منذ انتصار الثورة الاسلامیة والى الآن شهدت الساحة الادبیة الایرانیة ثلاثة اجیال من الشعراء, ویعد قیصر امینبور من شعراء الجیل الاول للثورة ولعله اشهرهم وارفعهم مکانة. نظم الشعر بکافة الاسالیب حیث تطالعنا فی مجامیعه الشعریة قصائد کلاسیکیة معظمها غنائیة-غزلیات-واخرى حرة غالبیتها بالاسلوب النیمائی الذی یعادل التفعیلة فی الشعر العربی.
یتطرق امینبور فی قصائده لأغراض فردیة ومجتمعیة یعالجها بلغة مبسطة وصور خیالیة محببة وابداعیة, الأمر الذی یضفی على نتاجاته هالة جذابة وجمالاً مشوقاً.
ما بین انصار التراث والمنادین بالحداثة, اختار امینبور طریقاً ثالثا محاولاً فی اعماله اثبات أن القدیم والجدید یمکنهما التصالح فی الابداعات المتقنة لیشیدا مع بعضهما صرحاً جدیداً لایتطابق مع الاصول وحسب, بل ویتسق مع حاجات العصر وضروراته ایضاً.
لیس امینبور من الراغبین فی الضجیج والاضواء. فرغم ان ابیاته تجری على الألسن, الا انه لا یجری لقاءات صحفیة, ولا هو على استعداد للاطلال من وسائل الاعلام العامة ! بل یفضل دائماً أن یکرس وقته لینهمک فی اعماله وعطائه لیعیش حیاته بشاعریة أوسع وأعمق. مع ذلک طرحنا علیه خمسة اسئلة قد تعن لکل مهتم بشؤون الشعر کتب لنا اجوبتها.
فضلاً عن التدریس فی جامعة طهران, یتولى الدکتور قیصر امینبور رئاسة تحریر مجلة «سروش» الخاصة بالناشئة. وهذه عناوین مجامیعه الشعریة: فی زقاق الشمس / تنفس الصبح / مرایا الفجأة / الزهور کلها عباد الشمس / کالینبوع ... کالنهر (للاحداث والناشئة) / على حد تعبیر السنونو (للاحداث والناشئة). وعناوین کتابیه النثریین : الطیران بلا اجنحة / الطوفان داخل اقواس.
* * *
صدیقی العزیز ! بعد التحیة والسلام, اراجع تارة اخرى الاسئلة التی تطرحها فی رسالتک, واقول مع نفسی اننی ربما لم افهم مغزى الاسئلة بشکل صحیح لذلک تلکأت فی الاجابة عنها :
1ـ ما هو الشعر ؟
2ـ من نظم اول قصیدة فی العالم ؟
3ـ ما هی نقطة البدایة فی رحلتک الشعریة ؟
4ـ ماذا ینتابک من مشاعر اثناء نظم الشعر ؟
5ـ من هو الشاعر والکاتب ؟ وهل ینبغی فی الکتابة ونظم الشعر مراعاة کافة القواعد اللغویة والنحویة؟
صدیقی العزیز, صدقنی مع أن اسئلتک بسیطة مکررة فی ظاهرها, وکثیراً ما نواجهها هنا وهناک, وربما اجاب عنها الآخرون مرات عدیدة, بید أن الاجابة عنها ـ بالنسبة لی على الاقل ـ إن لم تکن ممتنعة, فهی لیست سهلة.
مع انی منذ دخولی المدرسة الابتدائیة بل وقبل ذلک, منذ التحاقی بکتاتیب القریة والى الیوم, اشارک کل سنة أو نصف سنة, بل وکل ثلث أو ربع سنة فی عدة امتحانات شفهیة وتحریریة فردیة وجماعیة, وتعلمون کم تطول اللیالی التی تسبق الامتحان. انها لیلة قدر الطلاب الکسالى تعادل اکثر من ألف شهر, لکننی اعترف اننی طیلة کل هذه السنوات, لم ارتعب وارتبک وارتعد فی أی امتحان کما أنا الآن, ولم یعترنی الصداع والخوف وأنا اتلصص النظرات لاوراق الطلاب المجاورین فی قاعة الامتحان واسحق حذاء الطالب الجالس امامی من تحت الکرسی, ولم تتوهج أذنای الى هذه الحد, ولم اقضم طرف قلمی الى هذه الدرجة, ولم احک رأسی, وعموماً لم ألجأ الى اداء مناسک الغش الشریفة بهذا النحو من الانتظام والدقة, من السعی بین الصفا والمروة على الصفحات البیضاء الى هرولة النظرات على اوراق الجیران ورمی الجمرات فی الظلام ورشق الشیطان الرجیم بوابل من اللعنات و ....
المشکلة الثانیة هی انه بالرغم من امکانیة الغش والنقل فی هذا الامتحان, الا اننی لم اعثر على الجواب المقنع فی أی من الاوراق التی تطاولت علیها. من ورقة ارسطو واتباعه المنتظمة المخططة وحتى الاوراق الغاصة بالخطوط والشطب للشخصیات الجالسة فی الرتل الاول. قصتهم قصة الذین تلمسوا الفیل فی الظلام.
