لشفاء الخلق والنفوس حیث یقول فی أبی دُلفَ القاسم ابن عیسى:

قد شرَّد الصبح هـذا اللیلَ عن اُفقِهْ

وسوغ الدّهر ما قد کان من شَرَفهْ

سیقت إلى الخلق فی النیروز عافیةٌ

بها شـفاهم جدیدُ الدهر من خَلِقِهْ [6]

 

أما ابن الرومی فقد شبّه النوروز بیوم الثلاثاء الذی هو بین أیام الاسبوع عندما هنّأ عبیدالله بن عبدالله فی هذه المناسبة، لأن یوم الثلاثاء یکون فی ذروة علیاء من ذرى الأیام. وکان هدف ابن الرومی من هذا التشبیه حثّ الانسان على الإرتقاء إلى ما هو أعلى، أی إلى الخالق، لأن النوروز هو یوم جدید، أو یوم تجدُّد الانسان وتحرُّره من العبودیة، فعلیه أن یغامر ویبذل الجهود المخلصة للتقدم، لأن الإرتقاء حیاة مستمرة، فیقول :

یـوم الثلاثاء ما یوم الثلاثاء ؟

فی ذروة من ذرى الأیام علیاءِ

کأنما هو فی الاسبوع واسطةٌ

فی سمط درّ یحلّی جیدَ حسناءِ

ما طابقَ الله نیروز الأمیر بهِ

إلاّ لتلقـاه فیـه کـلُّ سـراءِ

لا سـیما فی ربیعٍ مرعٍ غدقٍ

ما انفکّ یتبـع أنـواءً  بأنواءِ

حتى لشـبهت سـقیاه وزهـرته

جدوى أبی أحمد أو وشی صنعاءِ

لم یبق  للأرض من سـرّ تکاتمه

إلاّ وقـد أظهرتـه بعـد إخفـاءِ

أبدت طرائفَ شتَّى من زواهرها

حُمراً وصُفـراً  ونبتاً  کلّ غبراءِ

فاسعد بنیروزکَ المسعودِ  طالعُهُ

یا ابنَ الأکارم فی  خَفض ونعماءِ

واعط لنفسک فیه قسـط  راحتها

إن العلا  ذات أثقـال  وأعبـاءِ[7]

 

والبحتری یغتنم قدوم فصل الورد مع بدایة النوروز لیمدح الخلیفة المعتز بالله بهذه المناسبة قائلاً:

وافیته والورد فـی وقتٍ  معـاً

ونزلـتَ فیه مـع الربیع النازلِ

وغدا بنُـوروزٍ علیک  مُبـارکٍ

تحویلُ عامٍ  إثـرَ عـامٍ حـائلِ

مُلّیته  وعمـرت فی بُحُبوحـةٍ

من دار مُلکک ألف حَـولٍ کامِلِ [8]

 

هکذا تفتّقت قرائح شعراء العرب فی تبیان أحاسیسهم ومشاعرهم تجاه النوروز، حتى لنرى الشاعر الکبیر المتنبی الذی یشعر بکل شیء حوله، فما من مظهر أو مخبر إلاّ وله موقع من قلبه وصدى فی ضمیره، وهو فی أرض فارس، یبیّن ما فی نفسه فی صراحة وصدق على أنّ النوروز خیر صلة بین الأمتین العربیة والفارسیة، فمشارکته مع إخوانه الفرس فی إقامة أفراح هذا العید السعید دلیل على ما بیّناه آنفاً. فنراه یمدح أبا الفضل محمد بن الحسین بن العمید قائلاً:

 

جـاء نیـروزُنـا وأنت مُـراده

وورت  بالــذی أراد  زنـاده

هـذه النظـرة  التی نالهـا منـ

ک  إلى مثلها من الحـول  زاده

ینثنـی عنک آخـر الیوم  منـه

ناظـر أنت طـرفه ورقــاده

نحن فی أرض فارس فی سرور

ذا الصباح الذی نـرى میـلاده

عظَّمتـه ممالک الفـرس حتـى

کــلّ  أیـام عامـه  حسَّـاده

مالبسـنا فیها الأکالیـل  حتـى

لبســتها قلاعـه  ووهــاده

عدن من لا یُقاس کسرى  أبوسا

ســان  ملکـا بـه ولا أولاده

عربــیٌّ  لســانه فلســفیٌ

رأیـه ، فارســیة أعیــاده [9]

