بروین..سیدة الشعر الفارسی المعاصر
سمیر أرشدی
مدرس اللغة الفارسیة بجامعة الکویت
برهنت المرأة الایرانیة على دورها الفعّال والحاسم عبر إدارة دفة الحیاة فی المجالات السیاسیة والاجتماعیة والتربویة، ولعلّ حضورها الطاغی فی ساحة الأدب کان من أبرز هذه المیادین حیث أثبتت جدارتها وخبرتها بقلم مُشبع بروح الکبریاء وعزّة النفس.
ولدت بروین اِعتصامی فی مدینة تبریز عام 1910 ولم تکد تفتح عینیها على الحیاة حتى فقدت والدتها لتذوق مرارة الیتم منذ نعومة أظفارها حتى إلتحاقها بالرفیق الأعلى. حاول والدها أن یعوض لها فقدانها حنان الأم وبذل الجهد الجهید فی رعایتها وتعلیمها فی وقت لم تعتد فیه المرأة الذهاب إلى المدارس.
والدها یوسف خان اعتصام الملک انتقل بها الى طهران فی وقت مبکر وأدخلها المدرسة الامریکیة الخاصة حیث تعلمت العربیة والانکلیزیة وأتقنت اللغة الفارسیة وآدابها وتعرفت على کبار الأدباء والشعراء.
ترعرت بروین فی بیت ثقافة وأدب حیث ترأس والدها مکتبة مجلس الشورى الوطنی لعدة سنوات وکان صحفیاً وشاعراً مخضرماً، الأمر الذی ساهم فی صقل مواهبها وتنمیة قابلیاتها الابداعیة مع تمسکها بدینها وتراثها .
نشرت بروین اولى قصائدها فی مجلة ( بهار: الربیع ) الأدبیة حیث کان والدها یرأس تحریر هذه المجلة ویرفدها بآخر نتاجاته الأدبیة التی یترجمها من العربیة أو الفرنسیة لعمالقة الفکر والأدب.
وقد إمتاز شعر بروین بالبساطة وإحتوائه على أفکار وقیم إجتماعیة وأخلاقیة وإنتقادیة رفیعة فضلاً عن النصائح والحکم التی تنم عن فکر عمیق وبصیرة ثاقبة ما یجعلها تثیر إعجاب القراء والمتلقین فکانت بمثابة الأم الحنون التی تخاطب أولادها بأبیات تنطلق من قلب الشاعر لتخترق قلب المستمع دون استئذان، وتمتعت بقدرة فائقة على إبتداع المناظرات والمحاورات التی تدور غالباً بین الأشخاص أو بین الأشیاء لتستخلص النتائج التی تطمح لها.
حینما لمع إسم بروین فی الأوساط الأدبیة وعلى صفحات المجلات حاول جلاوزة الشاه استقطابها لدائرة البلاط والاستفادة من قصائدها لمآرب النظام الملکی إلاّ ان شاعرتنا الملتزمة أبتْ أن ترضخ للظلم وتسایر الظالم، لِمَ لا وقد رضعت مناصرة المظلوم والدفاع عن دینها وتراثها.
بروین هو إسم کوکب الثریا باللغة الفارسیة وکان القراء یظنون أنه إسم لرجل شاعر حیث کانوا یستبعدون أن یکون هذا الشعر المفعم بالاحاسیس والحکایا الرزینة هو لامرأة شابة، وقد دفعها ذلک لتمیط اللثام عن هویتها وتعلن حضورها الأنثوی على الساحة الأدبیة بهذه الأبیات:
لابد للفؤاد من ان یزیح عنه الفکر الباطل
کی یعلم ان المرآة لا یعلوها الغبار
یظن الناس أن بروین واحد من أهل الفضل
لیس لغزاً أن یعلموا بأن بروین لیست رجلاً.
کانت بروین تخاطب الآم الناس وتشعر بما یعتلج صدورهم، فتکون قصائدها اسقاطات لما یدور فی الشارع من أزمات وأحداث.
