عبد الرضا رضائی نیا

على خطى " نیما یوشیج "

على خطى
نیما نفسه کان یرى : " إننی نهر یمکن الاغتراف من أی رکن منه " . ولقد إستطاع هذا النهر الصخّاب أن یستقطب عدداً کبیراً من الشعراء من مختلف المنابت والتوجهات الفکریة والسیاسیة والاجتماعیة
دوشنبه ۲۵ اسفند ۱۳۹۹ - ۱۱:۲۲
کد خبر :  ۱۳۷۸۹۵

 

 

 

 

 

على خطى " نیما یوشیج "

 

                                                                               بقلم : عبدالرضا رضائی نیا

                                                                                        تعریب: حیدر نجف

 

جادة واسعة إفتتحها إسفندیاری ( نیما یوشیج ) أمام الشعر الفارسی المعاصر ، مزلزلاً ذهنیة کثیر من الشعراء الذین أیقنوا أنهم وصلوا لطریق مسدود ، فمسح عن قرائحهم أغبرة سمیکة من الجمود والتقلید . لا یرتاب أحد فی أن الحرکة التاریخیة لنیما ترکت بصماتها على الجمیع بمن فیهم معارضوه ، فأقل ما یقال فی تأثیر الزلزال الذی أحدثه هذا الشاعر فیهم هو أنهم أعادوا النظر فی الخلفیات الکلاسیکیة للشعر الفارسی من أجل إنتزاع بعض الامکانیات الکامنة فیه والمنسیة طبعاً ، بغیة أن یثبتوا بذلک أن العدید من الأنساق الکلاسیکیة لا تزال قادرة على الحرکة والتفاعل والانتاج ، وأن الابداع غیر منوط ضرورة بنسق الأطر المألوفة والتمرد على تساوی الشطرین .

التحول الکبیر الذی حدث فی مضمار الشعر التقلیدی على رحیل نیما یمکن أیضاً تقییمه فی ضوء هذه الانطلاقة الجدیدة ، والأمر هذه المرة لا یتعلق طبعاً بمعارضة نیما ومحاولة إلغائه، إنما ینبعث من مجاراته ومواکبته والتصدیق به وتعمیم بعض مقترحاته على حیز الشعر الکلاسیکی ، ولعل النموذج المتکامل لذلک ما یتجلى الیوم فی " الغزل الفارسی الحدیث " .

        نیما نفسه کان یرى : " إننی نهر یمکن الاغتراف من أی رکن منه " . ولقد إستطاع هذا النهر الصخّاب أن یستقطب عدداً کبیراً من الشعراء من مختلف المنابت والتوجهات الفکریة والسیاسیة والاجتماعیة ، وأن تتصاعد من زلاله أغصان وأوراق بأشکال وتلاوین زاهیة إنتهى کل واحد منها الى فضاءات شعریة مختلفة ، وقد کان عقد الستینات والسبعینات فسحة لتجلی هذه التباینات وإفصاحها عن نفسها .

نزل الشعراء الشباب إلى نهر نیما فأصاب کل منهم – فی سیاق الشعر الحدیث – صوتاً ونغماً حسب قابلیته وقدراته الذهنیة واللغویة ، فأبدعوا أعمالاً یمکن القول إنها جدیرة بالاهتمام .الأسماء والأتباع والتیارات کثیرة ، لکن بعض الشعراء تألقوا بین هذه الأعداد الکبیرة أکثر من سواهم ، وأضاف کل واحد منهم إنجازات قشیبة للشعر الایرانی الحدیث تارکاً من أوراقه الجمیلة الزاهیة ذکرى طیبة فی ضمائر الأجیال ومسجلاً تأثیرات أکیدة على شعراء الأجیال التالیة . ولعل أبرز هؤلاء أحمد شاملو ، ومهدی أخوان ثالث ، وسهراب سپهری ، والشاعرة فروغ فرخزاد ... شعراء کان لمنجزهم الشعری أصداءً أقوى ودویاً أشد فی الساحة الأدبیة المعاصرة فی ایران .

        الاشارة الى أسماء هؤلاء الشعراء الأربعة لا یعنی بحال من الأحوال تجاهل أعمال الآخرین وإنجازاتهم الناصعة وتجاربهم المهمة ، بل لابد من التطرق لأولئک الآخرین أیضاً فی فرصة مناسبة أخرى .

ولکن لا مندوحة من القول إنه ربما لقساوة التاریخ الأدبی أو لتعثر حظوظهم ، أو لأسباب أخرى أکثر تعقیداً ، لم تترک أعمالهم تأثیرات مهمة فی طبیعة الشعر الایرانی الحدیث ومصیره، وبالتالی لم یکتسب شعرهم مواقع ریادیة فی الساحة الأدبیة .

القاسم المشترک بین الشعراء الأربعة المذکورین هو أنهم تأثروا فی بدایاتهم بتیارات ناسفة للمواهب کالرومانتیکیة ، ونظموا فی تجاربهم الأولى قصائد سطحیة ساذجة ، بید أنهم إکتشفوا بعد ذلک رؤیة نیما وشعره فطرأت علیهم تغییرات مهمة ، وإستطاع کل واحد منهم إرتکازاً الى مواهبه الذاتیة ومساعیه الحثیثة أن یفتتح طریقاً جدیداً ویحقق تمیزاً أدبیاً مؤثراً . ما نحاوله فی هذه السطور هو تقدیم نبذة مختصرة لمسیرة کل واحد من هؤلاء الشعراء الایرانیین الکبار والوقوف هنیهةً عند تجربته الابداعیة .

 

  • أحمد شاملو ( ألف . بامداد )

 

ینبوع ٌ زلال فی الفؤاد وشلالٌ على الأکف

شمس فی النظرات وملاکٌ داخل قمیص ...

الانسان الذی هو أنتِ ، أستطیع أن أنسج منه آلاف القصص ...

إذا أمهلتنی لقمة العیش .... !

 

ولد احمد شاملو فی طهران عام 1925 م وکان أبوه عسکریاً ، فتبدت طفولته لذلک مزحومةً بأسفار ورحلات متواصلة حرمته الاستقرار ، فمن طهران الى سیستان الى مشهد الى رشت الى مدن إیرانیة أخرى . فی صباه ، شدته رغبة جنونیة للموسیقى التی ألفها على ید عائلة أرمنیة جاورتهم لفترة من الزمن ، وکان عزف فتیاتها على البیانو ، خصوصاً مقطوعات شوبن ، یأسر کیانه وذوقه بالکامل . حبه لهذا الفن لم یکتب له الوصال أبداً وإنما شابته حسرات لم تفارق مرارتها الشاعر الى آخر عمره ، هذا مع أن تعرفه وإستئناسه بالأدب عالج جانباً من تلک الحسرات .

همومه الخاصة ببعض الأحوال والأحداث السیاسیة جعلته یمیل لتنظیمات سیاسیة معینة ، وکانت الفترة آنذاک سنوات الحرب العالمیة الثانیة وأحداث ما بعد أیلول 1941فی إیران وإجتیاح الحلفاء للبلد ، الأمر الذی إنتهى به الى السجن – ولما یبلغ العشرین – باعتباره قومیاً متعصباً یتحیّز لألمانیا النازیة . بعد إطلاق سراحه فی سنة 1944 م ترک الدراسة ونذر حیاته للفن والأدب والکتابة ونظم الشعر الى أن وافاه الأجل سنة 2000م.