ربما کان من المستحسن تعلیق الذنب على مشجب الآخرین فنقول باستنکار : وأیة اسئلة هذه اصلاً ؟ وأی نوع من الامتحانات هذا ؟ ولکن لا یمکن بالتالی تسلیم الورقة بیضاء تماماً. واذن من الافضل بغیة أن نستطیع تقدیم اجابة ما, أن ننسى قضیة الامتحان هذه, ونعتبر رسالتکم مجرد رسالة من صدیق یمکن الاجابة عنها بروح الصداقة وبلا أی تکلف, عسى أن نکون قادرین بهذه الطریقة على الاجابة بحریة اکبر, وتعلمون أنه لم یسبق لشخص أن منح درجات لرسالة اخوانیة, أو سجل ضدها مؤاخذات نحویة وانشائیة.
ما هو الشعر؟
یروى أن مجنوناً رمى حجراً فی بئر, ولازال آلاف العقلاء مجتمعین حول البئر لاستخراج ذلک الحجر من دون ان یفلحوا. یصبون میاهه فی الغربال ثم یطرقونها فی الهاون ضمن تشریفات خاصة ولکن دون أیة جدوى. ومع أن حفر مثل هذا البئر لن یتحف امثالی وامثالکم بشیء من الماء, ولکن یبدو انه یتحف البعض بشیء من الخبز ... آه من هذا البئر الظالم, هذا البئر الصلف الذی لا یصل صوت الى قعره, ناهیک عن أن یرتد منه الصدى.
لا شأن لنا الآن بصحة هذه الحادثة او سقمها, ولماذا رمى ذلک المجنون الحجر فی البئر ولم یرمه فی مکان آخر ؟ ربما لمراعاة النظیر بین الحجر والمجنون. کما لاشأن لنا بالسبب الذی جعل اولئک العقلاء یهتمون کل هذا الاهتمام بذلک الحجر الحقیر ؟
على أن ذلک المجنون وحده بمستطاعه استخراج ما ألقاه فی قعر البئر. فلماذا وقعت القرعة بأسمی لاستخراجه, هذا ما لا اعلمه ؟ وبالطبع فانی لا اتمتع بعقل کامل, الا اننی لا ازال اتدرب على الجنون ولم اتخرج نهائیاً من مدرسة العقل. وأذن لایقوى على استخراج ذلک الحجر الکریم الا اولئک المجانین انفسهم.
واذا تخطینا هذا الحدیث, أرید أن اعرف اصلاً ما معنى هذا التجاهل الصوفی الذی یدفعنا لنکون اطفالاً فضولیین أو کباراً متبرمین, نضع قبل کل ما نصادفه عبارة «ما هو» صانعین منه لغزاً, ثم نتطلع بعد ذلک بنظرة متعاقلة سفیهة لأن نسمع جواباً جامعاً مانعاً ؟
نخال أننا بحاجة للعقل والمنطق والقواعد والعلوم والمعارف عند الاجابة عن الاسئلة وحسب, بینما طرح الاسئلة ایضاً بأمس الحاجة الى هذه المعاییر. نظن أن الاجابة الصائبة هی وحدها الصعبة بینما طرح الاسئلة الصائبة قد یکون احیاناً اصعب منها بکثیر. کیف یمکن السؤال بکل هذه البساطة : ما هو الشعر؟ ما هو الفن؟ ما هو الجمال؟ ما هی الروح؟ ما هو الانسان؟ ما هو العدم؟ ما هو اللاشیء؟ ما هو الماهو؟ ثمة الکثیر من الاشیاء لا یمکن تعریفها, مثل الوجود ذاته.
هل یتسنى وضع «هل» امام أبعد الامور عن الـ «هل»؟ ما أسذج الذین یظنون أن باستطاعتهم عبر معادلة «الجنس القریب + الفصل القریب» البسیطة, الوصول الى الحد التام لکل الاشیاء! ویخالون أن وضع قبعة النطق على رأس الحیوان یقلبه الى انسان, متوهمین أن لیس الانسان سوى هذا الحیوان الناطق, أی صانع الکلیات !
لو سألتم مثلاً ما هو الوزن والقافیة فی الشعر؟ أو لماذا انهزم نابلیون فی المعرکة الفلانیة؟ ربما امکننی الجواب بمراجعة الکتب او الذاکرة. ولکن حینما یسأل أحدهم: ما هی اسباب انکسار القلب؟ ماذا یجب علی أن اقو ؟
أو اذا کنتم قد سألتم کیف یظهر الشعر الى النور, استطعت القول مثل غیری أن عملیة انتاج الشعر هی کالتالی: نعد اولاً ادوات انتاج الشعر کالقلم والاوراق والسجائر والشای و... ثم نسجل مکانتنا الطبقیة فی اعلى الورقة حتى لا ننساها. بعد ذلک نکتب اسفلها مسودة مطالباتنا الطبقیة, حتى نستطیع انشاء شعر یتسق والارادة الجماعیة.
أو اذا سألتم مثلاً ما هو رأی ارسطو أو غیره من النوابغ حول الشعر, امکننی استعراض عدة اسماء وتعاریف, وطبعاً بوسعکم انتم ایضاً مراجعة الکتب والبحوث الصادرة فی هذا المضمار لمعرفة أن ارسطو مثلاً اعتبر الشعر کلاماً خیالیاً مثیراً. وقرر ابن سینا انه کلام مثیر للخیال یصطنع بعبارات موزونة ومتساویة. واعتبره نصیرالدین الطوسی کلاماً تخیّلیاً ونظامه العروضی صناعة یستخدمها الشاعر لتنسیق المقدمات الموهمة والتئام القیاسات المنتجة بطریقة تضخم المعنى الصغیر وتصغر المعنى الکبیر, واظهار الحسن فی زی القبیح, والقبیح فی صورة الحسن, واثارة القوى الغضبیة والشهویة بالایهام, وقبض الطبائع وبسطها بالایهام وخلق امور عظام فی نظام العالم.