 

وساهم الشریف الرضی فی إحیاء عید النوروز، وأعلن مشارکته الشعب الفارسیِّ أفراحه، وتأثر بالنوروز کما تأثر شعراء العرب من قبله. فقد مدح أبا الخطاب حمزة بن إبراهیم وهنّأه بالنوروز بقصیدة مطلعها:

 

تخیّـرته أطول القوم باعـاً

وأرحبهم فی المعـالی ذراعا

 

وفیها یقول:

تلقَّـاک  نیـروزک المســتجدّ

یسرّ عیانا ویرضی ســماعا

ولا زال دهرک طـوع  الجنیب

اذا ما أمـرت بأمــر أطاعا

تلاقی الخُطوب  ثقالا  بِطــاءً

وغُرَّ الأمانـی عِجالا  سراعا

هُمام  رمیـتُ  قیـادی  إلیـه

مآلا إلـى شِـعْبه وإنقطـاعا

مــددتُ  یمینــی  فأعلقتها

یدأ بإصطناع الأیادی  صناعا

اذا قرحـت عندنــا  نعمـة

أعـاد أیادیـه فینـا جـذاعا

فلو رام  قسـمة عُمــری له

لم أرضَ  له العُمر إلاّ مشاعا

وإن هـو سـاومنی  مُهجتـی

صفقتُ على راحتیـه بیاعـا [10]

 

ومدح مهیار الدیلمی أبا القاسم الحسین بن علی المغربی عند تقلِّده الوزارة، وهنّأ بالنوروز وأنشده قصیدة فی داره بباب الشعیر فی سنة أربع عشرة وأربعمائة، مطلعها:

 

هل عنـد عینیک على غـرّب

غرامــة بالارض الخُلّــب

نعـم دمـوع  یکتسی  تُربُـه

قمیـص البلــد  المعشــبِ

 

وفیها یقول:

وأطلع على  النیروز شـمسا إذا

ساق الغروب الشمس لم  تغرب

تفضـل مـا کرّسـنی عُمـره

بمـلْ کف الحاسـبِ المطنـب

یوم مـن الفرس  أتـى وافـدا

فقالـت العُـرْبُ لـه : قَـرّب

بات من الاحسـان فی دارکـم

- وهو غریب  غیر مسـتغرب

لو شـاء من ینسـب لم یغـزه

لغیـرکم عیـداً ولـم ینسـب [11]

 

یرى مهیار الدیلمی أن النوروز عید فارسی وفد على العرب، وإستقبله العرب بشوق وإحسان ومحبة، حتى أصبح أحد أعیادهم العربیة، یحتفون به کلَّ عام رمزاً للوفاء واللقاء، یجمع الأمتین العربیة والفارسیة لتذوب فیه القلوب حتى تصبح قلباً واحداً نابضاً بالانسانیة.

 

        ب – الوصف

جمال الربیع من العوامل التی أثرت فی نفوس شعراء العرب وألهمهم لغة الحب، وسرّ الوجود ورفع الانسان من الأرض إلى السماء ، لیتوجّه نحو الخالق. فانکبَّ الشعراء على هذه الظاهرة التی تتجدد کل عام فی فصل الربیع، جاعلین منها رمزاً للتآلف والمحبة والارتقاء. وعبّر کل شاعر عن هذه الظاهرة بطریقته الخاصة.