ورأس تحریر عدة مجلات خلال فترات مختلفة ، منها :

  • کتاب الاسبوع
  • العنقود
  • کتاب الجمعة

 

هذا بالاضافة الى کتابة بعض السیناریوات وعمله لفترة قصیرة فی الاخراج السینمائی ، على أن أهم أعماله غیر الشعریة هی تألیفه " قاموس الزقاق " الذی طبع منه خلال حیاته أحد عشر مجلداً ، مضافاً الى کمیة کبیرة أخرى من مواد هذا القاموس لو کتب لها التنظیم والنشر لزاد حجمه الى عشرین مجلداً . یضم هذا القاموس النادر مفردات وأمثالاً عامیة إیرانیة شائعة ویعد انجازاً قیماً فی حقل الأنثروبولوجیا والثقافة الشعبیة العامیة فی إیران خلال العقود الأخیرة.

" ألحان منسیة " أولى مجامیع شاملو الشعریة صدر سنة 1947 م وإکتنفت مقطوعات شعریة ونثریة .

جاءت الأشعار فی هذه المجموعة على نمط ( الأربعة أشطر) أو( الدوبیت المترابط ) مضافاً الى عدد من ( المثنویات ) ذات مسحة رومانتیکیة غاصة بالآهات الحرّى والأنین من هجر الحبیبة وجفائها . صاغها بلغة هشة وقدیمة وخالیة من التجدید ، تنم المقدمة القصیرة للمجموعة عن أن الشاعر نفسه إستسلم لطباعتها وهو على إستحیاء من مستواها . نقرأ فی هذه المقدمة :

 

" المقطوعات الملتئمة فی هذه المجموعة کتابات کان یجب فی الحقیقة أن تحرق ...

کتابات یجب أن ترمى مع الأزبال " .

لیس فی " ألحان منسیة " دلالة على معرفة بالشعر الایرانی القدیم ، ولا الشعر الحدیث الذی أطلقه نیما . یمکن أن ترصد فی قصائد هذه المجموعة تأثیرات أشعار رمانتیکیة من قبیل ما نظم حمیدی شیرازی وناتل خانلری، وفریدون توللّی . وبعد سنوات ، نقرأ فی خاتمة مجموعة " بیان ختامی " قول شاملو : " هذه القصیدة الثانیة [ بیان ختامی ] حصیلة ندمی وألمی من خطأی الصبیانی فی طباعة حفنة من القصائد الرکیکة والمقطوعات الرومانتیکیة الفجة فی مجموعة بعنوان " ألحان منسیة " أظن أن عارها سیبقى یثقل على کاهلی الى آخر العمر .

إنه عار ناجم عن تحولاتی الفکریة والمنهجیة قبل أن یکون ولید الضحالة الشکلیة فی قصائد المجموعة .

إستیقظت متأخراً ولکن على حین غیرة، بدأت أشعر بالالتزام یغوص فیَّ الى النخاع . یجب علیَّ الاعتراف بصدق أن " ألحان منسیة " کانت خطأً کبیراً لابد من إدانته " النقطة المهمة فی هذا الاعتراف النابع من یقظة الشاعر من عالم ذهنی ولغوی خاص عبرت عنه               " ألحان منسیة " هی اشارته الى التحولات الفکریة والمنهجیة وشعوره بالالتزام ، وهو ما سوف نتحدث عنه .

المجامیع الثلاثة : " 23 " و " الحدید والمشاعر " 1948م ، و " بیان ختامی " 1951 م کانت الجسر الذی انتقل علیه الشاعر الى " الهواء الطلق " 1957م مجموعته التی شکلّت له ملامح مختلفة وممیزة وشفت عن عدة أحداث مهمة أولها معرفته لنیما والشعر الحر ( النیمائی ) فکانت الثمرة المباشرة لهذا الحدث تحرر الشاعر من ذهنیة الرومانتیکیة السابقة ونمط        ( الأربعة أشطر) عدیم الجدوى .

فی هذه المجامیع یتسنى ملاحظة التأثیر الراسخ لنیما على شاملو سواء فی اللغة أو من حیث المضامین والطروحات الشعریة ، بنظرة إجمالیة یتاح القول أن المنجز الشعری لشاملو فی مجامیعه هذه لا شیء – رغم کل تحولاته – بتجربة مستقلة فی اللغة أو فی النظرة الشاعریة . ولعل " زهرة           " وهی من أشهر قصائده الحرة خیر شاهد على هذ القول :

 

* لا رغبة للیل فی النوم

   یعدو فی شرایین الحدیقة

   الریح بنیرانها المحرقة تعول

   تمسح بقبضاتها على زجاج الأبواب

   غصن لبلاب جاف

   من فزع لا یخطف الطوفان من مکانه

   لا أنوی الیأس أبداً

   تحت تبرم اللیل ، أسمع من بعید

   صوت أقدام شخص قادم [ الهواء الطلق ]

 

الحدث الآخر کان على صعید المحتوى ، ومن المعروف أن الأعوام السود التی تلت إنقلاب 1953 م خیمت بظلالها الرهیبة على کل الأصوات والهمسات فکان الشعر الحر أحد أفضل الأدوات للتعبیر عن تلک الحلکة . بعد أن تحرر شاملو من الرومانتیکیة السطحیة فی          " ألحان منسیة " توجه الى أوجاع المجتمع وجراحاته ، وصارت تعابیره مکتظة بالحزن والکراهیة والحدة والغضب من دون إنقطاع تام عن الأمل فی المستقبل ، وغدا ممدوحه إنساناً عنیفاً مقاتلاً . کانت هذه الرؤیة حصیلة تلک التحولات المنهجیة والفکریة التی سبق أن أشرنا إلیها .

یوضح شاملو ملامح هذه الرؤیة فی قصیدة " القصیدة هی الحیاة "من مجموعة " الهواء الطلق " والتی عدت بحق ( البیان الشعری ) لشاملو . فی الوهلة الأولى یمکن إکتشاف أن هذه القصیدة الساخرة هی على حد تعبیر الشاعر المعاصر ( منوجهر آتشی ) بیان حول الشعر قبل أن تکون قصیدة شعریة.

وفیما یلی بعض أبیاتها :

* الحیاة ... لم تکن موضوع الشاعر القدیم

   لم یکن یحاور إلاّ الخمرة والحبیبة

   فی سماء خیاله القاحلة

   یهیم فی الخیال لیل نهار

   تأسره جدائل الحبیب المضحکة

   والآخرون ...

   ید على کأس الصهباء

   وید فی ذؤابات العشیقة

   یعوون ثملین فی أرض الله

   موضوع الشعر الیوم موضوع آخر ...

   الشعر الیوم سلاح بید الشعب

   فالشعراء أنفسهم غصن فی غابة الشعب

   ولیسوا یاسمیناً أو سنابل فی حدیقة فلان وعلان ...

   نموذج الشاعر الیوم .

   هو الحیاة ...

   إنه یکتب الشعر

   أی إنه یصرخ آلام مدینته ودیاره ...

   أی إنه یعمر بنشیده الأرواح المتعبة ...

یمکن الاستغراق فی النقاش طویلاً حول آراء الشاعر بخصوص الشعر القدیم والحدیث ، لکننا إنما نذکر هنا هذه الآراء والتصورات لنؤکد أنه بقی ملتزماً بهذا البیان الشعری حتى آخر مشواره الأدبی ، أی أنه ظل مندکاً بالحالة الاجتماعیة والنزعة المبدئیة ضمن إطار الحرکة الیساریة العالمیة ، مواصلاً طریق شعراء نظیر مایاکوفسکی ، وناظم حکمت ، ولورکا ، وریتسوس .

ومما یؤید ذلک إدراجه رسائل وخاتمات نثریة لبعض قصائده . بل أن روایاته المنظومة التی قدمها بلغة حواریة یمکن تقییمها أیضاً ضمن هذا السیاق ، قصائد من قبیل ( الحوریات ) فی دیوانه ( الهواء الطلق ) و ( قصة بنات أم البحر ) فی دیوانه ( حدیقة المرآة ) التی حظیت بشعبیة واسعة وعدها البعض أفضل قصائد شاملو على الاطلاق :

 

* ولکن فی مدینتنا

   الله ، لیتکنَّ تعلمن ، ویُفضح الحجاب وأرباب الستائر ...

