جلال آل احمد فی سطور
ــ ولد فی طهران عام 1923 م
ــ عمل فی حقل التربیة و التعلیم و کان معلماً لعدة سنوات و فصل من العمل لفترات طویلة.
ــ کانت له فی شبابه میول یساریة و نشط فی الاحزاب الیساریة لعدة سنوات, بید أنه فی أواخر عمره عاد الى التراث و الدین منادیاً بهما.
ــ تابع دراسته الجامعیة حتى آخر مراحل الدکتوراه, لکنه امتنع اخیراً عن الدفاع عن رسالته الجامعیة.
ــ نشرت له فی الصحف العدید من المقالات النقدیة.
ــ اشتهرت رحلاته التی دونها اثناء اسفاره الى مکة المکرمة و الولایات المتحدة و الاتحاد السوفیتی و اسرائیل.
ــ ألف کتباً بحثیة عدیدة حول مناطق مختلفة من ایران.
ــ أثار کتاباه النقدیان «نزعة التغریب» و «المستنیرون، خدمات وخیانات» ضجة کبرى فی ایران وخلقا له الکثیر من الاصدقاء والاعداء.
ــ له عدة مجامیع قصصیة وروایة بعنوان «مدیر المدرسة»
ــ توفی عام 1969 عن عمر لم یتجاوز السادسة والاربعین.
یقول سارتر: «اینما حطّ الظلم رحاله, کنّا نحن الکتاب مسؤولین عنه». و بذا لو اعتبرنا الکاتب «ضمیر المجتمع» و الکتابة «صورة الحیاة» لکان جلال آل احمد من بین العدد القلیل جداً من الکتاب الایرانیین المعاصرین (الذین یصدق علیهم لقب الکاتب الملتزم و تصدق الکتابة الملتزمة بالحق والحقیقة على اعمالهم واحوالهم) ابرزهم وارفعهم مکانة فی نظر من طالع کل مؤلفاته واطلع على احواله وسیرته.
اذا جاز لنا اعتبار «بُزُرک علوی» قاص حیوات المستنیرین, و «صادق جوبک» راویة احوال العوام الناجح, وجب اعتبار جلال آل احمد قاص الفئتین معاً, أنه قاص الحیاة الایرانیة. و هو لیس قاصاً فحسب, بل و کاتب مقالات و رحلات و صحفی بالمعنى الدقیق للکلمة. انه على غرار «صادق جوبک» فی استلهامه الحیاة الایرانیة العامیة, احد ألمع رموز مدرسة تفتحت مع «صادق هدایت» ألا انه فضلاً عن کونه صاحب قلم کان صاحب عمل ایضاً. لقد کان فارس الرأی و العمل کلاهما و ممن ینزلون الى الساحة بکل ثقلهم, بل و یعتبر السکوت و الجمود کفراناً للنعمة. و فی حین کان الجمیع ینشدون السلامة و العافیة عند أعلافهم ومصالحهم المادیة, نراه یقول على لسان میرزا أسدالله فی «نون والقلم» :
«... ألفیت أن هذا الجسد لو لم یکن مدیناً, لو لم یکن مدیناً لکل هذه الأنعم التی یهدرها, لأمکن التنحّی جانباً بکل سهولة والاکتفاء بالتفرج ونسج الاخیلة واللجوء الى الشعر والعرفان. ولکن لا یمکن شکر کل هذه النعم بالسکون. هذا الهواء, هذه الصداقة, هذه الانفاس, ابنی حمید هذا, هذه السجادة التی حیکت اطرافها (اشارة الى الاعمال الفنیة الابداعیة, کالکتابة مثلاً) شکر کل واحدة من هذه النعم یجب ان یتم بالعمل لا بالسکون. السکون والسکوت لیس مکافأة لأی شیء»
ماثل آل احمد «جورج صاند» فی قولها «اننی احترف الحریة» فاختار الحریة و کان یکتب و یعمل لأجلها, لأجل حریة المستنیرین و المثقفین و حریة الکتابة و التعبیر عن الرأی. و لأنه کان یرى نفسه مسؤولاً حیال المجتمع فقد کان یکافح وسط الساحة دوماً. ویرى رسالة الکاتب معلقةً فوق رأسه دوماً کأنها سیف «دیموکلس»