کانت تنظم القطع والقصائد والمثنویات على العروض العربی وکان والدها یصحح لها شعرها وینشره فی مجلته(بهار) حیث نهجت فی أعمالها نهج الشعراء القرنین الخامس والسادس الهجریین ولا سیما ناصر خسرو (المتوفی عام 1088م ) وجاء جلّ جهدها منصباً على تقصی الحقیقة وتبیان الواقع مما جعل منها شاعرة قادرة على إدراک منغصات الحیاة ومعالجتها بمهارة خاصة، وکان فهمها للحیاة والکون متأثراً بالاعتقادات الاسلامیة والأفکار العرفانیة حیث تقول:
العرفانیون یقولون بأنّ العلم وأنّ الفن لنا إکسیرْ
إکسیرٌ یُعلی الشأن
فإذا بنحاس النفس یصیر ذهبْ
فجناح العلم بصاحبه یرقى
أعلى أدراج الجاه وأدراج السلطانْ
ویصیر جلیساً للسعداء وللأبرار وکلّ ذوی التیجانْ
الوقت ثمین إن مرّ فلن یرجعْ
أبداً لا یمکن أن یرجعْ
فاحذر أن یمضی منک بغیر ثمنْ
هیهات فلن تلقى لجلال الوقت ثمنْ
إن لم تکْ میتاً فاحرص أنْ تنفع روحکْ
هیهات الجسم الضخم یُفیدک إنْ تهمل روحکْ
بشراً أنتَ خُلقت َ لکی تعلو .. لکنْ بفضیلهْ
لا لم تُخلق للنوم ولا للأکل ولا للشرب ولا لرذیلهْ
لا تسلک ْ درباً خالیة من یقصد قصدکْ
واحذر شیطانک فهو عدوک فاحذره جهدکْ
السالک درباً لا یرجو رشداً ممن قد ضیع درَبهْ
والعاقل لن یسأل مجنوناً حِکمهْ
العلم شبیه بالمعدنْ
والروح به تقوى.. تُمسی الأحسنْ
فهما إلفانْ
وکلا الإلفین إلى صاحبه یُجذبْ
نشرت بروین أول طبعة لدیوانها سنة 1935 وکان یضم خمسة آلاف بیت فی مقدمة رائعة کتبها ملک الشعراء بهار اعتبر خلالها بروین من الشعراء الایرانیین الأوائل وقارن أعمالها بشعر سالار الشیرازی فی ملامحه الاخلاقیة والتربویة حیث تقول:
فتاة الیوم هی أم الغد المشرق
فالأم الواعیة تصنع الرجال
وقد أضافت بروین مضامین جدیدة للشعر الفارسی وصاغته باسلوب عفوی سَلِس ومعانٍ جمیلة وجذابة حیث نلاحظ فی شعرها تمازجاً للمفاهیم الاسطوریة بلحن إیقاعی مستمد من التراث الاسلامی .
رأت فی المرأة شریکاً لا یستغنی عنه الرجل وکانت ترى المرأة الى جانب الرجل متساویان فی الحقوق والواجبات وتحمّل مشّاق الحیاة حیث مثلت المرأة والرجل کمثل السفینة والربان، فان کانت السفینة محکمة وکان ربّانها عاقلاً فلا خوف من الأعاصیر والأمواج.
لقد خاضت مواضیع سیاسیة واجتماعیة وتأثرت بالفکر الاوروبی وحرکات تحرر المرأة لکنها وجدت فی المرأة الشرقیة المسلمة میزة مختلفة، فهی السیدة المؤمنة، المثقفة، الملتزمة، الجریئة، المحافظة، والمناضلة من أجل سمو شعبها ودینها.
ماتت بروین منذ خمس وستین سنة ولا تزال قصائدها تـُروى عن ظهر قلب قبل ان تقرأ من صفحات دیوانها وقام کاتب هذه السطور الاستاذ محفوظی موسوی بتعریب دیوانها فکان أول ترجمة لأعمالها إلى لغة عالمیة وحاز على إعجاب القرّاء فی العالم العربی.
المصادر:
مؤسسة البابطین للابداع الشعری.