   یعتق الغلمان ، وتعمر الخرائب

   ینقلب الحصیر سجاداً فاخراً ، ویتحرر الأسرى من قیودهم

   الأسرى مملوؤون بالأحقاد ، یحملون مناجلهم

   یتحولون سیلاً : شُر شُر شُر

   یصیرون لهیباً : غُر غُر غُر

   اللعب بالنار جمیل جداً

   فی کبد هذا اللیل القبیح جداً

   ما أحلى النار ما أحلاها !

   وها هو الغروب قد اقترب [ الحوریات ]

  

من یتابع مسار المضامین فی أشعار شاملو بوسعه رصد إنعطافات وتحولات کثیرة تعکس حالات القلق والاضطراب والتشویش الروحی لدى جیل الستینات المهزوم . إنه مسار یقفز من الکفاح الى الهزیمة ، ومن الأمل الى الیأس ،  ومن الغضب والصخب الى کراهیة راسخة للآخرین ، ولیس هؤلاء الآخرون سوى الشعب الذی سبق للشاعر أن أعلن التزامه بالتعبیر عن مآسیه وقضایاه وقال: " حب الناس هو الشمس " وقال أیضاً: " لذا صرت سمندراً وسکنت نیران الشعب " لکن الشاعر الخائب یتحدث هذه المرة عما یحدث فی الخارج :

 

 

* موتی لیس سفراً

   بل هو هجرة

   من وطن لم أکن أحبه

   بسبب أهله

   منذ متى ترکتم

   الایمان بالناس ؟ [ آیدا ، والشجرة ، والمرآة ]

 

النماذج على ذلک لیست قلیلة ، وأشهرها قصیدة " هذا الهراء ، هؤلاء الناس " التی لم یعد یأبه فیها الشاعر لإنشاد أوجاع الناس وهمومهم ، ولیس هذا وحسب بل لقد أصبحوا هم أنفسهم الوجع والهم الذی یعانی منه .

فی طور لاحق من هذه المسیرة ، یعود الشاعر الیائس من الواقع الخارجی الى نفسه محاولاً الهرب من فظاظة المجتمع والمرارات الجهنمیة المحیطة به الى جنة صغیرة شیدها على الأرض ... على أرض بیته :

 

* نشید ذلک الذی یعود من الزقاق الى بیته

   أرى عیاناً ولیس فی الخیال

   سنواتٍ ثرة ً سوف أبدأها

   ذکرای الحبلى بحب عنیف ...

   بیت هادىء وشوقکِ المکتنز الصادق

   لتکونی أول التالین للنشید الجدید

   طاولةٌ ومصباح

   أوراقٌ بیضاء وأقلام رصاص مبریة جاهزة

   وقُبلةٌ هی الجائزة على قصیدة جدیدة

   بیت هادىء

   لا تنفتح نافذته على الزقاق

   ولا سبیل للنظارات والانحطاط الیه

   نعم ... فی أکثر لحظات الانتظار فتکاً

   أتابع حیاتی فی أحلامی

   فی أحلامی وفی آمالی [ آیدا فی المرآة ]

 

من هنا فصاعداً ، تعاود الرومانتیکیة شعر احمد شاملو ، لکنها لیست الرومانتیکیة الساذجة الأولى إنما تغزلات لطیفة تعانق الرؤیة الاجتماعیة للشاعر . کأن العواصف قد سکنت ، عاصفة الرومانتیکیة الأولى وعاصفة المبدئیة والتمرد ... ومن بقایا هذه وتلک تتناسج أغصان هادئة لتخلق ضرباً من الغزل الاجتماعی . یمکن ملاحظة ذروة هذه المرحلة من مجموعة

( آیدا فی المرآة ) 1964 فما بعد حیث تتبدى تجارب الشاعر العاشقة الحالمة ومسائیاته الوردیة فی قصائد بأسماء وملامح توحی بهذه المعانی وتستمر تقریباً حتى نهایة مطافه الشعری .

نکتفی بهذه الاشارات حول خصائص التجربة الأدبیة لشاملو کی ننتقل الى حدث أهم وقع له وللشعر الفارسی . مع أن الانضمام لرکب الشعر الحر والهموم الاجتماعیة کان حدثاً مهماً بالنسبة لشاملو ، إلاّ أن الشعراء الذین واصلوا طریق نیما من بعده ونظموا قصائد ملتزمة تنطبق والمعاییر التی آمن بها شاملو نفسه ، لم یکونوا قلائل بحال من الأحوال . على أن ما أسبغ هذا التمیز على شاملو هو أنه تجاوز مرحلة التعرف على أشعار نیما وأفکاره ووظف قریحةً نفض عنها أغربة التقالید لیبحث ویکتشف الامکانات الخفیة فی اللغة الفارسیة فانتهى به بحثه وذهنیته التجدیدیة الى مساحة تعد جدیدة وغیر مکتشفة أطلق علیها فی الأدب الفارسی اسم " شعر سبید " وتعنی حرفیاً ( الشعر الأبیض ) والذی یقصد منه ( قصیدة النثر ) هذا هو المدخل الجدید الذی أخذ بید شاملو – تدریجیاً وبعد مجامیع واکب فیها نیما – الى مضمار مستقل وفتح مناخاً فسیحاً أمامه وأمام الشعر الفارسی ، وإجتذب کثیراً من القرائح لتقتفی آثاره وحض الکثیرین على تقلید لغة شاملو واسلوبه ونظرته العامة ، ودفع آخرین أکثر إبداعاً وإستقلالاً الى البحث عن سبل جدیدة وغیر مسبوقة .

لم تکن تجربة قصیدة النثر عدیمة الجذور فی اللغة الفارسیة ، ففی النثر العرفانی وتفاسیر القرآن الکریم وترجماته للفارسیة ، وکذلک النصوص التاریخیة الموروثة عن الحقبة الأولى من النثر الفارسی ثمة العدید من المقطوعات ترجح على خیرة نماذج قصیدة النثر المعاصرة .

شاملو نفسه کان قد أشار مراراً الى بعض هذه المصادر الملهمة ، ومنها تفسیر " کشف الأسرار وعدة الأبرار " لأبی الفضل میبدی ، و " تفسیر عتیق " للنیشابوری ، و " تفسیر سورة یوسف " لأحمد بن محمد بن زید الطوسی ، و " أسرار التوحید " لمحمد بن منـور ، و

" تاریخ البیهقی " .وبعد إتساع نطاق المعرفة بالنصوص الفارسیة القدیمة إثر تصحیحها ونشرها ، یمکن الیوم إضافة عشرات الکتب والنصوص الجیدة الأخرى الى القائمة أعلاه تکتنف فی مطاویها ملامح مذهلة لقصیدة النثر ، غیر أن النقطة التی لا مناص من الاشارة الیها هنا هی أن أولئک القدماء لم یطلقوا اسم " الشعر " على هذه القطع النثریة ، لأنها لم تکن لتندرج ضمن تعریفهم للشعر وهو " الکلام المخیّل الموزون المقفى " وهذه القطع رغم ما تتمتع به من خیال وسجع ، بل ورنین موسیقی مؤثر ، إلاّ أنها خالیة من أی وزن عروضی .

وبغض النظر عن النصوص القدیمة ، ثمة فی أعمال متفرقة لبعض المعاصرین أیضاً تجارب محدودة لأشعار خالیة من الأوزان لم تکتسب الأصداء اللازمة للتحول الى تیار فاعل متحرک بسبب إفتقارها للجمالیات والتأثیر الکافی . لکن العکوف المرکز والجرىء لشاملو على هذه الامکانیة فی شعره کان ممیزاً الى درجة أنه إنتهى الى ضرب من التبلور والنجاح .