أنشَدَ أبو تمام قصیدة فی وصف الربیع قائلاً:

إنّ  الربیـــع أثـر الزمـانِ

لو کـان ذا روح وذا جثمـانِ

مصـوراً فی صـورة الانسان

لکان  بسّــاماً مـن الفتیـان

بورکت مـن وقت ومـن أوان

فالأرض نشوى من ثرى نشوان

تختال  فـی مفـوَّف الألـوان

فی زهـر کالحدق الروانــی

من نافـع  وناصـع وقــانِ

عجبتُ مـن ذی فکرة یقظـانِ

رأى جفون زهــر الألـوان

فشـک أن کـلّ شـیء فـانِ [12]

 

هذه القصیدة تعبِّر عن شوق وحب وإدراک قلبی، رمز إلیه الشاعر بجمال الربیع، وتمنّى أن یکون الانسان کالربیع متجدداً، ویسیر نحو الإرتقاء، لیدرک، کما أدرک هو أن هذه الظاهرة من ذی فطرة یقظان. وأنشد البحتری أَبدعَ قصیدة فی وصف النوروز وجمال الطبیعة قائلاً :

 

أتاک الربیعُ الطلقُ  یختالُ ضاحکاً

من الحُسن حتى کـاد أن یتکلما

وقد نَبّه النوروز فی غَلس الدُجى

اَوائل ورد کـنّ بالأمس نُومّـا

یفتِّقهــا بَرد النـدى فکأنــه

یَبثُّ حدیثـا کان قبـلُ مکتّمـا

ومن شَجرٍ ردَّ الربیعُ  لباســهُ

علیه، کما نشّرت وَشـیا مُنَمْنَما

أحلَّ  فأبدى للعیــونِ بشاشـةً

وکان قذى للعین إذ کان مُحرما

ورقَّ نسیم الریح، حتى حسـبتُه

یَجیءُ بأنفـاس الأحبـة نعَّمـا [13]

 

 

 هذه القصیدة تثیر مشاعر القاریء والسامع، وتجعل کلاً منهما یتجاوب معها وینساق فی تیارها فإذا هو یسبح مع الشاعر فی جو المتعة والجمال ویصیر کأنه هو الشاعر. إعتبر البحتری الربیع إنساناً حتى کاد أن یتکلم. والنوروز، أیقظ الورد من غفوته ، واذا بالندى یفتّح أکمام الورود لیبثها حدیثاً کان مکتوماً. ما هذا الحدیث الذی بثّه الندى فی أکمام الورود ؟ هل هو حدیث الحیاة والتجدد؟ أهو حدیث المحبین والعاشقین؟ أو هو حدیث سرّ الوجود وعظمة الخالق؟

 

        ج – الهدایا

 یرى بعض الشعراء العرب أن إهداء القصائد عوضاً عن الهدایا المادیة له أثر أبلغ فی نفوس ممدوحیهم، لأن هذه القصائد تحتضنها بطون الدواوین ، وتبقى خالدة مدى الدهر. أما الهدایا الأخرى فتفنى بفناء الممدوح أو الهدیة. والکلام الجمیل العذب الصادر من أعماق القلب أحلى بکثیر من الهدیة الرمزیة. وقد عبّر العباس الهمدانی عن هذه الفکرة عندما أهدى قصیدة إلى ممدوحه فی یوم النوروز قائلاً:

 

أهدى لک الناس المرا

کب والوصائف والذهب

وهدیتی حلـو القصا

ئد والمـدائح  والخطب [14]

 

وعبّر أحد الشعراء عما یجیش فی نفسه عن هذه الفکرة فأنشد:

جُعلتُ فداک للنیـروز حقٌ

وأنت علیَّ أوجبُ منه حقا

ولو أهدیـتُ جمیع ملکـی

لکان جمیعه  لک مسـترقا

ولو أهدی الثناء بنظم شعر

وکنت لذاک منی مسـتحقا

لأن هدیة  الألطـاف تفنى

وأنّ هدیة الأشعار تبقى [15]

 

        د- الخمر

إنحرف بعض الشعراء عن جادة الصواب، ومالوا الى الخمر والشرب والسکر فی عید النوروز، یصف ابو نواس جمال الربیع، ومجالس جماعات السکارى الشاربین وسط باقات من الزهور، وکیف أن الخمایل سکرت وتمایلت أغصانها مع أنفاس الربیع، تحیی السکارى الشاربین فی ظلها. فقال:

 

یباکـرنا النـوروزُ فی غلـس الدجى

بنَورٍ علـى الأغصان  کالأنجم الزُّهـرِ

یلوح  کأعلام المطــارف وشــیه

من الصفر فوق البیض والخضر والحمر

إذا قابلتــه الریحُ أو مال  رأسُــه

الى الشَّرب أنْ سُروا ، ومال الى السکر

ومُسـمعةٍ جاءت بأخـرسَ ناطــقٍ

بغیــر لسـان ظلّ ینطق  بالســحر

لتبدی سـرّ العاشــقین  بصوتــه

کما تنطُــق الأقــلامُ تجهر بالسـر [16]