الرسالة والاستشهاد
«...الانسان امام مفترق طرق فی کل لحظة: مفترق طرق الحق والباطل». کان آل احمد یجد نفسه امام مفترق هذه الطرق فی کل لحظه من لحظات حیاته: مفترق طرق الحق والباطل, وکان ینحاز الى الحق والحقیقیة دوماً بضمیر یقظ لکاتب ینشد الحریة, ولا یضحی بهما لقاء المال والمنال والجاه والمناصب. وقد تعرض فی هذا السبیل کسائر طلاب الحق والصادعین به لشتى صفوف الألم والمرارة, الا انه فتح الاذرع للمرارات واستقبلها بکل شجاعة. ولهذا یقول تارة اخرى على لسان میرزا أسد الله فی «نون والقلم»:
«... ارى أن الاستشهاد أعمق انواع مقاومة الظلم تأثیراً, مع انی غیر جدیر بهذه المکانة. لا یمکن الابقاء على الحق حیاً الا فی ذاکرة الشهداء»
ویقول فی موضع آخر من نفس الکتاب: « لهذا السبب فانی انظر الى العالم من أعین الشهداء» ... الشهادة, و هی التعبیر الآخر لرسالة الکاتب فی ذهن آل احمد, تجد لها تعریفاً فی موطن آخر من کتاب «نون والقلم» بالنحو التالی:
«...الآن استطیع ان افهم لماذا یقبل البعض على الاستشهاد, لأنهم یخسرون اللعبة و لا یرتضون الفرار. لذلک یبقون و یتقبلون تبعات الخسارة. حینما یفر الانسان من شیء أو مکان, معنى ذلک انه ما عاد یحتمل ذلک الشیء أو المکان. وانا ارید أن أتحمل. انها بدایة الامتحان بالنسبة لی.»
على هذا, ربما کان الکاتب الملتزم بالحق أو الکاتب الحقیقی, اقرب الناس الى القدیسیین. لأنه یحمل بدوره رسالة کما یفعل القدیسون: رسالة فی حقوق الجماهیر, وفی سبیل الصلاح والحقیقة والخیر. لهذا لن یکون من الغریب أن یکتب احدهم قبل سنوات فی وصف أحد الکتاب أنه «کاتبٌ ملهَم» یُلهم ما یکتب کما یلهم الانبیاء الوحی.
فی سنة 1957 قال البیرکامو فی جامعة اوبسالا بمناسبة منحه جائزة نوبل: «کتّاب الیوم یعون جیداً حقیقة انهم اذا تحدثوا شُنّت ضدهم الهجمات النقدیة واذا تواضعوا وسکتوا, امتشق الجمیع سیوف اللوم فی وجوههم.
فی مثل هذه الحالة یفقد الکاتب الأمل فی الاعتزال والانشغال بافکاره وصوره الذهنیة. فی الزمن الماضی, کان التفرد والاعتزال ممکناً على مر التاریخ.
من لم یکن راغباً فی تصدیق أو تکذیب احوال عصره, کان بمستطاعه الصمت أو التحدث عن أمور اخرى. أما الیوم حیث انقلبت کل الاشیاء رأساً على عقب, اکتسب حتى الصمت معنى هائلاً... واضحى کل فنان فی عداد المجدّفین داخل سفینة عصره, رغم علمه بأنه لایوجد هناک سوى حفنة من السجناء المصفدین بالأغلال, أو أن السفینة لا تسیر بالاتجاه الصحیح. أجل, کلنا وسط المحیط, وعلى الفنان ایضاً شأنه شأن الآخرین, أن یجدّف من دون أن یستطیع الموت. لا یحق له الموت. علیه ان یواصل حیاته ویسلک سبیل عمل ابداعی. انه لیس بعمل سهل اطلاقاً. على الفنانیین ان یتحسروا على الازمنة المنصرمة.»