ثمة عاملان کان لهما تأثیر بین فی تعزیز هذا المنحى یجب عدم إغفالهما بأی حال من الأحوال : الأول معرفة شاملو للشعر المترجم وخصوصاً شعر أمریکا اللاتینیة وأوروبا ، والثانی حبه الغامر ومعرفته للموسیقى . ویمکن أن نضیف لهذین العاملین إستلهامه وإقتباساته الذکیة من النثر الفارسی القدیم والأسالیب الرنانة التی نقرأها فی ترجمات النصوص المقدسة.

ولا بأس من الالماح هنا الى أن إستلهامه للصور واللغة فی النصوص التفسیریة والعرفانیة _ الصوفیة القدیمة رغم إشاعتها لوناً من الماضویة اللغویة فی شعره ، إلاّ أن ذلک _ حسب تأکیداته وتنبیهه المتکرر _ لا یدل على سنخیة وتماه مع عوالم العرفان والآداب الصوفیة والفضاءات القدسیة .

لتلافی الفراغ الناجم عن غیاب الأوزان ، بادر شاملو فی قصائده المنثورة الى آلیات تعویضیة منها استخدام الأسالیب اللغویة والایقاع اللذان شهدتهما الحقبة الأولى للنثر الفارسی ( القرنین الرابع والخامس للهجرة ) مضافاً الى التجمیل بالمفردات والتکرار والملاءَمة الموسیقیة للحروف الساکنة والمتحرکة المتناغمة ، وکذلک القوافی الجانبیة والداخلیة ، وتکرار بعض الکلمات أو الجمل فیما یشبه الترجیع ، وآلیات أخرى لا یتسع مجال البحث لشرحها .

مهما یکن ، فقد صدرت لشاملو 18 مجموعة شعریة : " ألحان منسیة " ، " 23 " ،           " قطع الحدید والمشاعر " بیان ختامی " الهواء الطلق " حدیقة المرآة " آیدا فی المرآة " اللحظات والآباد " آیدا، والشجرة ، والخنجر، والذاکرة " ققنوس فی المطر " مرثیة التراب " ، " إزدهار فی الضباب " إبراهیم فی النار " و " سکّین فی الصحن " .

وقد صدرت کلها قبل الثورة ، أما بعد الثورة فصدرت له : " أغنیات صغیرة للغربة " و      " مدائح بلا جوائز " على الأعتاب " و " قصة قلق ماهان " .

ینبغی تحری ذروة شاملوالشاعریة فی عقدی الستینات والسبعینات من القرن المنصرم ، وهی ذروة بقیت بعیداً عن متناول قریحته فی العقود الأخرى . قد لا تتسع سطورنا هذه لمراجعة دقیقة لشعر شاملو وتحلیله ونقده کما یستحقه ، إلاّ أننا سنکتفی هنا بالاشارة أنه بعد وفاته فی عام 2000 والتطورات الهائلة التی شهدتها أفکار الجیل الصاعد وأذواقهم الأدبیة ورؤاهم السیاسیة والاجتماعیة خصوصاً بعد إنهیار الاتحاد السوفیتی وخیبة المنبهرین القدامى بالحرکة العالمیة الیساریة ، بعد کل ذلک لم یعد من الممکن الشک فی أن شطراً کبیراً من مضامین المنجز الشعری لشاملو قد فقد بریقه ، مرجعیته وظلاله التی مدها على مقلدیه المعروفین ، فقد لاحظنا أن کثیراً منهم تخلوا عن مجاراته منعطفین نحو تجارب إبداعیة أخرى . ومع ذلک لا سبیل الى إنکار أن تجاربه الثرة فی اللغة والتناغم للموسیقى للحروف ، والصورالمتخیلة لا تزال ماثلة أمام السائرین على جادة الشعر المعاصر .

 

 

  • مهدی أخوان ثالث ( م . أمید )

 

   لسنا بشیء

   لسنا بشیء، وأقل من اللاشیء

   لسنا من سکان هذا العالم الذی ترونه

   ولا من سکان العوالم الأخرى

   ما هذا ؟! من نحن ومن أین نحن إذن ؟

   قلت لکم ...

   من عالم اللاشیء وأقلّ من اللاشیء .

 

ولد مهدی أخوان ثالث سنة 1928 م فی مشهد ( شمال شرق ایران )، وشدته هو أیضاً فی بدایاته رغبة جامحة للموسیقى ، فتدرب فی شبابه على العزف ، خصوصاً على آلة ( تار ) والموسیقى الایرانیة التقلیدیة . بدأ الشعر بمحاولات کلاسیکیة فأثبت أصالة موهبته وقدراته بنظمه غزلیات وقصائد متینة النسج .

عیشه ونشأته فی جغرافیا ثقافیة تابعة لأحد أثرى حواضن اللغة الفارسیة ( اقلیم خراسان ) وإنتهاله من أعمال وقصائد رواد کبار نظیر الحکیم أبی القاسم الفردوسی وناصر خسرو قبادیانی وسواهما من رموز الشعر الفارسی القدیم ، مضافاً الى موهبته الذاتیة جعلت منه الشاعر الذی مثّل الجسر الواصل بین المدرسة الخراسانیة والشعر الحر ، وحدا به الى طریق شکّل همه الشعری منذ سنوات شبابه . نظم فی الحادیة والعشرین من عمره یقول :

 

أمید ، الغزلیات القدیمة لا تدغدغ الفؤاد

فکّر فی أن تعزف ألحاناً جدیدة

 

فضلاً عن القدماء ، کان ایرج میرزا ، وملک الشعراء بهار ، وعماد خراسانی ، ومحمد حسین شهریار نماذجه التی احتذاها من بین المعاصرین الى أن إنتهى به المطاف الى نیما یوشیج " میلی الأخیر کان نحو نیما ، لماذا ؟ لأنی وجدت أنی أستطیع التعبیر بهذه الطریقة أفضل " .

سوف نتخطى مجموعته الشعریة الأولى " أرغنون " باعتبار أنه أصاب شهرته وسمعته الأدبیة بعد صدور مجموعته " الشتاء " سنة 1956 م  بعد ثلاثة  أعوام على إنقلاب

1953م ضد حکومة مصدّق الذی کان له انعکاسات متباینة بین المثقفین أبرزها الخیبة التی سببتها نکسة هذا الانقلاب . وقد تبدت هذه النکسة فی ذهنیة أخوان ولغته الشعریة على شکل نزعة عدمیة فلسفیة أحیاناً . إقترب أخوان لفترة قصیرة من أحد التنظیمات الیساریة ثم سرعان ما تخلى عن النشاط الحزبی بعد سجنه لمدة قصیرة ، إلاّ أن الهم السیاسی والاجتماعی لم یفارق نتاجه الشعری الذی یمکن نعته – بلا مبالغة – أنه من أکثر نماذج الشعر السیاسی توفیقاً :

 

* لا یریدون الرد على سلامک

   الرؤوس غاصة فی الجیوب

   لا یرفع أحد رأسه لیرد السلام أو یلتقی الأصدقاء

   لا تتجاوز النظرات أعتاب الخطوات

   فالطریق حالک وزلق [ الشتاء ]

 

المرارة والسوداویة التی إستباحت التصورات بعد هزیمة المبادىء والمطامح جعلت من هذه القصیدة بیاناً جد بلیغ یصور الأحوال فی تلک الأعوام . ولابد من التنویه بأن شاعریة الرؤیة ورمزیة التعبیر عند أخوان جعلت هذه القصیدة رغم إکتظاظها بالیأس والمرارة من أجمل نماذج الشعر الایرانی الحدیث الذی بقی محفوراً فی الخواطر ومارس دوراً مشهوداً فی إشاعة النمط الشعری . إنها قصیدة تعد لحد الآن من أشهر نتاجات الشاعر ، حیث یتسنى رصد جلّ خصائصه الشعریة فیها نظیر إستلهام المنحى الخراسانی ، والغنى الموسیقی الناتج عن نوعیة الوزن والموسیقى الداخلیة والالتزام بالقافیة والبنیة الشعریة .