 

إذن أثار النوروز مشاعر الشعراء وعواطفهم، فرسموا لنا صورة النوروز الانسانیة والأدبیة من خلال الرسائل والقصائد التی أنشدوها بمناسبة عید النوروز، وجعلوا من النوروز غایة لتحرر الانسان من العبودیة، وتحویل المادة بالفکر والروح، وإرتقاء الانسان الى الأعلى لبلوغ المعرفة، والتوجه نحو الخالق .

 

ثانیاً: عید المهرجان

 المهرجان، کلمة معرّبة من أصلها الفارسی " مِهرْگان "

( دهخدا، علی اکبر، لغت نامه ، مهرگان )

 

وهذه الکلمة الفارسیة مرکبة من "مهر" ومن معانیها: "المحبة والوفاء" ونور الشمس و "گان" أداة تلحق بآخر الأسماء الفارسیة لتدل على مفهوم الاحتفال کَفرْوَرَدْیِنْگان و بَهْمَنْگان ، تیرگان" [17] هناک تفاسیر بالنسبة الى معنى کلمة المهرجان، دونتها کتب التاریخ.

فنرى المسعودی یقول:

" إنّ الفرس کان لهـم ملک فی قدیم الزمان ، قد عمّ ظلمه خواص الناس وعوامهم، وکان یسمى مهر، فمات فی النصف من هذا الشهر، وهو مهر ماه ، فسمی ذلک الیوم الذی مات فیه (مهرجان) وتفسیره نفس مهر ذهبت، لأن الفرس تقدم فی لغتها ما تؤخره العرب فی کلامها. وهذه اللغة الفهلویة، وهی الفارسیة الأولى [18] ".

 

إغتنم أُدباء العرب حلول عید المهرجان، لأنه عید الطبیعة، وبدایة فصل الخریف، وفیه تفتح أبواب السماء. ویرى الأدباء أن للمهرجان حقاً علیهم. یصف إبن الرومی المهرجان وصفاً رائعاً، ویصوره کما هو. فقد أظهر فی قصیدته الفن والاحساس والخیال والجمال المنظور. فالناظر یلمح الألوان والسمات والحرکات والأشکال فی هذه القصیدة، لأن ابن الرومی هو المصور القدیر الذی یلتفت الى جمال الطبیعة بدقة ، ویصورها کما هی. فهو رسام بارع فی قصیدته، یرسم لنا زینة المهرجان وإختیال الدنیا بمنظرها حتى تستهویها الحواس والأذواق. هذه القصیدة تشتمل على أکثر من مائتی بیت مدح فیها عبیدالله بن عبدالله قائلاً:

 

بمـنّ الله طلعـة المهرجان

کلّ یمن على الأمیر الهجان

ما رأت مثل مهرجانک عینا

أردشـیرٍ ولا  أنوشـروانِ

 

مهرجـان  کأنمـا صوّرتـه

طیف شـاءت مخیَّراتُ الأمانی

وأدیل  السـرور واللهو  فیه

من جمیع الهمـوم والأحـزان

لبست فیه حلی زینتهـا الدُّنیا

وزاقـت فی منظـر فتــان

وأزالت من وشـیها کلّ برد

کان قدماً تصونه  فی الصوانِ

وتبدّت مثل الهـدی  تهـدی

رادع الجیب  معطر الأبـدان

کادت الأرض یوم ذاک تفشی

سر بطنانها الى الظهــران [19]

 

هناک قصائد کثیرة نظمت فی هدایا المهرجان وأفراحه وخمره لا یسعنا أن نذکر جمیعها، فالأدباء رأوا ان ما ینسجه اللسان والفکر هو خیر هدیة یقدمونها الى ممدوحیهم فی هذه المناسبة.

 

ثالثاً: عید السَّذق

 کلمة السّذق معرَّبة من اللغة الفارسیة وهی " سَده ".