و یعرفه قدامة بن جعفر بأنه کلام موزون ومقفى یدل على معنى. ویقول السکاکی عنه انه کلام موزون ومقفى. ویراه شمس قیس کلاماً مدروساً مرتباً معنویاً موزوناً متکرراً متساویاً متشابه الحروف فی نهایاته.
وآخرون غیرهم, قدم کل واحد منهم وصفاً أو تعریفاً أو صورة للشعر کما یدعی. روبرت فروست على سبیل المثال یبدو أنه أحل تعریف الایهام محل تعریف الشعر : الشعر هو أن تقول شیئاً و ترید شیئاً آخر. ویعد دی لویس الشعر بأنه التصویر لیس الا. ویعتبره ولیام وردزورث صورة الانسان والطبیعة. ویراه فولتیر موسیقى الارواح الکبیرة الحساسة, و لامارتین وشکسبیر الموسیقى الداخلیة للانسان. ویصفه آخرون بالنار الکامنة, والشعلة الوهاجة الخالدة, والشعوذة والبهلوانیات اللسانیة, أو الخداع والتقلید, أو اللطف الالهی.
بمراجعة آثار من هذا القبیل, بمقدورکم العثور على آلاف التعاریف والاوصاف للشعر, لکن الشیء الوحید الذی لا تعثرون علیه هو : ما هو الشعر؟
الحقیقة انی ارغب جداً فی وضع کتاب بعنوان «الاسلوب المبسط لتعلیم الشعر» و ارسال نسخة منه الیکم. أو انشر اعلاناً فی الصحف تحت عنوان: «تعلیم الشاعریة المضمون فی عشرة دروس» وقد أعلن أحد الشعراء یوماً فی صحیفة من الصحف «بامکاننا تصلیح انواع الشعر اذا رغبتم», لکننی لا استطیع هذا.
کما انی لا اعلم شیئاً فی هذا المیدان من الناحیة العلمیة, لکننی اتذکر فقط انی قرأت فی کتاب ان الشعر هورمون تفرزه غدة فی الجسم, الا انه لم یسم ذلک الهورمون.
والاقسى من ذلک أنی قرأت فی لا ادری ای الکتب قول شاعر ـ ربما کان اسمه اندریه وزنه سنسکی أو شیء من هذا القبیل ـ فی حوار صحفی یؤکد: «اننی ارغب اکثر ما ارغب فی قراءة الکتب العلمیة الهندسیة. تجدون على طاولتی کتاباً هندسیاً یضج بمعادلات لاختبار مقاومة الکونکریت المسلح و ما الى ذلک... وقد حاولت مثلاً عن طریق اختبارات مقاومة الکونکریت المسلح صیاغة نظریة عصریة فی خصوص اوزان الشعر. فلو تصورتم السطر الشعری کنتوء ارضیة ایوان فی بنایة, یکون الضغط على بدایة السطر اکبر, وینخفض الضغط طبیعیاً کلما تقدمنا الى الامام. ارید ان اقول أن قوانین شد الفلزات و شد الارواح واحدة متماثلة...» اعتقد أن هذه النماذج تغنینا عن کل التفاصیل التی لا آخر لها. و انا واثق لو ان للشعر معادلة فیزیاویة او کیمیاویة, لاکتشفها الشعراء قبل غیرهم. و عندئذ یستطیعون متى ما رغبوا ان یصهروا عدة فلزات ولافلزات لیصنعوا منها سبائک الشعر. أو یستخدموا عاملاً مساعداً (کاتلیزر) لزیادة سرعة التفاعلات الشعریة الکیمیاویة, حتى یتمکنوا بکوبٍ واحد من ذلک المحلول فی الیوم واحد, الحصول على عدة دواوین شعریة. ثم یستعملون أحد المعرفات الکیمیاویة مثل التورنسل لنقد نتاجاتهم الشعریة أو نتاجات غیرهم. فاذا تحول التورنسل الى اللون الاحمر اتضح ان الشعر ذو خاصیة حامضیة, واذا اصبح ازرق اللون, کان الشعر ذا خاصة قاعدیة و ....
من نظم اول قصیدة فی العالم؟
الاخبار والروایات فی هذا الخصوص متضاربة. أورد بعض رواة الاخبار فی نسخ قدیمة ان : «یعرب بن قطحان بن عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح صلوات الله علیه, الذی عمر اربعمئة سنة, وسمّی یعرباً لأنه تکلم عربیاً و انتشرت اللغة العربیة من لسانه بعد الطوفان, کان مشغوفاً بالسجع والقرائن, ولأن بعض المصاریع کانت تأتی موزونةً فی اثناء السجع العربی, فقد اکتشفها یعرب بقوة فطنته وذکاء قریحته وانتبه الى الفرق بین الموزون وغیر الموزون فی الکلام وقال بیتین من الشعر ارتجالاً وانشدهما فی محفل خاص ضم کبراء اقاربه واعیان عشیرته. ولأنهم لم یکونوا قبل ذلک قد سمعوا کلاماً موزوناً قالوا : أی نسق من الکلام وترتیب فی الحدیث هذا لم نسمعه منک قبل الیوم؟! فقال لهم: وانا ایضاً لم اسمعه من نفسی قبل هذا. لذلک أسموا ما جاء به شعراً لأنه ألقی فی شعوره من دون أی تعلم أو تعلیم و اطلقوا على قائله اسم الشاعر. ویقول البعض ان اول من قال الشعر هو جرهم بن قطحان. وبعض اصحاب التواریخ یرجعون الشعر الاول الى ابینا آدم صلوات الله علیه ...»