ولکن فی العالم الذی یساوی فیه «سارتر» و «کامو» بین رسالة الکاتب و الفنان, و بین المسؤولیة الضمیریة و الاجتماعیة الهائلة, و یرفعون مکانتها الى درجة التضحیة و الاستشهاد, و یقولون ان على الفنانین التحسر على دعة الازمنة الغابرة, لا یزال ثمة فی انحاء العالم المختلفة کتاب و فنانون یقبعون بدعة و راحة بال فرحین بافکارهم و صورهم الذهنیة التی یعتزون بها اشد الاعتزاز. و وسط مثل هؤلاء الکتاب و الفنانین الخاوین الجانحین الى العافیة, یرفع آل احمد نداء رسالة الکاتب و ضرورة تضحیته فی سبیل الحق.
یرى آل احمد نفسه و سائر الکتاب الرسالیین الامین على «تراث الانسانیة» ... و کتابه «نون والقلم» و هو قصة رمزیة, ربما کان الأول بین الاعمال النثریة الایرانیة, الذی یعلن عن رسالة الکاتب. لیس میرزا أسد الله فی هذا الکتاب سوى جلال آل آحمد ذاته. کما نجد فیه کتاباً آخرین ساروا فی طرق ابتعدت بهم عن رسالة الکاتب. ان هذا الکتاب رسالة مفتوحة لمن یتعین علیهم صیانة «تراث الانسانیة» أو صیانة ما وصفه آل احمد «الشیء الذی سیصل الاجیال الآتیة بعیداً عن کتاب التاریخ العفن.»
«... مجرد اننی وایاک تحرکنا بدافع من أمل, ووضعنا الشهداء نصب اعیننا, فقد اردنا أن نحفظ تراثهم. صحیح أن الاستشهاد لایقصر ایادی الظلم عن ارواح الناس واموالهم, الا انه ینزع سلطان الظلم عن ارواح الناس. ویسلط علیها ذاکرة الشهداء, وهذه هی امانة الجماهیر. اجسادهم تخضع لسلطان الظلم, أما ارواحهم فتتمرد.
هذا هو تراث الانسانیة. وهذا هو ما سیصل الاجیال الآتیة بعیداً عن کتاب التاریخ العفن.»
فی نهایة الکتاب, تبلغ الأمانة والشعور الضاغط بالمسؤولیة فی حمل رسالة الکتابة, ذروتها فی هذه الکلمات القصیرة التی یخطها یراع آل احمد :
«... لم یحمل هذا العبء الا أنا . لا استطیع أن اضعه ارضاً فی وسط الطریق واهرب. علیّ أن ابلغ به نهایة الطریق.»
الاسفنجات البحریة
یکتب مکسیم غورکی فی قصة «کنوالوف »: «اعتقد ان هؤلاء الکتاب کالاسفنجات البحریة لا عمل لهم سوى امتصاص اوجاع الناس وآلامهم. انهم مزودون بعیون وقلوب خاصة لهذه المهمة. اذا سمروا الاعین لمدة طویلة على الحیاة, فلن یخرجوا بسوى البؤس والمسکنة, فینثرون کل هذه البؤس والمسکنة على اوراق الکتب التی یؤلفونها. على کل حال, انهم یفهمون اکثر من الآخرین، وعلیهم أن یبصروهم بمفاسد الحیاة.»
و قد کان آل احمد و احداً من هؤلاء الکتاب المعدودین الذین قال عنهم مکسیم غورکی انهم لا عمل لهم فی هذه الحیاة سوى امتصاص اوجاع الناس و آلامهم, فهم بعیونهم البصیرة و قلوبهم الیقظة متواجدون دوماً عند مآسی الجماهیر ومتاعبهم. و قد صور آل احمد هذه المآسی فی مجامیعه القصصیة الخمس الکبیرة: «الزیارات المتبادلة, عن الألم الذی نعانی, سه تار, المرأة الزائدة, سیرة الخلایا» وکذلک فی روایته المعروفة «مدیر المدرسة» وهو فی کل هذه الاعمال کاتب واقعی ینشد العدالة الاجتماعیة.