بعد ثلاثة أعوام على صدور " الشتاء " نشر أخوان مجموعته " آخر الشاهنامه " وکان ذلک فی عام رحیل نیما عن الحیاة . کان أخوان قد حقق فی ذلک الحین شهرة کبیرة وصار أبرز تلامیذ نیما وأتباع مدرسته . وتضمنت مجموعته هذه طائفة من أروع قصائده نظیر : الهندب، البحر ، إسکندر ، آخر الشاهنامه ، والنوافذ :

 

* ماهی أخبارک أیها الهُندب ؟

   من أین وممن جئتنا بالأخبار ؟

   عسى أن تکون أخباراً سارة ، ولکن ...

   ها أنت تحوم حول بیتی بلا أی طائل ...

   [ .... ]

   أیها الهندب !

   غیوم العالم کلها تبکی فی فؤادی

   لیل نهار [ الهندب ]

   ( والهندب " أو زهرة القطن " فی الثقافة الشعبیة الایرانیة هی الرسولة التی تأتی بالاخبار)

على أنّ ذروة تألق أخوان کانت بعد ذلک بست سنوات فی مجموعته " من هذا الأفیستا " التی ذیلها بخاتمة أثارت غیر قلیل من الجدل ، وقال فیها أخوان بصراحة أنه لم یکن بوسعه أن یکون حراً تائهاً عدیم الایمان ، فهب بنفسه لمساعدة نفسه ، أعد بنفسه الماء والینبوع المقدس لسمکة ذاته الضائعة المضطربة ، وصالح بین زرادشت ومزدک فی قلبه وعالمه ...

بصرف النظر عن هذه الخاتمة التی لم یُنظر إلیها بجد ، بل ولم یبق منها عبر السنین غیر ذکرى شکوک مزلزلة عاشها جیل تفرق أعضاؤه کلٌّ فی طریق ، وربما فی متاه ، بعد أن ذهبت مبادئهم أدراج الریاح ، بصرف النظر عن تلک الخاتمة ، نلاحظ فی المجموعة عدداً من القصائد عصیة على النسیان : الصلاة ، اللوح ، فجأة أفول أی نجم ؟ هناک بعد الرعود ، قصة مدینة الحجر :

* فی أحلامی

   هذه المیاه الأهلیة المتوحشة

   قوافل الفزع والهذیان على إمتداد البصر

   مَن هذا ؟ ذئب محتضر ، جریح فی عنقه

   جراحه تنتقص من أنفاسه کل لحظة

   یئنُّ أساطیره حین یحین دوره

   یفنیها هذا الجسدُ المیتُ بنایه

   ومن هذا ؟ ضبع هبَّ من الهاویة

   متخم بجیفة دفینة

   نظراته لا تأبه لنظراتی

   یمسح فمه فی التراب [ هناک بعد الرعود ]

توفی أخوان سنة 1990 م وهو فی ال 62 من عمره ودفن الى جوار حکیم طوس أبی القاسم الفردوسی فی خراسان . مجامیعه الشعریة الأخرى : " الصید " 1956 ، " خریف فی السجن " 1969 ، " فی الباحة الصغیرة لخریف فی السجن " 1976 ، " تقول الحیاة : ... ولکن لابد من مواصلة الحیاة " 1978 " " الجحیم البارد " 1978 ، " أحبک أیها الوطن القدیم " 1989 .الا أنه لم یکرر فی أی منها ذروة تألقه فی مجامیعه الثلاث " الشتاء " و " من هذا الأوفیستا " و " آخر الشاهنامه " .

بل أن مجموعته الأخیرة التی ضمنها أعماله الکلاسیکیة أثارت سخط طیف أراد لأخوان البقاء فی دائرة الشعر الحدیث ، فعدوا إصدارها ضرباً من التراجع سجلته مسیرة أخوان ، وعودةً إلى مجموعته الأولى " أرغنون " ، ونکوصاً الى أحضان القوالب البائدة، أعتمل فی ذهنیة تقلیدیة ، وحاول فریق آخر تفسیر القضیة بالقول أن الشاعر فقد فی السبعینات والثمانینات توثبه الفکری ولم یکن أمامه من سبیل سوى العودة الى التراث .

ولکن على أیة حال ، فأن مراجعة أشعاره وکتاباته وأقواله تذکرنا دائماً أنه لم یکن - رغم التحاقه بقافلة نیما- من الشعراء الذین استهواهم المنحى المتطرف فی الحداثة ، ولم یفکر فی التنکر المطلق للتراث والشعر التقلیدی إنما راح ینظم الشعر الحر من منطلق الوفاء للتراث والاعتزاز به .

جاء فی مقدمة " أرغنون " :

" من المحتمل أن تکون لی فی المستقبل أیضاً مثل هذه المحاولات "

ونضیف هنا أن أخوان قدم بعض التجارب فی مضمار قصیدة النثر لم یکتب لها التوفیق ، بل أقنعت الشاعر أن " الشعر غیر الموزون ینقصه شیء عن الشعر " وقد ظلت ممارسته لهذا النوع الى جانب الشعرالتقلیدی طوال هذه المدة ،ضمن حدود التسلیة والترفیه العابر ، إلاّ أنها تسلیة تمخضت أحیاناً عن نماذج قمینة بالاهتمام .

 

  • سهراب سپهری :

 

   من أهل کاشان أنا

   حیاتی لا بأس بها

   أملک کِسرة خبز ، وقلیلاً من ذکاء ، وذرةً من ذوق

   لی أمّ أفضل من ورق الأشجار

   وأصدقاء أفضل من المیاه الجاریة

   واله قریب منی دوماً

   فی ثنایا هذه الأزهار ، عند جذع شجرة الصنوبر تلک .

   على وعی المیاه ، وفی قوانین النبات ....

 

        ولد سهراب سبهری فی کاشان سنة 1928م ، وکان أبوه فناناً یمارس فنون الشعر والموسیقى والرسم والخط ضمن حدود معینة وقد توفی فی صبا إبنه تارکاً له حب الفن . قضى سهراب طفولة مزحومة بالذکریات فی بیت أبیه بکاشان وحدیقته الکبیرة الملیئة بالزهور ... مدینة قدیمة ذات عمارة مذهلة وتاریخ  ثقافی ثر ، وخزین من الفلسفة والأدب والعرفان . شدة إعجابٌ عمیق الى دواوین سنائی ، والعطار، وحافظ ، ومولوی ، وفردوسی ، ونظامی ، إلاّ أن صائب تبریزی ، وکلیم کاشانی ، وبیدل دهلوی – کبار شعراء المدرسة الهندیة        ( الأصفهانیة ) فی الشعر الفارسی – کانوا المفضلین لدیه أیام شبابه ، حتى أن دواوینهم لم تکن لتفارقه فی حضر أو سفر ، وربما کان هذا الهیام هو الذی أفشى لوناً زاهیاً من أسالیب المدرسة الهندیة فی نتاجات سبهری .

وبسبب رغبة جامحة نحو الرسم تفاعلت دائماً فی نفسه ،درس هذا الفن فی جامعة طهران ، وسافر کثیراً للمشارکة فی معارض ومسابقات فنیة وزار کثیراً من بلدان العالم ، فتعلم فی الیابان فنون الحفر على الخشب ، وتعرف فی فرنسا على فن اللیتوغرافی ، لکنه أقام مرسمه فی قریة خضراء ضواحی کاشان بعیداً عن صخب المدن الکبرى ، کما إشتغل لسنوات قلیلة فی دوائر حکومیة فارقها سنة 1961م الى غیر رجعة .