أتصور أن الافضل والاصوب لنا بدل أن نتحرى مزیداً من الروایات المختلفة الاخرى, ونتقصى الاسم الصحیح لاول شاعر على وجه البسیطة, أن نبحث عن حقیقة الأمر فی اعماق هذه الروایة ذاتها. لأننا لو بحثنا عن اسم معین وزمان ومکان محددین لمعرفة اول قصیدة و شاعر, لما بلغت تحریاتنا الجزم والنهایة ابداً. الواقع ان الشعر یحدث بعد الطوفان, سواء کان طوفاناً داخلیاً او خارجیاً, سواء کان طوفان نوح او طوفان الروح. ثم الواقع هو ان اسم اول شاعر کان اسماً عاماً ولیس اسم خاصاً. وحتى لو کان اول الشعراء أو آخرهم, سیقول بعد انشائه الشعر : «انا ایضاً لم أعهد هذا الکلام عن نفسی فی السابق».
والحقیقة ان اول شاعر شعر بالکلام الموزون بلاوسائط التعلم والتعلیم.
والحقیقة الثانیة هی انهم نسبوا ابتداع الشعر لآدم.
والآن ما هو الفرق فیمن یکون هذا الآدم. الآدم آدمی على کل حال.
وما الفرق ما هو هذا الشعر؟ هل کان رثاء لهابیل الذی قتل على ید قابیل, أو وصفاً للجنة التی خسرها آدم. أو أغنیة ترنموا بها من احزان الغربة, أو حکایة أو مثنویاً یشتکی صاحبه لوعة الفراق؟
وما الفرق لو کان الشعر الاول باللغة السریانیة أو العربیة.
الحقیقة على کل حال هی ان آدم اول الشعراء, أو أن الآدم الاول کان شاعراً.
هل ترون کم هی رمزیة و تمثیلیة, و صحیحة ودقیقة فی الوقت ذاته ! حینما اقول انها صحیحة لا اقول ذلک ابتناءً على علم الرجال, انما اعتماداً على الروایة ذاتها و على الدرایة یمکن استنباط صحتها. فسواء کان آدم أول الآدمیین, أو أول الانبیاء, أو کلاهما, لا ریب انه کان شاعراً. لو کان أول الآدمیین وجب أن یکون شاعراً حتى یستطیع ابناؤه الصالحون من بعده أن یرثوا عنه هذه الملکة والذوق ـ اذا سلمنا أن جزءاً من القریحة الشعریة على الاقل یعزى الى الوراثة ـ واذن فلا جدال أن اول الآدمیین کان شاعراً. وبقلب المسألة رأساً على عقب نقول ان اول الشعراء کان آدم. فالشاعر لابد أن یکون آدمیاً. وقد یقول قائل اننا هنا ایضاً وکما هو المألوف غمطنا حقوق المرأة, ولم نأخذ حواء بنظر الاعتبار. ونقول له متى تریدون الاعتراف بأن حواء ایضاً آدمی, مع أن آدم وحواء یختلفان عن بعضهما, ومع أن آدم لیس حواءً, الا ان حواء آدمیة. وبالتالی حینما نقول ان اول الشعراء کان آدمیاً, فهذا یشمل حواء ایضاً.
واذا اعتبرنا آدم اول الانبیاء,لکان شاعراً ایضاً. دعونی اخبرکم بأصل القضیة: الآدمیون کلهم شعراء. کل الآدمیین الصالحین شعراء. کل الفلاسفة والاولیاء والائمة شعراء. ولولا خشیة الکفر لقلت ان کل الانبیاء شعراء. وفوق کل هذا لقلت أن الله ایضاً شاعر. وحینما اقول ان کل الآدمیین الاخیار شعراء, استطیع القول ان کل الشعراء اخیار. طبعاً، کل «الشعراء»، أی أنی اشدد على کلمة «الشعراء» لذا حینما تشاهدون ان بعض الشعراء آدمیون اشرار, اعلموا انهم اما لیسوا شعراء أو لیسوا آدمیین.
واذا صرفنا النظر والسمع عن هذا القول, سیغدو من الصعب جداً معرفة اول الشعراء.
التذکرات لاتتحفنا بشیء فی هذا المیدان. فلم اعثر بین النسخ الخطیة القدیمة على أی تذکرة کتبوا علیها : «تذکرة الشعراء ساکنی الکهوف» أو «تذکرة الشعراء النیاندرتالیین» أو «تذکرة الشعراء الشبیهین بالقرود.»
الحقیقة أن الأمر کما لو سألتم : «این حدثت اول ابتسامة انسانیة و متى؟» أو سألتم : «من هو مخترع الابتسامة ؟» أو «ما اسم مکتشف الدموع ؟» أو «من هو مکتشف الحب ؟» (مع أن جواب السؤال الاخیر واضح وجلی لأن مکتشف الحب هو «الدمع», ومع ان الحب ذاته هو الذی اکتشف الانسان, وهو ذاته الکشف والکشاف(.