(دهخدا، علی اکبر، لغت نامه، سده) وکلمة "سده " مرکبة من جزءین – سد ، صد – " بمعنى مائة و ( هاء ) وتسمى  ( الهاء ) هاء تخصیص النوع التی تضاف فی أواخر بعض الأسماء الفارسیة لتدل على المعنى المراد. مثل: دندانه من دندان، هفته من هفت، دهه من ده، هزاره من هزار – وهکذا سده من سد " [20].

وجه تسمیته:

أما وجه تسمیته بسده فهو " مرور مائة یوم من أول فصل الشتاء " [21].

کانت السنة الفارسیة القدیمة تنقسم قسمین:

الصیف: وهو سبعة أشهر، والشتاء: وهو خمسة أشهر. وکان فصل الشتاء یبدأ من أول شهر آبان، لذلک کان یُحتفى بعید السدق فی الیوم العاشر من شهر بَهمَن ماه. وقد إستعمل السدق بلفظ "السذق" (ابن منظور. محمد بن مکرک، لسان العرب، مادة سذق) فی الشعر العربی فقال ابو صالح بن احمد النیسابوری:

 

أرى الناس یهدون ما استطرفوا

من البـرّ ما جلّ منه ودق

وکـلٌ  بمقــدار أمکانهــم

یقیمون رسـماً لهذا السذق [22]

 

وکذلک عرف " بلیلة الوقود " [23]

 

أثره فی الأدب

أولع شعراء العرب بوصف لیلة السذق وإیقاد النیران والشموع، وإقامة مجالس الطرب والخمر فیه، فتعددت أغراض الشعر فیه، کالمدح والتهنئة والوصف والخمر.

 

المدح والتهنئة

 أنشد أبو الخیر المفضل بن سعید العزیزی قصیدة فی مدح عزیز الدولة بمناسبة إضرام النیران فی قلعته بحلب، وکان الغیم قد ستر النجوم فقال:

 

إبق للمعــروف والأدبِ

آمنا من صـولة النُّـوبِ

یا عزیز الدولة الملک الـ

منتضی للمجـد والحسب

کیف یخشى الدین  حادثة

وعزیز الدیـن فی حلب

سـدّ  منه ثغـرها بفتى

لا یشوب الجدِّ  باللعـب

أضرم العنقاءَ  قلعتــه

فبدت فی منظـر عجب

لزّت الأرض السّماء بها

فثنت کشحا على وصب

ورمتها بالشــرار کما

رمت الغبـراء بالشُهبِ

أوقدت تحت الغَمام  فما

یبقهـا من مُزنةٍ یـذُب

سخنت حوض الحیا فهی

بجحیـم عنه منسـکب

لو تـدوم النـار نشّـفُه

حـرُّ ما یلقى فلم یصب

 

لیلـة غابـت کواکبهـا

خجـلا منّـا فلم تـؤب

فلـو أن  النار لا حقـة

بالنجوم  الزهر من کثب

طلعت شمسُ النهار  بها

والدجى مسدولة الحجب

حکت  الشّـماء غانیـة

حلیـت بالـدّر والذهبِ

حاربتها الریح فاضطرمت

غضبة من شدة الغضب

جاذبتهـا فــی تغیُّظها

شُــعلاً مُحمرةَ العَذب

ضوءَها عمن ألمَّ علـى

أیّ شـهر غیر مُحتجبِ

یا أمیر الآمــرین ویا

مستجار القصد  والطلب

قد نفیتَ اللیلَ عن حلب

نفی مظلــوم بلا سبَبِ

وترکتَ الشمسَ حائرة

فی دُجى الظلماء لم تغِب [24]

 

 فعزیز الدولة قد أباح إیقاد النیران فی قلعته. وهذه السُنّة لا تخالف عقیدته الاسلامیة وسبرته الصالحة. ویمدح مهیار الدیلمی فخر الملک بمناسبة حلول عید السدق ویهنئه، فیقول فی مقدمة قصیدته:

 

