قصة قصیرة

ضیف التراب / بیجن نجدی

ضیف التراب / بیجن نجدی
ولد عام 1941م فی مدینة لاهیجان شمال إیران. عمل سنوات طویلة معلماً فی مسقط رأسه و بعد ثلاثین عام من الکتابة قرر أخیراً إصدار قصصه وقصائده. صدر له مجموعتان قصصیتان وأخرى شعریة: النمور التی راکضتنی (فازت بجائزة العام کأفضل مجموعة قصصیة) / أخوات هذا الصیف / من هذه الشوارع مرة أخرى.
شنبه ۱۶ اسفند ۱۳۹۹ - ۱۵:۱۲
کد خبر :  ۱۳۷۶۳۵

 

 

ضیف التراب

تعریب: حیدر نجف

 

 


أنهى طاهر أغنیته فی الحمام, و طفق یصغی لخریر الماء. نظر للماء وهو ینزلق بقطرات مسرعة على ذراعیه النحیفتین. رائحة الصابون تهبط من شعره. هواء مضبب یحوم حول رأس الرجل العجوز. الماء کان یعانق طاهرا. حینما ألقى المنشفة على عاتقیه شعر أن شیئا من شیخوخته ألتصق بتلک المنشفة الطویلة الحمراء, و أن روماتیزم أقدامه لم یعد مؤلمه. دس وجهه فی المنشفة و وقف عند باب الحمام إلى أن جزع من البرد. وقف أمام مرآة الغرفة. رأى فیها أنه قد شاخ فعلاًَ. فی المرآة, کان هناک جانب من مائدة الفطور و منظر جانبی لوجه ملیحة. و السماور کان یغلی بغرغرة فی الغرفة, و بلا غرغرة فی المرآة, و بهذه کلها, کان طاهر و وجهه الملصق على المرآة یشعران سویة بالدفء.
قالت ملیحة: إن کان الشباک مفتوحاًَ فسوف تستبرد.
الجمعة کان خلف النافذة... بشبهه المذهل لکل جمع الشتاء. أحد أسلاک الکهرباء أنتفخ تحت سواد الطیور. ستائر الغرفة واقفة,ومدفئة الحطب تتأجج بصوت العصافیر.
قعد طاهر قرب المائدة و شغّل المذیاع (... بإحدى عشرة درجة أشد مناطق البلاد برداًَ)
رفع فنجان الشای. أشاحت ملیحة بوجهها نحوالنافذة:(اسمع, یبدو أن شیئا حدث فی الخارج)
للغرفة شرفة تطل على الشارع المعبّد الوحید فی القریة. شرفة تروی لهم مرتین فی الأسبوع أهازیج قطار مسرع. أغنیة تمر عبر النافذة و تموت عند کسر الجص فی سقف الغرفة.
حینما لا یکون لطاهر رغبة فی قراءة الصحف القدیمة, و روائح الأوراق البالیة تصیبه بالغثیان, و ملیحة لا یستفزها شیء لأن تسرح من بین أسنانها الصناعیة ترنیمة منسیة لـلمغنیة (قمر) کانا یقصدان الشرفة لیسمعا صوت قطار لا یرى أبدا.
- ألستُ معک؟ أنظر ما الذی حدث فی الخارج.
أعاد الفنجان إلى المائدة و قام إلى الشرفة بفم ملؤه الخبز والجبن. جماعة من الناس یتراکضون إلى نهایة الشارع.
قالت ملیحة: ماذا هناک؟
فی الستین من عمرها. نحیفة. على شفتیها انحناءة من اختنق بعبرته. ما عادت تستطیع استذکار آخر مرة حفّت زغب وجهها.
قال طاهر: لا أدری.
قالت ملیحة: لعله جسد آخر!... لابد أنهم عثروا على جسد آخر.