أو کما لو سألتم : «من هو ومتى أول من خط مصیر الطیران على اجنحة الفراشات وخاطه على اجنحة الیعاسیب؟»
أو سألتم : «من هو ومتى أول من ضمّ ملحق الخفقان لأضبارة الرایة ؟»
لندع هذا الآن, أخال أن ثمة سبیلاً آخر للوصول الى جواب هذا السؤال, وهو أن نلجأ لمعرفة ینبوع هذا النهر الخیالی المتعرج الصاخب الزخار, الى النسخ الخطیة. ولانعرف سوى أن نهر الشعر ینبع من قمة الخیال, وقمة الخیال اعلى قمة فی سلسلة جبال «قاف» والحقیقة أن سلسلة جبال قاف فی الجهة الاخرى من حدود جغرافیا العالم وعاصمة أرض الاساطیر.
جاء فی اصح النسخ الخطیة واقدم الکتب القدیمة ان «جبل قاف جبل یحیط بالارض وانه من الزبرجد الاخضر, وخضرة السماء مستقاة منه, وهو أصل ومصدر کل جبال الارض. وقال البعض أن ما بین هذا الجبل الى السماء کقامة انسان, وذهب البعض الى أن السماء منطبقة علیه. والشمس تشرق وتغرب من هذا الجبل. وقالوا فی معنى قاف: أن ذلک الجبل المحیط بالعالم رمز لتلک القاف المحیطة بقلوب الاصدقاء. لذلک یمسکون باقدام کل من یرید تخطی جبل قاف ویقولون له لا شیء وراء هذا الجبل. کذلک من یتمشى فی ولایة القلب وصحراء الصدر, لو أراد أن یضع اقدامه خارج صفات القلب وصحراء الصدر لقبضوا على اقدامه فی مقام القلب وسألوه : الى این انت ذاهب ؟ نحن معک ها هنا»
حسناً, تلاحظون ان کل إمارات جبل قاف صحیحة لحد الآن, وارجو أن تحتفظوا فی ذاکرتکم بعنوان ینبوع هذا النهر بنحو دقیق حتى لا تضلوا الطریق.
ولکن ربما کان السبیل الاخیر لبلوغ ینبوع هذا النهر, أن نغسل النسخ الخطیة فی میاه النهر ونسیر حتى یقول لنا الطریق نفسه این یجب ان نذهب. أیاً کان، ینبغی أن نسیر و نسبح عکس تیار هذا النهر, نصعد درجات الامواج, ونتخطى التعرجات و المنعطفات, نرتقی سلالم الشلالات, وبعد أن نعبر الجبال والودیان الوعرة, نصل الى الینبوع الاول لهذا النهر.
ولکن بأیة واسطة؟ وبأی زورق؟ لاشک اننا یجب أن نتحرک بنفس الواسطة ومن نفس الطریق الذی سار فیه هذا النهر الى هنا. نعلم أن هذا النهر ینبع من قمة الخیال ویجری على قاع الخیال الى ان یصل الى هنا, واذن, نرکب امواج الخیال ونسیر.
الواسطة التی معنا تسهل علینا مهمتنا. نستطیع بطرفة عین أن نطوی القرون والاعصار. سفر فی الزمان لا فی المکان. نطوی العصور الجیولوجیة المختلفة ونصل. نفتح اعیننا. تبقى الاعین والافواه فاغرة من ا لدهشة واطراف الاصابع فی الافواه! یا له من عالم مذهل!
سراخس هائلة الحجم, وسحلیات عملاقة (ربما کانت الدیناصورات ذاتها) الجو ساخن محرق, واهتزازات ارضیة عنیفة, ورعود و بروق متواصلة مرعبة. غابة لم تبصر الشمس ارضها. اشجار متشابکة بجذوع متداخلة واغصان معقودة. نتقدم قلیلاً الى الامام. ها قد حلّ المساء. ثمة مکان بعید تغمز اضواؤه لنا. کهف یتبدى فی قلب الجبل. نتقدم بفزع وهلع. ننظر بحذر داخل فتحة الکهف. هنالک نار موقدة فی داخله. طفل یکسر الاغصان ویرمیها فی النار. الرجال جالسون حول النار یتحدثون. جلس رجل فی طرف آخر ینحت من حجر رأس رمح. رجل آخر یعالج عظم حیوان. احدى النساء تکنس ارض الکهف بشجیرة عجیبة غریبة.
تؤول النار الى الافول رویداً رویداً, وینام الجمیع باستثناء اثنین او ثلاثة. أوقد أحد الرجال ناراً فی جانب آخر من الکهف, وراح یرسم على ضوئها ماعزاً جبلیاً على الجدار.
شاب تمدد فی نهایة الغار لکنه لیس بنائم. تمر امام عینیه احداث الیوم السابق. ینبعث مشهد الصید فی روحه. الغزالة التی اصطادوها وما کان یرغب ان یصطادوها. آخر نظرات غزال صغیر کانت مسمرة على أمّه وهی ترفس باطرافها. نظرة اخرى من الغزال الصغیر. هی ذاتها! لهذا کان ینازع نفسه هکذا. ایة نظرة هذه ؟ ماذا کانت تقول النظرة؟
انه شاعر!
لیس بوسعنا أن نتقدم اکثر من هذا.
نعود الى صلب الموضوع. لابأس یبدو أن نتائج التحقیقات النظریة والعملیة قریبة من بعضها, سواء الرؤیة الاولى التی اعتبرت آدم اول الشعراء أو الرؤیة الثانیة التی تحرت ینبوع الشعر فی جبل قاف, أو الرؤیة الاخیرة التی شاهدناها بأم أعیننا.
