أکثر ما أربکنی فی الکتاب هو إطلاق تسمیة الشعر الحر على ذلک النوع من الشعر المؤسَّس على التفعیلة، الذی کتبتْه ونظّرتْ له الرائدة المبدعة نازک الملائکة، وقد واکبها السیاب زمنیاً إلا أنه کان شعریاً أکثر حضوراً وتکریساً لهذا النمط فی مجمل نتاجه الشعری، ثم انضمّ إلیهما عبدالوهاب البیاتی، وتلاه صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطی حجازی ونزار قبانی وخلیل حاوی وفدوى طوقان وأدونیس، إلخ.
کنت أدرک أن لشعر التفعیلة ضوابطه وقیوده، وبالتالی لم یکن شعراً حراً، وإن کان أکثر تحرراً من کثرة القیود التی یقتضیها الشعر العمودی. أعتقد أن المبرر الذی اعتمدته نازک الملائکة للتسمیة لم یکن موفقاً، فحریة الشاعر، التی تحدّثت عنها الملائکة، فی طول الأشطر وقصرها أو عدد التفعیلات غیر الثابتة فی کل شطر، لا تکفی لوسم القصیدة بالشعر الحر، إذ لو تحرر الشاعر من التفعیلة أصلاً ولیس فقط من عدد التفعیلات، فماذا کان یمکن للملائکة أن تسمیه. من جهتی أفترض أن ذلک لم یخطر فی ذهنها، فإن خطر فلن تعتبره شعراً، وبالتالی کانت ستبقى عند تسمیتها لشعر التفعیلة بالشعر الحر، ولکنها لو عادت الآن ووجدت أن هناک شعراً متحرراً من الأوزان والتفعیلات والقوافی، وصار شعراً معترفاً به عند غالبیة الشعراء والنقاد، فلا بد لها أن تعید النظر فی إطلاقها تسمیة الشعر الحر على ذلک الشعر الملتزم بالتفعیلة.
ولمزید من بلبلة المصطلاحات هناک من أطلق على شعر التفعیلة تسمیة الشعر الحدیث، لنجد أنفسنا لاحقاً أمام شعر أکثر حداثة من ذلک الذی سُمّی حدیثاً، فماذا نسمی هذا الأکثر حداثة، وماذا نسمی ما یمکن أن یأتی بعده مما هو أحدث من سابقیه؟!
فی تلک الأیام بدأت أتخیل وأتأمّل الممکنات لکتابة جدیرة بأن تسمى شعراً رغم تحررها من الوزن ومن أیة ضوابط خارجیة لا تنبع من داخلها، غیر أننی لم أجرؤ على الدخول فی التجربة، أو حتى على الرکون إلى قناعة راسخة بإمکانیاتها.
قراءتی للشعر المترجم کانت تحبط عندی الأمل بإمکانیة شعر عربی حرّ، أو ما اصطُلح لاحقاً على تسمیته "شعراً منثوراً أو قصیدة نثریة". لکنی حین قرأت کتاب جاک بریفیر المترجَم إلى العربیة تحت عنوان "کلمات"، تهاجستْ فی داخلی إمکانیة کتابة شعر حقیقی بمعزل عن الأوزان والموسیقا الشعریة التی ألفناها..
ولکن النقلة الحاسمة فی هذا المیدان جاءت لاحقاً مع قراءتی لبعض المتصوفة ولا سیما النفَّری.
شعرت أن کتاباتهم لا تقلُّ، عمقاً وإلماحاً وبلاغة ورهافة، عما فی عیون الشعر العربی قدیمه وحدیثه.