حتى لو لم تقل ملیحة (جسد آخر...) کانا سیتناولان فطور هما باستضافة ذکرى یوم صیفی لزج, و یتجادلان على اختیار هذا الاسم أو ذاک. یوم تخطت الشمس تخوم خراسان, و توقفت هنیئة عند کنبد قابوس, و انطلقت من هناک إلى القریة لتنشر صباحا حلیبی اللون على حبل الغسیل ملیحة...
استیقظ طاهر فی فراشٍ مترع بشمس الأحد على موسیقى یومیة تعزفها مشیة ملیحة. کاد الباب الخشبی یفتح بأیدی ملیحة, و قد فُتح. قالت ملیحة قبل أن تضع الخبز على المائدة:انهض یا طاهر, انهض
قال طاهر: ماذا هناک؟
قالت ملیحة: قالوا فی المخبز أن هناک جثةً تحت الجسر.
قال طاهر: ماذا تحت الجسر؟
قالت ملیحة: میت... الکل یذهبون للتفرج علیه, هیا انهض.
سارا نحو الجسر بلهفة لم تستطع تسریع خطاهما العجوزة. البعض وقفوا فوق الجسر یتفرجون إلى الأسفل. همهمة الناس أدنى من حشدهم. نسائم تلقیح التوت تتهادى نحو أشجار التوت. عدد من الشباب الیافعین جلسوا على حافة الجسر و علقوا أرجلهم المتذبذبة فوق الماء المتدفق. الجندرمة تحلّقوا حول سیارة الجیب. قبل أن یصل العجوزان إلى الجسر کان الجندرمة قد وضعوا الجثة فی السیارة وانطلقوا.
سألت ملیحة فتاة شابة: من کان یا ابنتی؟
قالت الفتاة: لم أعرف.
ملیحة: هل کان شاباًَ؟
الفتاة: لم أعرف.
ملیحة: ألم تری شیئاًَ؟
ابتعدت الشابة عن العجوزة.. أجاب رجل توکأ على سیاج الجسر: أنا رأیته. کان منتفخاًَ کان مسودّ الجلد, کان طفلاَ یا أمّاه, کان صغیراً.
أمسک طاهر بعضد ملیحة استدار الجسر والرجل والنهر وغابوا سویة عن أحداق ملیحة. ولم یبق من سیارة الجیب فی البعید سوى شبح غامض.
ذلک الرجل قال لی یا أماه, هل سمعت یا طاهر؟ قال لی ....
انحدرت الشمس, رسم العرق مثلثاًَ صغیراً على قفا قمیص طاهر. قالت ملیحة: أین سیذهبون بذلک الطفل الآن؟ هل قتلوه؟ و ربما ذهب للعب بالماء و إذا به...

عادت نسائم تلقیح التوت دون أن تجد لها شجرة توت, وها هی الآن تذبذب الملاءة على صدر ملیحة.
قالت ملیحة: لم أعرف کم عمره! امسک یدی یا طاهر.
قال طاهر : هل تریدین أن نقعد للحظة؟
لیت إحدى الأشجار کانت ابناَ لطاهر(تخطّرت ملیحة)
قالت: اسأل أحدا أین ذهبوا به؟
قال طاهر: إلى المخفر طبعا, أو المستوصف.
-لیتنی أستطیع أن أراه (قالت ملیحة)
قال طاهر: ماذا ترین؟ انه طفل فقط.
قالت ملیحة: نعم, و أنا أقصد الطفل.
قال طاهر: هل نذهب عند یاوری؟
باب المستوصف کان مفتوحا. عدة شتلات صنوبر وصفت حتى ممر البنایة. کانت یابسة لا یُرى الصیف حولها. صافح الدکتور یاوری طاهراً و سأل ملیحة: هل تتناولین أقراصک بانتظام؟
قالت ملیحة: نعم.
سأل الدکتور طاهرا: هل تنامُ لیالیها جیدا؟
قالت ملیحة: دکتور, عثروا على طفل هل سمعت به؟
قال الدکتور: نعم.
قالت ملیحة: أین هو الآن؟
قال الدکتور: وضعوه فی المخزن.
قالت ملیحة: فی المخزن؟ الطفل؟ وضعوه فی المخزن؟
قال الدکتور: إننا لا نمتلک براد جثث هنا.
قالت ملیحة: ثم ماذا یفعلون به؟
قال الدکتور: ینتظرون حتى الغد. إن لم یأت أحد وراءه دفنوه.
قالت ملیحة: إن لم یأتوا, إن لم یأت أحد وراءه هل تعطونه لنا؟
قال الدکتور: ماذا؟
قال طاهر: یعطوننا الطفل؟ ولماذا یعطوننا الطفل؟
قالت ملیحة: لندفنه ندفنه بأنفسنا . ثم قد نستطیع أن نحبه. بل الآن أیضا, یبدو, یبدو أننی أحبه...
دست نفسها فی ملاءتها, و تحررت الدموع التی حبستها من الجسر إلى المرکز الطبی. اهتزت الملاءة على أکتافها و تبلل الجزء الذی یغطی وجهها.