أما انا فلا اعلم اکثر من هذا. وربما کان الشعر اساساً شیئاً ألهمه الجن لأول مرة انساناً ممسوساً بالجن, أی مجنوناً (تلاحظون اننا عدنا تارة اخرى الى الجنون والخبل(
وربما کان کل هذا بسبب «التابعة», إی الجن، أو الملاک، أو الشیطان الذی یقال انه یصاحب الشاعر ویوحی له باشعاره.
وربما کان الأمر مدبراً من قبل آلهات الالهام. احدى الآلهات الارضیة أو تحت الارضیة أو السماویة فی الیونان القدیم. أی فی اعصار غامضة مضببة کان عدد الآلهة اکثر حتى من عدد البشر, وکانت الآلهة تتقاتل و تتزاوج فیما بینها ومع البشر ایضاً. زیوس إله الآلهة الکبیر القابع على قمم المبیا له من الابناء ما لاعدّ له ولاحصر. أحد ابنائه علّم الانسانَ الشعر.
وربما کان الأمر بالبساطة التی یقترحها ارسطو: «حیث ان غریزة التقلید و المحاکاة کانت طبیعیة فی ذات الانسان, فمن کانت لهم منذ البدایة مواهب اکثر فی هذا المجال, تقدموا الى الامام خطوة خطوة وراحوا ینشدون ابیاتاً بالبدیهة, ثم انبثق الشعر عن بدائههم.»
ومن یدری؟ ربما لم تکن أی من هذه النظریات صحیحة !
ما هی نقطة البدایة فی رحلتک الشعریة؟
الحق اننی لا أدری ما هو تعریفکم للنقطة! اذا کانت ذلک الشیء الذی لا طول له ولا عرض ولا ارتفاع, فهذا شیء لم یخلقه الباری عزوجل. واذا اعتبرتم النقطة محل التقاء خطین, ربما کانت نقطة بدء الشعر منطبقة على محل التقاء خط الخیال وخط العاطفة ـ هذا لو کان للخیال والعاطفة خطوط ـ ثم اننی لا أدری فی ای تاریخ وایة ساعة التقى هذان الخطان لأول مرة وقدح منهما شرر الشعر. ربما کان هذان الخطان متوازیین ولن یلتقیا ابداً أو أنهما لم یلتقیا لحد الآن, أو لعلهما خطین متطابقین.
ربما لم تکن للشعر نقطة بدایة اصلاً, انما له خط بدایة. والانسان یدرک انه یقول الشعر حینما یقع على خط البدایة, وربما لم یدرک ذلک حتى حینما یکون هناک, انما فی نقطة النهایة فقط یفطن الى أن الحماقة التی ارتکبها أو الحجر الذی ألقاه فی البئر یسمونه شعراً. ولعل الشعر لیست له لا نقطة بدایة ولا خط بدایة, بل له حجم بدایة. واساساً حینما تکون النقطة لاشیء, یکون الخط ایضاً حاصل جمع اللاأشیاء, أی أنه بدوره لاشیء.
وربما کان الشعر خط بلا بدایة ولا نهایة. لأننا لم نر الشعر یوماً یأخذ وقتاً مسبقاً من سکرتیرة الشاعر قبل أن یفد علیه. ربما لأن الشعراء لیست لهم سکرتیرات اصلاً, هم انفسهم «سکرتیرون» سکرتیرو أنفسهم, أو سکرتیرو غیرهم, سکرتیرو قلوبهم.
لا یدخل الشعر فجأة. بل یدخل بهدوء بعد أن یفتح الباب بهدوء ویأخذ الشاعر على حین غرة بحیث لایفهم الشاعر الا بعد ذهابه, أن الضیف سار على سجادة الغرفة باحذیته ولم یبق منه الا آثار اقدامه.
حتى لو جاء لیلة امتحان الریاضیات, لاستسلم له الشاعر رغم ارادته. لا یستطیع ان یتعامل معه بأسلوب اداری فیقول له مثلاً تعال غداً. لأنه اذا غادر فلن یکون من المؤکد رجوعه غداً.
لو علم الشعراء فی ایة الاحوال والازمان نظموا أول اشعارهم, لاحتفلوا فی ذلک الیوم من کل عام بعید میلادهم. ربما تذکر الشعراء نهایات اشعارهم اکثر من بدایاتها. وخصوصاً بدایات اول قصائدهم. وربما کان الأمر هکذا بالنسبة لی وحسب.
ذلک أن انطلاقة الشعر غارقة دوماً فی ضباب کثیف. بدایة کل شعر ضائعة فی غمامة کثیفة من الغموض والألغاز کما هی بدایة البشریة.
الشعر قطار شغّال یزحف من اعماق نفق طویل مظلم. جزء من هذا القطار یبقى مخفیاً فی العتمة والدخان والضباب.
الشعر دهشة وتفتّح. هل بالامکان أن نطلب من الوردة ان ترسم لنا خطاً بیانیاً لأریجها فی اوعیتها وشعیراتها منذ کانت جنبذة الى أن تفتحت؟
لو سألنا احدى الجنابذ عن هذه الأسرار, فما سیکون سوى التبسم الساخر جوابها؟
ماذا ینتابک من مشاعر اثناء نظم الشعر؟
وهذا ایضاً سؤال من نفس تلک الاسئلة. لسنا من الراسخین فی المنطق والبراهین ولکن یبدو أن ثمة تکرار یعشعش فی هذا السؤال. کیف ذلک ؟ لأننا نستطیع اعادة صیاغته بالقول: «عندما تشعر ان شعوراً عمیقاً ینتابک, فما هی المشاعر التی تنتابک؟»
فالشعر هو الشعور وهو التلقی. انه الشعور بالشعور. والشعر هو الحضور وهو الغیاب. الحضور فی الذات والظهور فی الذات والغیاب عن الذات.