نشر وهو فی التاسعة عشرة مجموعة من غزلیاته وأشعاره التقلیدیة  تحت عنوان " بجوار الثیل " أو " ضریح الحب " ، وربما کانت الفائدة الوحیدة لهذه المجموعة – التی نسیت لاحقاً من قبله هو خصوصاً ، ولم تدرج ضمن الکتب الثمانیة- أنها کانت جسراً لانتقاله الى إحتراف الشعر وتعرفه على شعراء من قبیل مشفق کاشانی شاعر الغزل المعاصر القدیر .

ورغم هذا فأن سبهری فارق فی طور لاحق تلک الأشعار والأسالیب ولم یعاود الوئام معها .

وهکذا نسیت " بجوار الثیل " ، وکانت مجموعته الأولى " موت اللون " التی صدرت عام 1951م، وتوفرت على لغة ومناخات شعریة تعید للذهن أشعار نیما بل وأحزانه ورؤاه أیضاً، إلاّ أنها لم تحظ بنصیب یذکر من مهارة نیما فی التصویر والبیان الشعری .إستخدم سبهری فی مجموعته هذه لغة رمزیة للتعبیر عن أجواء حالکة ، وفی عنوانها " موت اللون " دلالة على السأم والسوداویة الفاشیة فیها ، مضافاً الى عناوین کثیر من قصائدها :

فی قصر اللیل ، دخان یتصاعد ، لیل مضیء ، السراب ، نحو الغروب ، همٌّ مهموم ، النوم ، منزوع الروح ، بارد القلب ، الوادی المطفأ ، النادر ، الجدار ، الوهم ، والنشید الخفی .

المجموعة من أولها الى آخرها حدیث عن الظلام والعتمة ، وقد یُسمع صوت متفائل من البعید أحیاناً ولکن هیهات أن یکون ثمة سبیل سالک الى ذلک الصوت . العالم یلوثه النوم والخوف ، فی لیل ثقیل مطفأ ، سحر المساء منبث فی کل مکان والشاعر یغسل بکاءه وضحکاته بالسم ، أفکاره تتحرک فیما یشبه دودةً فی أرض تبللها السموم ، وشعره نبات مُرّ یتفتح فی أرض مسمومة .

هذه هی السطور الأولى من أولى مجامیع سهراب :

 

* منذ أمد طویل وأنا أسکن هذا التوحد

   لون الانطفاء متربع على شکل الشفاه

   صوت ینادینی من بعید

   لکن أقدامی فی قبر اللیل

   لا کوّة فی هذه العتمة

   الأبواب والجدران متلاصقة

   إذا إنزلق على الأرض

   فرَّ هیکل وهم ٍ من أصفاده [ فی قبر اللیل ]

 

        صدرت " حیاة المنامات " سنة 1953م ولا تزال رؤى الشاعر فیها مغلولة بظلال اللیل ، لا تزال المنامات مریرة ، والفوانیس مبللة ، والأغصان مکسرة ، والنوافذ مفتحة على الفراغ ، والرؤى مبضعة منهوشة ، جذور الضیاء تمارس التقبیل ، والحیاة فی أعماق عتمة غرف ٍ کأنها الأقبیة .. ولکن فی أواسط الطریق ، حین تجتاز المجموعة نصفها الأول ، تتفتح بعض النوافذ شیئاً فشیئاً على صوت الشاعر ونظرته :

 

                * فجأة ـ یحطُّ شعاع من الضوء على ستائری

                   وأعود الى الحیاة وسط إضطراب غامض

                   آثار أقدام تملأ کینونتی

 

هاهو الشاعر یتذوق طعم الصحوة من النوم والتحرر من اللیل ویتفرج على کینوته کلها فی أضواء هذه الصحوة ، ومع ذلک لا تزال هناک خمسة أو ستة أعوام هلى ولادة       " أنقاض الشمس " 1961م التی کنست نفایات المناخات الحالکة المرة .

 

فی " أنقاض الشمس " نطالع الوزن أحیاناً ، واللاوزن أحیاناً أخرى ، إلاّ أن نظرات الشاعر هربت الآن من وطأة السواد والضیاع ، وغادرت الشکوک والتحرق ، فبدأت المکاشفات والتضالیل وتبدى الانفصال و التمیز بین العالم الشعری لسهراب والعوالم الشعریة لدى الآخرین . إنها إنطلاقة التفرد والتجرید حتى نصل الى " شرق الحزن " 1961م حیث العرفان الطروب وکأن جلال الدین المولوی بعث لینظم شعراً حراً :

 

* وتر أنا : أسیر للألحان ، أنهض وأعزف بلحن " لا " أعزف طریق الغناء ...

   دخان أنا : أدور ، أنزلق ، وأفنى

   أحترق ، أحترق ، أنا فانوس الآمال ، إجعلنی وردةً وأخرج ...

   [ ... ]

   القرآن فوق رأسی ، والانجیل وسادتی ، والتوراة فراشی

   والأفیستا قمیصی الداخلی ، أرى فی المنام

   بوذا فی نیلوفر المیاه

   أینما نبتت أزهار المناجاة قطفتها لأجعلها باقة ورد [ شوقی ... ]

 

شهد عام 1961 م والأزمنة القریبة منه ضجة کبرى .. معظم الشعراء الحداثیین إتخذوا المدرسة المادیة أرضیةً فکریة لأعمالهم بخلیط من العدمیة والفلسفیة والاجتماعیة . الجمیع کانوا سیاسیین ، طبعاً فی ظل رمزیة تستطیع التسرب عبر غرابیل الرقابة . کانوا یفکرون فی تغییر العالم . فی مثل ذلک الزمن والظروف ،کانت " شرق الحزن " مظهراً لانفصال تام بین شاعریة سپهری وشاعریات أخرى : إنکفاء طروب على الذات وبهجة عرفانیة عذبة ، بحث عن جذور معنویة ، وتنکر للسیاسة ، وزهد أکید فی ضجیج المقاهی التنویریة وحرکاتها الاستعراضیة الدارجة ...

        وهکذا نحت سهراب سبهری عالمه الشعری الخاص وتقدم فیه مجموعة " مجموعة "  " صوت أقدام الماء " 1965م " المسافر " 1966 م، " الحجم الأخضر " 1967م ، " نحن لا شیء ، نحن نظرة " 1976م ، وکان ذلک الاندفاع العنیف للرقص والغناء والطرب قد ترک مکانه لسکینة أبدیة حالمة ، وغدت وحدة الوجود ، وإستلهام النصوص الدینیة والمعنویة ، والتعابیر السوریالیة ، والربط بین عناصر من المدرسة الهندیة وأخرى من المدرسة الحدیثة ، والأسلوب الصمیمی الزلال الى السرد الشعری ، غدت کلها مکونات ثابتة فی المنحى الشعری لسهراب .