مجامیعه القصصیة تشی بتنوع الشخصیات والمشاهد وسعة آفاقه وتجاربه العمیقة فی الحیاة الاجتماعیة ومعرفة الناس. فی کل واحدة من قصص «سه تار» أو «المرأة الزائدة» نواجه شخصیات مختلفة من شتى طبقات المجتمع تعبر عن جوانب من الحیاة الایرانیة وانساق التفکیر، والروح والاخلاق الایرانیة.
لو اراد باحث اجنبی ان یختار من بین الکتاب الایرانیین المعاصرین کاتباً تصور اعماله احوال الایرانیین وواقعهم اکثر وادق من سائر اقرانه, لأختار بلا شک آل احمد و اعماله بکل ما تزخر به من اصالة وبکل ما فیها من تنوع فی الشخصیات والاحوال.
اعماله القصصیة تضمنت على وجه التقریب کافة الانماط البشریة المشهودة فی البیئة الاجتماعیة: عازف یتحرق الى أن یکون فناناً حقیقیاً ویکره أشد الکره أن یغدو عازفاً تجاریاً مبتذلاً. المرأة التی تترک طفلها على قارعة الطریق من شدة الیأس. رجل وسواسی یرید أن یشطف نفسه دائماً. زوجة بائع متجول تتوق الى صبغ اظافرها على غرار نساء الاحیاء الراقیة. اطفال مساکین یبیعون التین للمسافرین فی المحطات، عمال المیناء, قراءة التعازی فی البیوت, الشرطی الذی یلاحق ناشل فتاةٍ هی نفسها سارقة, رجل یتحرق للسلطة, وحیاة محاسب مسکین ... کلها احوال اجتماعیة حقیقیة نقرؤها فی مجموعة «سه تار.»
و فی مجموعة «المرأة الزائدة» نطالع صنوفاً اخرى من الشخصیات نظیر «خداداد خان» و «نزهت الدولة» تنم بدورها عن براعة آل احمد فی تصویر الشخصیات الایرانیة, و اذا اردتم الاطلاع على افضل و ادق الصور للحیاة العائلیة الایرانیة فی الطبقة المتوسطة, علیکم قراءة القصة القصیرة «شمس على حافة السطح» من مجموعة «سه تار»
القصة الاخیرة من هذه المجموعة تحمل عنواناً عربیاً هو «الکمارک و المکوس» و تروی مقتطفات من رحلة آل آحمد فی شبابه الى العراق. و هی على الرغم من عنوانها الفض قصة زاخرة بالعاطفة, تتخذ کبعض قصص آلاحمد الاخرى شکل الربورتاج الى حد ما, الا انها ذات مضمون انسانی یجعل منها قصة شاعریة یسمع القارئ فی نهایتها خفقان قلب رؤوف رقیق لکاتب ذی نزعة انسانیة و عاطفیة اصیلة اسمه جلال آل احمد.
مدیر المدرسة
و هی من افضل ما کتبه آل احمد فی حقل القصة و الروایة. و اعتقد انها رائعة فی تصویر الشخصیات, و نموذج لأکثر قصص الامس الایرانی واقعیةً و بلاغة. و مع انها قصة آل احمد نفسه الذی کان لفترة ما مدیراً لمدرسة, حیث سجل فیها ما واجهه و حل به فی هذه الوظیفة الحساسة بکل دقة و تفصیل, الا ان القارئ یتصفح فی هذه الروایة ذات المئة و سبعین صفحة المجتمع الایرانی برمته فی واحد من اکثر مشاهد الحیاة حساسیة و خطورة, و یتعرف على الایرانیین کما هم علیه و کما یفکرون, لا کما تظهرهم الاقنعة التی یخفون بها وجوههم ... یتعرف على الاطفال, و على الآباء و الامهات, والمعلمین و المدراء, و اصحاب الرسامیل, و العاملین فی السلک التعلیمی, و على شخوص من کل الشرائح والفئات. و بکلمة ثانیة «مدیر المدرسة» روایة مترعة بالسخریة و الالتفاتات و الصور التی تضعنا وجهاً لوجه امام الاشخاص و الاماکن والطباع الایرانیة, و لا یبدو ان آل احمد اختلق شیئاً ابداً لهذه الروایة. و مع ان السرد الروائی فیها اقرب الى کتابة التقاریر, بید أن المتلقی یشعر انه یقرأ روایة مزدحمةً بالاحداث الشیقة, و یترقب کل حین ما سیحدث لاحقاً, و ما ستکون عاقبة مدیر المدرسة، هذا الذی یبدو انه یختلف عن کل مدراء المدارس :
«... لکن السیئ فی الأمر هو أن راتبی کان أعلى الرواتب فی القائمة الشهریة. کأعظم المعاصی فی صحیفة الاعمال. کنت اقبض ضعف راتب الفراش الجدید.»