بأی علم حصولی أو حضوری یمکن ادراک الحضور فی الذات والغیاب عن الذات؟
من أجل أن یکون للانسان شعوره, یجب أن یکون قریباً من ذاته الى اقصى الدرجات, بل ینبغی ان یکون متوحداً بذاته, أی لا یکون الا ذاته. ولأجل أن یدرک ما هو شعوره فی تلک اللحظة, یتعین أن لایکون هو ذاته بل ینأى بعیداً عنها, حتى ینظر لنفسه من الاعلى ویلمحها من بعید جالسة تنظم الشعر, ویبقى محدقاً فی نفسه من بعید الى أن یکتشف ما هو شعوره حینما یکون هذا شعوره. ای یجب أن یکون هو ذاته ولا یکون ذاته فی نفس الوقت. و هذا اجتماع نقیضین على حد تعبیر المناطقة.
بالضبط کمن یرید أن یرى کیف یرى حلماً. فهو من أجل أن یرى حلماً یجب ان یکون نائماً, لکنه من أجل أن یرصد نفسه وهو یرى حلماً علیه أن یکون مستیقظاً.
أو کشخص یرید أن یرى ما هو الظلام, فینیر المصباح لیرى الظلام. إنارة المصباح وهروب الظلام شیء واحد ! أو على حد تعبیر جلالالدین المولوی الرومی کظلّ یعشق رؤیة الشمس, فاذا تراءت الشمس لم یکن ثمة ظل :
الظلال التی ترنو الى رؤیة النور
تزول اذا ظهر لها النور
والقضیة کقصة تلک البعوضة التی اشتکت الریاح عند نبی
الله سلیمان وحینما احضر سلیمان الریاح الى المحکمة, هربت البعوضة من فورها وهی تقول :
کیف یقر لی قرار اذا جاءت الریح
انها تأخذنی ذات الیمین والشمال بلا رحمة
وحقاً، ما هو شعور قطعة حجر حینما تنبثق من صدوعها الشقائق البریة؟
لاشیء ! ربما شعرت فقط أن یداً غریبة تدغدغ اقدامها بضعة ایام, أو انامل ناعمة غامضة تداعب خاصرتها. وبماذا تجیبون اذا واجهکم هذا السؤال فی احد الامتحانات : «اشرح الآلیات المعقدة لمشاعر والدة تعثر على ابنها الضائع بعد سنوات طوال وتظل تضحک وهی تبکی, من الناحیة العلمیة فی سطرین» (درجتان(
وبالتالی من أجل ان نکون قد أجبنا على سؤالکم, استطیع القول فقط : مشاعری اثناء نظم الشعر تماماً کمشاعر شخص ینظم الشعر !
وهکذا تلاحظون أن الدور الباطل قد اکتمل !
من هو الشاعر والکاتب؟ وهل ینبغی فی الکتابة ونظم الشعر مراعاة کافة القواعد اللغویة والنحویة؟
لو أردنا أن نستعین تارة اخرى باقدام المناطقة الخشبیة, ونعتمد للاجابة عن هذا السؤال بتعریفهم الآخر للانسان, سنجد أن «الانسان حیوان کاتب». بمعنى اننا متى ما ألفینا فی حدیقة حیوان الدنیا, مخلوقاً یکتب رسالة «اطیب التحیات ...» لحیوان آخر فی القفص المجاور, علمنا انه انسان وعلینا اطلاق سراحه من قفص الحیوانیة وحبسه فی خانة اخرى.
ونستنبط من هذا التعریف ایضاً ان الکتابة عَرَضٌ خاص بالانسان. وانتم تعرفون ما هو العرض. انه المرض, انه العلة, انه السقم, ما لا یدوم, وما لا یقوم بذاته, بل یقوم بالجوهر. ولکن هذا لیس اکتشافاً جدیداً. واضح أن الکتابة قائمة بالجوهر [الحبر]. فبدون الحبر لایمکن الکتابة. ای على الانسان أن یکون له جوهر الکتابة [الحبر] وجوهرتها, حتى یتمکن منها.
ولکن اذا اردنا التسلیم لتعریف الکتابة هذا, توجب القول ان الکاتب هو الشخص الذی یکتب, أی شخص یکتب. کل شخص یکثر من الکتابة. واذن فالطفل الکسول الذی یبقى ینقل أحد الدروس عن کتاب «القراءة» سبع مرات الى منتصف اللیل کعقوبة فرضها علیه معلمه, لا یختلف بشیء عن تولستوی الذی اعاد کتابة «الحرب والسلام» سبع مرات. فکلاهما یکثر من الکتابة. اما اذا تعمقنا اکثر وقلنا أن الکاتب هو من یحترف الکتابة, حینئذ یتبدى کافة کتّاب المکاتب الاداریة والرمالین وکتّاب الادعیة والعرائض عند ابواب المحاکم ممن یستحقون جائزة نوبل للآداب.
ولو قلنا أن الکاتب هو من یکتب طالما کان على قید الحیاة, وجب نحت تماثیل المؤلفین السوقیین والکتاب البوقیین ومترجمی کتب الطبخ الجوقیین من ذهب ونصبها فی اعظم ساحات العالم.