ملأ طاهر قدحاً من الماء. مدد الدکتور ملیحة على سریر خشبی. أبرة دقیقة غُرزت تحت جلد یدها. سقطت قطعة قطن علیها بعض الدم فی سلّة صغیرة تحت السریر, و لم تفتح ملیحة عینیها حتى غروب ذلک الیوم, إلى ما بعد عدم مجیء القطار, و لم تتفوه حتى بکلمة واحدة.
إنها الجمعة. ستائر الغرفة, و المدفئة تتوهج بصوت العصافیر. شتاء أبیض خلف النافذة یزجی بردَهُ المشاغب.
قالت ملیحة: کل هذه الأسماء, و لا من نتیجة .
قال طاهر: سنجد له أسماً فی النهایة.
قالت ملیحة: إن لم نستطع فی نفس الیوم, فلن نستطیع أبداً, أی یوم کان یا طاهر؟
قال طاهر: یوم ذهبنا إلى الجسر؟
قالت ملیحة: کلا الیوم الذی بعده, ذهبنا إلى المستوصف...
فی الیوم التالی, لم یأت أحد وراء الجسد, یوم الاثنین لفوه فی قماش خام وأخذوه بزنبیل من المستوصف إلى المقبرة. خارج فناء المستوصف وقف طاهر وملیحة من دون أن یرتدیا السواد. تحت سماء لا تطلق سراح الشمس من وراء الغیوم, ولا یبعث رسل الأمطار إلى البشر. الزنبیل یستبدله من ید إلى ید أحیاناً, ویضعه على الأرض أحیاناً, ویرکزه على جذع شجرة مقطوعة أحیاناً أخرى. استداروا حول ساحة القریة الصغیرة و دخلوا الشارع الوحید فیها. أمام المقهى وضع الرجل الزنبیل لصق عمود کهربائی وقف بطول شجرة فارعة من دون أن یکون له أدنى شبه بالشجرة. سکب صاحب المقهى الماء من الدلو. غسل الرجل یدیه ثم وقف وشرب قدحاً من الحلیب الساخن. أشاحت ملیحة بوجهها ومرت بالقرب من الزنبیل... شعرت أن شیئاً یرشح من جلد صدرها إلى ثوبها خفف طاهر وقع خطواته. وقفا أمام منزلهما حتى یصل الرجل ویتقدمهما فیصونا بذلک حرمة التشییع الصامت. بل أنهما وقفا ورمقا شرفة البیت. ما زالت نافذتها مشرعة بانتظار صوت القطار, و فیها ملیحة شابة انحنت لتسقی المزهریة. حینما رفعت رأسها کانت ملیحة عجوزاً تنضد مزهریات خاویة على بعضها. أزاحت الستار فبانت بقوام بضّ و شعر کث تراخت خصلاته السوداء على کتفیها. مشت ملیحة خلف المطر بوجه ممتقع صغیر وشعر مخضوب هطل المطر بزخات عدة ودخل الرجل المقبرة یحمل الزنبیل. طاهر و زوجته یمشیان فوق العشب بین الأحجار من مغسل الأموات. مراسم الدفن بدت رمادیة متربة, و قد طالت حتى تهالک العجوزان على العشب البلیل. حینما غادر حفار القبور, کان صوت المسحاة لا یزال یوافی الآذان.

قال طاهر: انهضی لنذهب, هیا... قالت ملیحة: ساعدنی لأنهض.
التصقا ببعضهما. لا یدری من یراهما أیهما ساعد الآخر. ما إن نهضا حتى قالت ملیحة: إنه لنا منذ هذه اللحظة, ألیس کذلک؟ الآن لدینا طفل می.... حفت بهما شاهدات احتضنت أسماءً و تواریخ ولادة و...
قالت ملیحة : علینا أن نصنع له شاهدة.
قال طاهر لا بأس.
قالت ملیحة: علینا أن نختار له أسماً.
قال طاهر...
قالت ملیحة...
کان یوم الجمعة. مدفئة الحطب تشتعل بصوت العصافیر, و من الشرفة یوافی صوت همهمة الناس و هم یعودون من آخر الشارع. ضجیجهم حرم طاهراً و ملیحة من سماع أهازیج القطار تقتربُ و تنأى.

 

برچسب ها: بیجن نجدی

ارسال نظر