 

ما حقق الإقبال العام على شعر سبهری هو بالدرجة الأولى قصیدتا " صوت أقدام الماء " و " المسافر " وقد أضحت بعض السطور الشعریة فیهما جملاً مأثورةً تداولتها ألسن العوام والخواص . نزع سهراب فی مجموعتیه الأخیرتین مزید من التجرید والصور الخالصة الى درجة أحبطت الکثیرین من عشاق شعره ومنعتهم من مواکبته . الآراء حول شعره مختلفة ولافتة . فلفیف من شعراء الستینات والسبعینات المعروفین رفضوا هذا الشاعر بصراحة ، وکان هناک من أعتبر عرفانه نشازاً فی غیر وقته ومما لا یمکن تصدیقه ، وآخرون عدوه طفلاً بوذیاً إرستقراطیاً أسدل جفنیه بدم بارد ٍ عن کل القنابل والرصاص الذی تفجر أمامه، وفریق أخذ علیه تأثره بعرفان الشرق الأقصى ولامه آخرون لغیاب الحب الأرضی فی نتاجه ونال بعض النقاد من بنیته الشعریة بتعابیر ساخرة مثل " جدول ضرب الکلمات " وفی هذه الغمرة ربما کانت فروغ فرخزاد أشهر شاعر حداثی أعلن بکل صراحة أن " سبهری " هو خیارها الأول أو أنه العالم الساحر .

أیاً کان ، لا مجال هاهنا للخوض فی کل هذه الآراء والنقود ، وقد صدرت الکثیر من الکتب والبحوث حول سهراب وشعره فی إطار شعبیته الواسعة ، لکنی أظن أن أکبرها فائدةً للولوج الى عالمه الوردی هما کتابان لسهراب نفسه إختار لهما عناوین :

" الغرفة الزرقاء " و " لازلت مسافراً " والملاحظة الأخیرة حوله هی أنه لم یتحدث قط فی لقاء صحفی ولم یکتب نقداً أبداً ، وعاش فی ذروة إحترافه الشعری والفنی وکأن الشعر والفن لیسا غیر هامش ضئیل من هوامش حیاته .

توفی سهراب سبهری سنة 1980م على أثر سرطان أصابه فی الدم ودفن فی مشهد أردهال من توابع مدینته کاشان .

 

 

  • فروغ فرخزاد

 

   وها أنا الآن ...

   إمرأة وحیدة

   على أعتاب فصل بارد

   فی بدایة وعی کینونة ملوّثة ... کینونة الأرض

   وقنوط السماء البسیط الحزین

   وعجز هذه الأیدی الأسمنتیة

 

        ولدت فروغ فرخزاد سنة 1934م فی طهران لوالد کان ضابطاً فی الجیش . فی السادسة عشرة من عمرها ، شدّها حبٌّ ساذج لبرویز شابور الشاعر والکاتب الساخر الذی یکبرها بأحد عشر عاماً . وبعد أربعة أعوام من الزواج ظهرت أولى مجامیعها الشعریة باسم " الأسیر " فرفعتها الى منزلة نادرة من الشهرة ... شهرة مثیرة للجدل لا تعزى الى متانة الشعر بمقدار ما تنبعث من مضامین لم یسبق أن ألفها المجتمع على لسان الشاعرات .. صراحة فاضحة فی التعبیر عن تفاصیل اللذة الجنسیة والحب الأرضی " الأربعة أشطر " أو

" الدوبیت المتصل " هو الشکل الذی إستوعب أشعار هذه المجموعة ، أما المنحنى الرومانتیکی السطحی للقصائد وخزینها المضمونی فیذّکر بـ " فریدون توللی " کنموذج إحتذته فروغ فی تجربتها الأولى ... نموذج تفصله فراسخ شاسعة عن نیما یوشیج .

        تضعضت الحیاة العائلیة لفروغ بفعل التبعات التی إستدعاها صدور المجلة ، فرضیت الشاعرة الشابة بحرمان إختیاری حین ترکت طفلها ذا العام الواحد لوالده شابور .

فی سنة 1956م صدرت مجموعتها الثانیة بعنوان " الجدار " وبعد عام ظهرت المجموعة الثالثة حاملة إسم " التمرد " وکانت السیادة فیها لا تزال معقودة للأربعة أشطر      ( والذی یمکن أن نعتبره رباعیات غیر مستقلة تکتمل معناها بالتواصل مع الرباعیات الأخرى فی القصیدة الواحدة ) رغم قصائد قلیلة ذات أشطر قصیرة وطویلة ومتحررة من التساوی العروضی . أما هیمنة الرومانتیکیین على فروغ فکانت لا تزال بادیة للعیان : شعراء مثل نادر بور ، ومشیری ، واسلامی ندوشن .

الهم الرئیس للشاعرة فی هاتین المجموعتین لم یکن قد بارح ما کان علیه فی مجموعتها الأولى : مشاعر فتاة تلهب ضمیرها مطامح الشباب ، تنظر الى کل شیء وکل شخص حوالیها لکنها تعود فی النهایة الى جغرافیا الفراش . وتستمر هذه الحالة لتستغرق حتى القصائد التی نظمتها فی رحلاتها للبلدان الغربیة :

 

* السماء مضیئة بتجلیات القمر

   کأنها صفحة قلبی

   أهرب اللیلة من نومی

   فخیالک أعذب من النوم

   محدِّقة فی ظلال الصفصاف الوحشیة

   أزحف الى صمت فراشی

   ألقی برأسی على دفتری

   بحثاً عن أنغام ٍ ترضینی [ فجر الحب ]

تقول فروغ عمن اقتدت بهم شعریاًُ :

" إکتشفت نیما متأخرةً جداً ، وربما فی الوقت المناسب جداً ، أی بعد کل التجارب والوساوس وإجتیاز طور من التیه والبحث ...

فی الرابعة عشرة کان مهدی حمیدی شاعری المفضل ، وفی العشرین نادر بور ، وسایه ، ومشیری .

وفی تلک الفترة إکتشفت أیضاً لاهوتی ، وکلجین کیلانی ، وأرشدنی هذا الاکتشاف الى فروق وقضایا جدیدة صاغ شاملو أشکالها بعد ذلک فی ذهنی ، وبعد ذلک بأمد طویل جاء نیما الذی کوّن تقریباً عقیدتی وذوقی النهائی بخصوص الشعر مسبغاً علیه ضرباً من الحزم والاطلاق .

کان نیما بالنسبة لی بدایة .. إکتشفت فی بساطته بساطتی ... التأثیر الراسخ الذی ترکه فیَّ نیما یتعلق بلغته وأشکاله الشعریة "

مع نیما تصل فروغ الى " ولادة أخرى " سنة 1962م ، المجموعة التی یبتدأ فیها الشعر الحقیقی لفروغ . فقد ذکرت فی مناسبات عدة أن قصائدها الماضیة لیست سوى أشعار فتاة ثانویة تغص بالآهات والتحرق ، وراحت تصر على إبتعادها عن تلک الفضاءات :

" لا أدری هل کانت تلک أشعاراً أم لا ؟ أدری فقط أنها کانت تمثلنی تمثیلاً تاماً . کانت قصائد حمیمة . وأدری أنها کانت سهلة جداً . لم أکن قد تکونتُ بعد . لم أکن قد عثرتُ بعد على لغتی وشکلی وعالمی الفکری . کنت فی بیئة صغیرة وضیقة یسمونها الحیاة العائلیة .

بعد ذلک وعلى حین غرة خلوتُ تماماً عن تلک الأحوال . غیّرت بیئتی ، أی أنها تغیرت بصورة إضطراریة وطبیعیة ... " الجدار " و " التمرد "  کانتا فی الحقیقة تخبطاً یائساً بین مرحلتین من حیاتی " .

        فی " ولادة أخرى " نقف حیال عدة أحداث : الأول حدث على مستوى الشکل والقالب الشعری ، حیث نواجه من الآن فصاعداً شاعرة نیمائیة تماماً ، تستعین بذکائها وموهبتها الشعریة الأصیلة – ومن دون أن تکون لها معرفة عمیقة بالعروض – لتصیب نجاحات ممیزة فی تنمیة الأوزان الحرة ( النیمائیة ) وصفتها هی بأنها تشبه المساعی التی بذلها سهراب سپهری وم . آزاد فی هذا المجال . ولکن باستثناء القصائد الحرة ، ثمة فی هذه المجموعة مثنویان هما " المستنقع " و " بحب " وقصیدة باللغة المحلیة طویلة نسبیاً عنوانها " قالت لعلی أمّه ُ یوماً " .