... ولیلة من ضیـاء  وهی مظلمــةٌ

بلیلــة من جمـادى وهی تضطرمُ

وجـهُ الزمـان بها حـرّان  ملتهـب

وقلبـه باردٌ من حُســنها  شــبم

تاهـت على العام إذ صیّرتهـا علمـا

فیه، وبالنـار لیـلا یعرف العلــمُ

... رسمٌ من النحـل کان الملک عطّله

انشرت فیه بنی کسـرى وما رسموا

نُعمى على العُجم خصّتهـم کرامتهـا

لا بل تَســاهمَ  فیها العُربُ والعَجمُ

قومٌ یرون القِـرى  بالنار یُکســبهم

فخراً، وقومٌ یرون النــار ربَّهــم

لا تنکرن کثرة التسـآل ما اقترحـوا

والمادحین  فقد قالـوا بما علمــوا

من أوقدَ النارَ مطروقاً ومن رفعَ الـ

حجاب عن طالبی معروفه إزدحموا [25]

 

الوصف

        وصف الشعراء والکتّاب إضرام النار لیلة عید السدق وصفاً رائعاً. فهذا ابن الجوزی یقول فی إیقاد النیران على ضفاف نهر دجلة فی بغداد.

"وفی ذی الحجة عمل السلطان ملک شاه السدق بدجلة، وهو إشعال النیران والشموع العظیمة فی السمیریات والزواریق الکبار، وعلى کل زورق قبة عظیمة وخرج أهل بغداد للفرجة، فباتوا على الشواطىء وزیّنت دجلة بإشعال النار، وأظهر أرباب المملکة کنظام الملک من زینتهم ما قدروا علیه، وحملوا فی السفن أنواع الملاهی. وأخذوا السفن الکبار، وألقوا فیها الحطب، وأضرموا فیها النار، وأحدروها من دار معزّ الدولة الى دار نظام الملک. ونزل أهل الجانب الغربی کل واحد معه شمعة وإثنتان. وکان على سطح دار المملکة الى دجلة حبال قد أُحکم شدُّها، وفیها سمیریة یصعد رجل فی الحبال ثم ینحدر بها وفیها نار " [26]. ووصف الشعراء ما جرى تلک اللیلة. فهذا ابو القاسم المطرز یقول:

 

وکــلُّ نـار من العشـاقِ مضرمـة

من نــار قلبی أو من لیلــة الســدقِ

نار تجلت بها الظلمـاءُ  وإشــتبهت

بسُــدفة اللیل فیهــا غــرّة الفلــقِ

وزارت الشمسُ فیها الـبدرَ واصطلحا

على الکواکــب بعــد الغیـظ والحنقِ

مدَّت على الأرض بُسطاً من جواهرها

ما بیــــن مجتمــع وارٍ مفتــرقِ

مثل المصابیــح إلاّ أنهــا نزلـت

من الســـماء بلا رجــم ولا حـرقِ

أعجبُ بنار ورضــوانُ یَســعِّرها

ومالکٌ قائـــمٌ منهــا على فَـــرقِ

فی مجلس ضحکت روضُ الجنان لـه

لما جلى ثغره عن واضـــح یَقَـــقِ

وللشــموع عیونٌ کلمــا نظـرت

تظلمــت من یدیهــا أنجـم  الغَسـقِ

من کل مُرهفة الأعطاف کالغصــن

المیَّــاد لکنــه عـــارٍ  من الورقِ

إنی لأعجب منهــا وهی رادِعــةٌ

تبکــی وعیشــتها من ضربة  العنُقِ [27]

 

        فالاحتفال بعید السذق والتأنق به على هذا الشکل الذی لم یر أهل بغداد مثله أبداً، لیس إلاّ وجود تفاهم بین العرب والفرس فلقاؤهم فی هذ العید إعلان عن تمسکهم بوحدة الشعوب، وإیجاد الوفاق والمحبة والمشارکة بینهم. فالعرب ملوکاً وحکاماً وشعوباً نظروا الى النار على أنّها من مسخرات الله تعالى ومتاعاً وإنتفاعاً الى الناس، لا لأنها معبودة، وإلاّ کان ذلک طعناً فی الاسلام.

