الأحوال / محمد شریفی

الأحوال

محمد شریفی

تعریب: موسى بیدج

عندما دخل المعلم العجوز الى الصف، صاح التلمیذ الوحید النائم بین الرحلات
"قیام!"
وبعد لحظات عاود الکرة فصاح بصوت ناعس: "جلوس!"
وضع المعلم العجوز دفتر الحضور والغیاب خلف النافذة الخشبیة لبس نظارته الطبیة نظر فی قائمة الاسماء ونادى: الأبنوسی
صاح التلمیذ الوحید فی الصف:
_ غائب.
_ على براتیانی !
_ حاضر !
_ جلال الدولئی" !
_ استاذ ! من هنا الى آخر الاسماء کلهم غائبون
أمعن المعلم العجوز فی دفتر الحضور سأل:
_ الى این ذهبوا !
کان فی صوته جفافاً و امتداداً. تثائب علی براتیانی، التلمیذ الوحید فی الصف، وقال:
_ ومن یدری !
اغلق المعلم العجوز دفتر الحضور و اتجه نحو السبورة، کتب وسط قسمها الاعلى "درس الیوم".
لم یکن فی ساحة المدرسة أی تلمیذ لیقف قرب ساریة العلم المصنوعة من خشب الشجر و یصیح بأعلى صوته "جمیعنا نعرف ان المعلم هو ابانا الثانی و المدرسة هی بیتنا الثانی"!
خرج التلمیذ الوحید علی براتیانی من بین الرحلات وجلس على المصطبة الاولى مرکزاً انتباهه. کان المعلم یلعب بالطبشور الابیض بین اصابعه. اقترب من النافذة والقى من خلال الزجاج المتکسر نظرة على السماء، ثم حول نظره الى علی براتیانی وقال:
_ لا اعتقد أن الیوم تمطر.
کان علی براتیانی قد فتح دفتر واجباته وکتب فی أعلى الصفحة "درس الیوم" والآن اخذ یکتب فی السطر الاول: "لا اعتقد أن الیوم تمطر".
اقترب المعلم العجوز ثانیة من اللوحة وکتب تحت درس الیوم عبارة "لا أدری ماذا دهانی الیوم" !
کتب علی براتیانی فی دفتر واجباته "لا أدری ماذا دهانی الیوم".
بعد هنیهة من التفکیر قال المعلم العجوز مخاطباً علی براتیانی التلمیذ الوحید:
_ فی أیّ صف أنت؟
کتب علی براتیانی فی دفتر واجباته "فی أی صف أنت؟"
قال المعلم العجوز:
_ اعتقد ان الیوم هو الاثنین، ولا اظن أنها ستمطر الیوم.

اقترب من النافذة، رأى من خلال الزجاج المتکسر شجرة تتوسط ساحة المدرسة وکانت تنحنی امام الریح الصباحیة. على مقربة من الشجرة الوحیدة اذا نظر أحد ما بأمعان کان لیرى صبیاً وضع یده فی جیب معطفه الطویل بین شفتیه صفارة الشرطة یطلقها، باستمرار بالقرب من الصبی کانت سلة ملیئة بالاوراق المبعثرة کتب علیها التلامیذ واجباتهم وابعد من ذلک بقلیل، ومن مکان کانت تبدأ منه جدران المدرسة، کان یتسنى للمرء رؤیة طائرة ورقیة تبتعد فی السماء الدخانیة اللون یتعقبها صوت بکاء طفل یأتی من الأزقة البعیدة. عاد المعلم العجوز الى اللوحة وکتب علیها بالطبشور الابیض "لا یوجد کلام للتحدث به".
کتب علی براتیانی التلمیذ الوحید فی الصف "لا یوجد کلام للتحدث به".
لم یکن یُسمع من الممر صدى لأقدام المعاون العبوس، ولا حتى صوت الضحکات الوضیعة للمدیر، تذکر المعلم العجوز أنه کان دائماً یوصف المدیر بصاحب الضحکات الوضیعة. والاکثر من ذلک، لـم یکن یأتی لا من الممر ولا من أجواء الصفوف الاخرى صوت تلمیذ یقرأ فی کتاب القراءة وصوت المعلم یصیح بتلمیذ "أیها الحمار اجلس مکانک واصمت!" نظر المعلم العجوز الى باب الصف المغلق. تذکر انه هو الذی اغلق الباب خلفه عند الدخول. اتجه نحو النافذة وضع التلمیذ الوحید علی براتیانی قلمه على دفتر واجباته وبدأ یتمتم بصوت خافت تهویدة تقول "نم، نم، یا وردة البطنج".
نظر المعلم العجوز من خلال شقوق الزجاج المتکسر الى ساحة المدرسة ثانیة: کانت السماء دخانیة اللون. کان الصبی الواضع یده فی جیبه یطلق صفارته باتجاه الصف وکان بکاء الطفل فی الازقة البعیدة ما زال یتعقب طائرة الورق. اضافة الى ذلک، فالشجرة الوحیدة الظمآنة ما زالت منحنیة بأغصانها امام الریح. عاد المعلم العجوز!. وقف قرب السبورة اراد ان یکتب شیئاً ولکنه سأل مرة اخرى.
_ فی أی صف أنت؟
کتب علی براتیانی فی دفتر واجباته بلا تلکأ "فی أی صف أنت؟!".
کان صمتاً جنونیاً یستولی على أجواء الصف. کان المعلم العجوز یعتقد ان الصمت هذا قد احاط الآن بکل اجواء المدرسة. وفی لحظة طغى الغضب علیه فصاح بصوت عالٍ "أیّ مکانٍ هذا".
وکتب علی براتیانی دون ان ینبت بشفة فی دفتر واجباته "أیّ مکانٍ هذا؟".
فکر المعلم العجوز فی نفسه "هذا سؤال مبهم "فصاح موضحاً "أعنی هل هنا مدرسة أم مکان آخر؟".
کتب علی براتیانی فی دفتر واجباته موضحاً السؤال "اعنی هل هنا مدرسة أم مکان آخر؟".
کان المعلم العجوز منحرجاً. اتجه ثانیةً نحو دفتر الحضور، فتح الدفتر وقرأ أسماء التلامیذ من جدید:
_ الأبنوسی
وضع علی براتیانی قلمه على دفتر واجباته وقال:
_ غائب.
_ علی براتیانی ؟!
قال علی براتیانی:
_ حاضر !
_ جلال الدولئی ؟!
قال علی براتیانی بسکینة:
_ من هنا الى آخر الاسماء کلهم غائبون.
سأل المعلم العجوز ثانیة:
_ الى این ذهبوا؟
قال علی براتیانی بسکینة:
_ ومن یدری ؟!