        الحدث الثانی جاء على مستوى المضامین والمحتوى ، فلم یعد هناک أثر لفتاة الثانویة تلک بدموعها وآهاتها الساخنة ، إنّما نحن هذه المرة أمام شاعرة مفکرة ذات آراء إجتماعیة تقدمها فی شعر زلالٍ متحرر من الکلمات والمضامین الروتینی ، شاعرة تکتشف فرصاً کبیرة فی مفردات لم یکن مسموحاً لها من قبل أن تدخل النصوص الشعریة ، فتخلع بکل جرأة رداءً شاعریاً على جسد کلمات تبدو فی ظاهرها غیر شاعریة . مع أن لغة فروغ فی هذه المرحلة جنحت نحو الرمزیة إلاّ أنها بقیت تتحاشى الغموض والتعقید :

 

* عندها

   بردت الشمس

   وغادرت البرکة الأرضَ

   وجفت الخضرةُ فی المزارع

   وجفت الأسماک فی البحار

   وراح التراب یرفض أمواته

   ویلفظهم

   ماعاد هناک من یفکر بالحب

   ماعاد هناک من یفکر بالفتح

   وماعاد هناک

   من یفکر بأی شیء

   [ .... ]

   الشمس کانت قد ماتت

   ولا أحد یعلم

   أن الحمامة الحزینة

   التی هربت من القلوب إسمها : الایمان [ آیات أرضیة ]

 

        الرمزیة الاجتماعیة للشاعرة وإیماءاتها الى ما یجری فی ساحات المجتمع والسیاسة مما لا یخفى على أحد . أضف الى ذلک نظرتها المتسائلة للعلاقات بین البشر ، وللوجود النسوی ، وللتوحد المدمر ، وحتى للحب ، وإغتراب الطفولة ، أضفت جمیعها حزناً انسانیاً محبباً على أشعارها قد یمتد الى تخوم القنوط أحیاناً :

 

* بکیت الیوم کله أمام المرآة

   [ ... ]

   لا أستطیع ... ماعدتُ أستطیع

   صوت أقدامی کان یرتفع من رفض الطریق

   وقنوطی صار أوسع من صبر الروح

   وذلک الربیع ، ذلک الوهم الأخضر

   الذی مرَّ على النافذة ، قال لقلبی :

   " أنظری !

   لم تتقدمی أبداً

   بل قد غرقتی "

 

        موقف فروغ من السمات النسویة لشعرها کان موقفاً عقلانیاً بمنأى عن أی إنفعالات کاذبة : " اذا کان شعری ، کما قلتم ، ذو طابع أنثوی ببعض الشیء ، فهذا طبیعی وسببه أننی إمرأة . أنا إمرأة لحسن الحظ . ولکن اذا کان الحدیث عن القیم الفنیة فأظن أن الجنس لن یعود له محل من الاعراب ، ولن تکون إثارة هذه القضیة صحیحة أبداً .

من الطبیعی أن تهتم المرأة إنطلاقاً من طبیعتها الجسمیة والشعوریة والنفسیة لقضایا قد لا یهتم لها الرجل . إذا تصورتم أننی بسبب أنوثتی یجب أن أتحدث دائماً عن هذه الانوثة ، فهذا مؤشر مراوحة بل وإضمحلال وزوال لی کشاعرة بل کانسانة أیضاً "

 

کلمات من هذا القبیل تجری على فم فروغ ذات الثلاثین عاماً – قبل عامین فقط من وفاتها – لهی دلیل على سعی حقیقی من أجل التدبر والاستلهام.

 " لنؤمن بحلول فصل البرد " آخر مجموعة شعریة لفروغ صدرت بعد وفاتها سنة 1972م وضمت قصائد کان معظمها قد نشر فی الصحف والمجلات قبل وفاتها . طبیعة القصائد تشیر الى أن حیاتها القلقة کانت قد رست على ساحل من الهدوء النسبی على حد تعبیرها هی . فقد فارقها الیأس ، وتبرعم فی قلبها الأمل بالنور والضیاء . شوق مختلف ومشاعر جدیدة تنبض کانت بها کلماتها هذه المرة ، بل یمکن ملاحظة نقد صریح لعوالم الشهوة وإختلاجاتها :

 

* لماذا أتوقف ؟

   أنا أطیع العناصر الأربعة

   ومهمة تدوین النظام الداخلی لفؤادی

   لیست مهمة تنهض بها حکومة العمیان المحلیة

   مالی ولعواء التوحش الطویل

   فی العضو الجنسی لهذا الحیوان ؟

   مالی ولدبیب دودة تافهة فی فراغات قطعة اللحم ؟

   السلالة الدامیة للورود تجعلنی ملتزمة بالحیاة

   السلالة الدامیة للورود ، هل تدری ؟

  

إهتمت فروغ – کما ذکرت هی – بالمضمون أکثر من الشکل . فالشعر فی رأیها       " عبارة عن کلام وشعور ، إنه لیس شعوراً سطحیاً بالطبع ، شعور عمیق تمت تجربته " .

وفی مجموعتها الأخیرة قصیدة معروفة بعنوان " شخص لا کباقی الأشخاص " تکتنف إشارات بلیغة وناصعة للمجتمع وللفقر والاجحاف والأحلام والمخاوف تطل علیها بعیون طفولیة . حین نقرأ هذه القصیدة الیوم بعد أکثر من أربعین سنة نجد أن جزءاً منها قد عفا علیه الزمن ، لکن من المتعذر أن لا نشعر بالآمال والأضواء السخیة فیها ، وکذا الترقب والانتظار المتفائل الذی یمور فی تضاعیفها .

 

* إنسان سیأتی

   إنسان هو معنا بقلبه ، معنا بأنفاسه ، معنا بصوته .

   إنسان لا یمکن صد مجیئه

   أو تقیید یدیه وإلقائه فی السجن

   إنسان وضع طفله تحت أشجار یحیى القدیمة

   یکبر یوماً بعد یوماً

   یکبر أکثر فأکثر

   إنسان من مطر ، من صوت خریر المطر ، من بین حفیف الزهور

   [ ... ]

   هکذا رأیتُ فی الحلم

 

إستسلمت فروغ فرخزاد للموت سنة 1966م وهی فی الثانیة والثلاثین من عمرها ، لکنها فتحت بشعرها نافذة لمواجهة حمیمة مع صور الحیاة الأصیلة ، وللتصالح مع کلمات تفوح منها رائحة الواقع ، وللتجوال مع الشعر على أرصفة الوجود غیر المتوقف ، وللصدق فی إعادة قراءة الذات دون کلل أو ملل .

سطورنا القلیلة فی إستعراض حیوات السائرین على خطى نیما وأعمالهم إقتربت الآن من ختامها . الشعراء الأربعة الذین تحدثنا عنهم کانوا مواهب ثرة وأصیلة أنشأوا قصائدهم فی سنوات حامیة بالصخب وقدموا للقراء عوالمهم الشعریة ضمن حدود قدراتهم . ومهما کانت نظرتنا لأشعارهم وشخصیاتهم وسلوکهم الفردی والاجتماعی ، فلن نستطیع أبداً إنکار تمیزهم وتألقهم وبصماتهم التی ترکوها على الشعر الایرانی المعاصر . وأخیراً لا مراء أن الاحترام الحقیقی للمبدع یکمن فی نقده نقداً منصفاً علمیاً بمعزل عن تحیّز أو تحیّز مضاد ، وهذا ما یمکنه أن یفتح الأعین والقلوب على ألق الحقیقة الأخّاذ .

 

 

 

 

 

 

 

ارسال نظر