الخلاصـة

        هذا البحث وضعته عن أعیاد فارسیة ألفَّت بین قلوب الأمتین العربیة والفارسیة على المحبة والوفاق والخیر والانسانیة؛ لأن الانسان المبعوث بهذه الخصائل الحمیدة یحقق رسالته للعالم وهی هدایة الخلق الى حضارة تنسجم فیها الطبیعة والانسانیة فتحقق للعالم السلام إذ إنّ التفاعل الحضاری حافز قوی الى الایمان، وفی الوقت نفسه هادف الى خدمة قیم التفاهم بین الشعوب الاسلامیة وسواها.

        وإتضح لنا فی مواقف الأدباء العرب أنّ نظرتهم الى هذه الأعیاد کانت مبنیة على أنها مواسم أفراح، لا أعیاد شِرک وضلال وإفک؛ وإلا لکان ذلک طعناً فی إسلام هؤلاء الأدباء الذین أجمع المسلمون على صحة إسلامهم، وسلامة عقیدتهم وإستقامة سیرتهم وتحقق جهادهم ومساعیهم لنصرة الاسلام قولاً وفعلاً. وهکذا لم نجد صرعاً أو صداماً ثقافیاً وحضاریاً بین أدباء العرب تجاه هذه الأعیاد الفارسیة، بل کل ما رأیناه کان تفاهماً وحواراً صادقاً فی کلامهم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1] الجوالیقی، موهوب بن أحمد، المعرَّب من الکلام الأعجمی على حروف المعجم ، باب النون.

[2] هارون ، عبدالسلام ، نوادر المخطوطات ، ص20.

[3] البیرونی ، محمد بن احمد ، الآثار الباقیة عن القرون الخالیة ، ص 219.

[4] المقریزی ، تقی الدین احمد ، الخطط المقریزیة ، ج2، ص396.

[5] البحتری ، الولید بن عبد یحیى، دیوان البحتری ، ص147.

[6] أبو تمام ، حبیب بن جاسم، دیوان ابی تمام ، مج2 ، ص402.

[7] ابن الرومی، علی بن العباس، دیوان ابن الرومی ، ج1، ص36.

[8] البحتری ، الولید بن عبد یحیى ، دیوان البحتری ، مج1 ، ص150.

[9] المتنبی ، أحمد بن الحسین ، دیوان المتنبی ، ج2، ص150.

[10] الشریف الرضی، محمد بن السین ، دیوان الشریف الرضی، ج1 ، ص259.

[11] الدیلمی ، مهیار، دیوان مهیار الدیلمی ، ج1، ص82.

[12] ابو تمام ، حبیب بن جاسم ، دیوان أبی تمام ، ص254.

[13] البحتری ، الولید بن عبد یحیى ، دیوان البحتری ، مج 1 ، ص147.

[14] ابن عبد ربه ، أحمد بن محمد ، العقد الفرید ، ج6، ص 289.

[15] ابن عد ربه ، احمد بن محمد ، العقد الفرید ، ج6 ، ص1.

[16] ابو نواس ، الحسن بن هانی ، دیوان ابی نواس ، ص278.

[17] رضی ، هاشم ، گاه شماری وجشن های ایران باستان ، ص488.

[18] المسعودی ، علی بن الحسین ، مروج الذهب ومعادن الجوهر ، ج2 ، ص 181.

[19] دیوان ابن الرومی ، تحقیق حسین نصار ، ج6 ، ص2492.

[20] أنجمن ایرانشناسی ، جشن سده ، ص4.

[21] نفس المصدر ، ص11.

[22] الثعالبی ، عبدالملک بن محمد ، یتیمة الدهر فی محاسن أهل العصر ، ج5 ، ص311.

[23] متز ، آدم ، الحضارة الاسلامیة فی القرن الرابع الهجری ، ج2 ، ص288.

[24] ابن العدیم ، عمر بن احمد، زبدة الحلب من تاریخ حلب ، ج1 ، ص217.

[25] ابن العدیم ، مهیار ، دیوان مهیار الدیلمی ، ج3 ، ص 360.

[26] ابن الجوزی ، عبدالرحمن بن علی ، المنتظم فی تاریخ الملوک والأمم ، مج9 ، ص57.

[27] ابن الأثیر ، علی بن محمد ، الکامل فی التاریخ ، ج8، ص159.

ارسال نظر