نقطة واحدة کانت تؤرقنی قبل أن أحسم رأیی فی مشروعیة الشعر الحر، أو ما یسمى الیوم قصیدة النثر، وهی تسمیة تنطوی على قدر کبیر من التناقض الدلالی والمنطقی، الأمر الذی یربک نسق ثقافتنا العربیة التی نهلنا منها، والتی ترى الموزون شعراً وکل ما عداه نثراً. تلک النقطة التی کانت تؤرقنی هی الموسیقا. إذن کان علی أن أستقصی ما یقدمه النقد والدراسات بشأن أوزان الشعر و موسیقاه والإیقاع، وما تعنیه الموسیقا الداخلیة حروفاً وتراکیب وتوزیع أشطر وتضاداً وتدویراً ومعماراً وتدرُّجاً فی أطوال الجُمل وحتى فی تناسبات وإیقاعات البیاض والسواد على صدر الصفحة. کما حاولت استقصاء العلاقة بین المقامات الموسیقیة والمیلودی والتقاسیم، إلى أن وجدت نفسی مهیأ للتعاطی مع القصیدة، حین تحضر، على النحو الذی تحضر فیه. ثمة مواضیع وثمة أبنیة لها إملاءاتها. ما أکتبه من قصائد نثر لا یمتلک عندی قابلیة لکتابته على التفعیلة، والعکس صحیح أیضاً. تنبع القصیدة من الداخل ثم تختار مجراها الذی ترید. کل ما أحاوله معها هو مراعاة اقتصاد الجریان بعیداً عن العقبات الخارجیة وبأقل ما یمکن من الهدر.
وإذا کانت قصیدة النثر متأبیة، حتى الآن، على أیة معاییر أو روائز ثابتة ومتفق علیها، کما هو الحال مع بعض المعاییر المتعلقة بالعمود أو التفعیلة، فإن القارئ المتذوق لا یعدم معیار الحساسیة الداخلیة فی تمییز طبیعة الأثر أو الصدى الذی یترکه النص، لیقول بعدها: هذا شعر أو قریب من الشعر أو لا علاقة له بالشعر. بالنسبة إلی هناک معاییر إضافیة مستبطنة فی کامل تجربتی مع الکتابة الشعریة على اختلاف أنواعها وأشکالها، وهی على أیة حال معاییر شخصیة لا أدعی أنها نهائیة أو قابلة للتعمیم، ولکنها تمکننی من أن أمیز إذا ما کان صاحب القصیدة متمکناً من أدواته الفنیة أم لا، وإن کان أحسن استثمارها فی قصیدته أم لا، تماماً کما یستطیع الموسیقی أن یمیز العازف الحقیقی أو الموهوب من غیره، مهما کان نوع العزف، إیقاعیاً أم تقاسیم حرة وارتجالیة. التقاسیم هی المکافئ الموسیقی للشعر الحر حیث لا إیقاع سوى ما تعکسه خلجات الداخل الذی تشبَّع بروح کل ما سبقه، فاحتفظ بالروح وتأبّى على القوالب.
ولکن المفارقة المحزنة أن عدداً لیس قلیلاً من شعراء "قصیدة النثر"، ممن لدیهم عدة مجموعات شعریة مطبوعة، لا یدرکون الأصول ولا الفوارق بین "قصیدة النثر" وقصیدة التفعیلة، فتراهم یزوِّقون قصائدهم النثریة ببعض القوافی السجعیة!
بعد عقود على تسمیة "الشعر الحر أو الحدیث" للدلالة على شعر التفعیلة، وعقود على تسمیة "قصیدة النثر"، وقبل ذلک تسمیة "الشعر الکلاسیکی أو التقلیدی"، أما آن لنا أن نتوافق على تسمیات أقرب إلى بُناها وخصائصها ومضامینها ودلالاتها؟
الشعر التقلیدی یمکن أن نجده لدى شعراء العمودی کما لدى شعراء التفعیلة، ولکنّ الذین أطلقوا علیه تسمیة "الشعر العمودی" کانوا موفّقین فی تلک التسمیة التی لها تمایزها ولا تنطوی على أی اختلاطات مع غیرها من التسمیات. کما أن الذین کرّسوا تسمیة "شعر التفعیلة" أنقذونا مما تنطوی علیه دلالة "الشعر الحر أو الحدیث". بقی أن یتمکن ناقد ما أو حرکة نقدیة ما من تکریس تسمیة "الشعر الحر" بدلاً من التناقضات المنطقیة أو الإیهامیة التی تنطوی علیها تسمیة الشعر المنثور أو القصیدة النثریة. فللشعر ملامح وحقول وللنثر ملامح وحقول وإن کان لیس ممتنعاً أن یستفید أحدهما من بعض خصائص الآخر.
نقلا عن فرج بیرقدار / مجلة رمان الثفاقیة