اغلق المعلم العجوز الدفتر واقترب من اللوحة. أخذ الممسحة التی صنعها التلامیذ من قبعات والد احدهم ومسح بها السبورة. فأخرج علی براتیانی المسّاحة من جیبه فوراً ومسح بها کل ما کتبه فی دفتر واجباته ببطىء. لم یکن یُسمع أی صوت من أی مکان من المدرسة. فکر المعلم العجوز فی نفسه انه استیقظ کالعادة بدقات ساعته صباحاً اذن الى هنا لا یوجد أی خطأ. بعدها مارس بعض التمارین الریاضیة الصباحیة. اخذ فطوره وسلک نفس الطریق الذی یأتی من کل یوم. المهم ان عینیه لا تخطأن وعلى أی حال حتى وأن أخطأ هو فعلی براتیانی لا یمکن ان یخطأ. وبغض النظر عن کل هذا اذا لم تکن هنا مدرسة فما هذه الساریة والعلم. صرخ فجأة:
_ هنا مدرسة !
کتب علی براتیانی فی دفتر واجباته "هنا مدرسة!".
صرخ المعلم العجوز:
_ اذا لم تکن مدرسة، اذن ما تلک الساریة؟
کتب علی براتیانی فی دفتر واجباته "اذا لم تکن مدرسة، اذن ما تلک الساریة؟".

لم یکن یُسمع صوتٌ. کان الصمت مخیماً. صمت مدهش ومحرج. عاد المعلم العجوز الى النافذة. القى من خلال شقوق الزجاج المتکسر نظرة على السماء. کانت السماء ما زالت دخانیة اللون ولکن الطائرة الورقیة کانت قد توقفت عند الشجرة الوحیدة الظمآنة. وکان الصبیّ قد علّق صفارته فی رقبته وجلس بالقرب من السلّة. کان یأخذ الأوراق المبعثرة لواجبات التلامیذ منها وینثرها فی الجو. وکان صوت بکاء الطفل فی الأزقة البعیدة قد انقطع. رجع المعلم العجوز. کان منحرجاً. کتب على السبّورة:
"لا یوجد کلام للتحدث به، لا ادری ماذا دهانی؟!"
علی براتیانی لم یکتب. کان قد وضع رأسه على دفتر واجباته واستسلم لنوم عمیق. کان المعلم العجوز، منحرجاً، یقطع عرض الصف ذهاباً ومجیئاً.
بعد لحظات طویلة کان یسمیها هو سابقاً لحظات الیمة وقاتلة، عاد مرة أخرى الى النافذة. القى نظرة من خلال الزجاج المتکسر الى الخارج: کانت السماء ما زالت دخانیة اللون. کانت الشجرة الظمآنة قد اطلقت الطائرة الورقیة فی الجو. کان العلم على الساریة الخشبیة یرفرف والصبی الذی کان یصفّر قد غاب ایضاً و کانت الاوراق المبعثرة لواجبات التلامیذ الطائرة فی الجو قد اخذت مکانه.
رجع المعلم العجوز الى السبورة. کان الشخیر الهادئ لعلی براتیانی، التلمیذ الوحید فی الصف، قد اقتحم الصمت المخیم على الصف وأحدث فیه اجواء موهومة مدهشة. ارتعد المعلم العجوز، فتح الباب وأجتاز الممر مسرعاً. دخل الساحة وعندما أراد ان یخرج من باب المدرسة همّت الفراشة بالدخول وکانت الریح تداعب عباءتها. رأت الفراشة المعلم العجوز فقالت تخاطبه:
_ یا سیّد ! المدرسة مغلقة فی أیام الجُمَع!
قال المعلم العجوز متحیراً:
_ الیس الیوم هو الاثنین؟
قالت الفراشة:
_ الیوم هو الجمعة.
قال المعلم العجوز:
_ اذن لماذا قد حضر علی براتیانی؟!
حدجته الفراشة باندهاش وقالت:
_ ولکن علی براتیانی قد اعطاک عمره من اسبوعین؟!
المعلم العجوز اصیب بالرعب تراجع خارجاً من الباب قاذفاً بنفسه فی الزقاق. وکان متمتماً:
_ ...!