وعلیه, الافضل ان نعکس هذه العبارة وبدل أن نقول أن الکاتب هو من یکتب طالما کان على قید الحیاة, نقول أن الکاتب هو الباقی على قید الحیاة طالما کان یکتب. أی أن حیاته هی کتابته. فهو لیس من یکتب فی حیاته, بل الذی یحیى فی کتابته. حتى لو عاش طوال حیاته اربعین صفحة فقط. أو عاش قصة قصیرة واحدة فقط, أو لم تتجاوز فترة حیاته بیتین من الشعر لم یقرأهما على أحد.
واذا سلمنا أن الکاتب یکتب بدل أن یعیش, علمنا أن الکتابة بالنسبة للکاتب هی نفسها الحیاة. وبهذا یتضح جواب قسم آخر من السؤال, وتکون النتیجة أن قواعد الکتابة هی ذاتها قواعد الحیاة. وبالتالی تعاد صیاغة السؤال بالنحو التالی : «هل ینبغی مراعاة القواعد النحویة عند ممارسة الحیاة ؟» أو بمستطاعنا ترتیب السؤال بالشکل الآتی : هل یجب مراعاة قواعد اللغة اثناء الحب؟
سؤالکم : هل یفکر الشاعر فی لحظات نظم الشعر بقواعد اللغة أو المعانی أو البیان أو البدیع أو العروض أو القافیة, یناظر تماماً من یسأل :الطفل الذی یبتسم لأمه وهو فی المهد, هل یفکر اثناء التبسم بالعضلات التی تتعاون لتسحب شفتیه الى الاعلى والخارج کی تخلق البسمة؟
واذا اردنا استخدام لغة القواعد النحویة فی الاجابة عن سؤالکم قلنا :
اللغة لا تتلقى الاوامر والقواعد الا من نفسها. وخصوصاً لغة الشعر التی لا تقبل الدساتیر الا من القلب. وبکلمة واحدة, لغة الشعر لا تصدر أوامر ولا تتلقى أوامر.
اللغة سکرتیرة القلب فی وزارة الشعر. یقول الشاعر کل ما یأمره القلب أن یقول. فنظام السادة والعبید ألغی منذ أمد طویل فی قریة الشعر.
وطبعاً, أقصد قواعد لغة لاتحسن سوى اصدار الأوامر والنواهی, وافعال الأمر وافعال النهی, وحتى الامر بالمنکر والنهی عن المعروف احیاناً, کالنهی عن بعض الاخطاء الشائعة المستخدمة.
الانشاد «فعل مجهول», لا من حیث أن فاعله غیر معروف, بل لأن فاعله الحقیقی غیر معروف. و ربما لهذا شبهه القدماء بالسحر والاعجاز. معلول غیر معروف العلة. هذا رغم أن الانشاد ذاته علة, علة أو مرض أو وجع.
حکایة من یعتبر الشاعر فاعل الانشاد, حکایة تلک النملة التی مشت على الورقة فشاهدت القلم یکتب، فطفقت تثنی علیه وتمدحه. الکتابة کما قالوا «فعل لازم» ولیس «متعدیاً»
الشعر الجید لایعرف القیود ولایخضع لاغلال الزمان والمکان. الشعر الجید یجتنب حروف الاضافة. لایمکن تجزئة الشعر الجید وترکیبه. الشعر الجید من المبهمات. الشعر الجید «ماضی نقلی» رغم وقوعه فی أزمان جد قدیمة الا أنه ساری المفعول الى الزمن الحاضر وحتى الى المستقبل.
الانشاد فعل لایستطیع حتى اکبر الشعراء أن یصرفه فی صیغة المستقبل فیقول :
سأکتب غداً أو بعد غد شعراً. کلما کان الشاعر قدیراً اکثر کلما کان عاجزاً عن التفوه بهذه العبارة اکثر. فهذا کقول القائل: اننی فی العاشرة والنصف من صباح الثامن من أیلول بعد خمسة اعوام سأکون صوفیاً والهاً الى اقصى الحدود! أو کمن یقول: فی الثالثة و 35 دقیقة من حزیران 2009 سابتسم ابتسامة بزاویتین حجم کل واحدة 45 درجة! أو أننی فی ذلک التاریخ تحدیداً سوف اشعر بحزن شدید واجهش بالبکاء لمدة 75 ثانیة !
الشعر, فعل ینبغی استخدام الوجه «الالتزامی» فی تعریفه, مع عدة قیود تشکیک وتردید «ربما» و «کأنما» و «اظن» و «أو» الشک والتردید وحتى «أو» تقریر النوم.
الکتابة بلغة اخرى من الافعال الخارجة عن القاعدة, رغم ان للافعال الخارجة عن القاعدة ایضاً قواعدها على کل حال.
ولکن عموماً لایمکن القول ابداً ان القواعد تصنع القصائد, انما القصائد هی التی تصنع القواعد. وبالتالی یجب القول : بالنسبة لمن تکون الکتابة استثناءً فی حیاته, من الضروری مراعاة القواعد.
أما بالنسبة لمن تکون الکتابة «قاعدة» حیاته, فلیس من الضروری أن یفکر بأیة قاعدة سوى الحیاة.
طبعاً, الکلام یطول فی هذا المجال. علینا أن نسأل اولاً: أیة قواعد؟ القواعد الذاتیة أم العرضیة؟ القواعد الداخلیة أم الخارجیة المفروضة؟ و هل یمکن الوصول اخیراً الى حیث ترتفع کل القواعد والقوانین فی العمل الفنی؟ ندع الشرح والتفصیل فی هذا لوقت آخر.