«خجلت من الارقام المتهالکة لرواتب الآخرین وکأننی قد سرقت اموالهم. تمشیت ساعتین کاملتین, و قدمتهم کلهم علیّ عسى ان تکون هذه کفارة اعمالی. و طوال هذه الساعتین لم یخطر ببالی حتى مرة واحدة أن أیاً منهم لیس له حتى ثلث سابقتی فی الخدمة, و لا حتى نصف الاوراق التی لففتها و لا أدری فی أیة زوایا الحیاة دسستها. الآن رحتُ اصطنع لنفسی مثل هذه الفلسفات والتبریرات.»
«لم اشعر یومذاک بسوى أن الآخرین حینما تکون رواتبهم قلیلة لهذة الدرجة, لا تستطیع الا ان تشعر بأنک مسؤول حتى لو کنت موظفاً مغموراً لدى الحکومة. ولهذا لم استطع اقناع نفسی. ثم عندما خلا المکان ووقعت بعض الاوراق, وقعت عین أمین الصندوق علی ووضع فی یدی ستمئة تومان کان قد سرقها, اللعنة»
هذا نموذج لشعور عمیق بالمسؤولیة فی ضمیر کاتب رسالی یقول عنه سارتر: «اینما وجد ظلماً و اجحافاً, اعتبر نفسه مسؤولاً» خصوصاً حینما یتولى وظیفة تربویة خطیرة فی منصب رسمی.
یمکن تقدیم شروح تفصیلیة لکل واحدة من القصص القصیرة لآل احمد, ناهیک عن روایة طویلة مثل «مدیر المدرسة» و لتعریف القارئ بهذه الروایة نورد فیما یلی مقاطع منها:
1ـ «... لوحة المدرسة ایضاً کانت کبیرة و مقروءة بما فیه الکفایة. تصرخ عن بعد مئة متر: کان قدیراً کل من... کل ما شئتم ... بأسدها وشمسها فی الاعلى. الاسد یحفظ توازنه بصعوبة وعلى اکتافه تقبع السیدة الشمس بحاجبیها الملتصقین المتداخلین»
2ـ «... تعرفت على طبیب الصحة ایضاً. ما یزال غیر قادر على اخفاء لهجته القزوینیة بین المصطلحات الطبیة الاجنبیة. کان المقرر ان یأتی مرة فی الشهر بحثاً عن التراخوما, عسى أن یعمی عیون اطفال الناس. یقلب اجفانهم بسرعة وطریقة لو اراد ان یستعملها معی لما سلم من صفعتی. کتب لنا مرکورکروماً وقطناً ولفافات صحیة نستلمها من دائرة التربیة لکنها لم تکن متوفرة هناک, فاضطررنا للاستعانة بوالد أحد الطلاب کان طبیباً فی دائرة صحة الجیش, اعطانا ما نرید مجاناً»
3ـ «... أخذ المعاون یعلمنی أن استلم بدل تسعة احمال من الفحم, ثمانیةعشر حملاً مثلاً, ثم نتصالح مع دائرة التربیة. هی هی ! لم استطع ان افعل شیئاً حتى الظهر سوى أن اکتب استقالتی وامزقها عدة مرات ... هکذا یضعون الخطوة الاولى امام اقدام الانسان.»
4ـ «... ها قد تبینت احوال کل اعضاء الاتحاد. بحسب درجة احترامهم لکل شخص, یمکن ان تخمّن ما هو عمله. حاجی آقا کان أمین صندوق .ورئیس الاتحاد, تذکرت انی قرأت اسمه فی عناوین الصحف قبل سنوات. کان بانتظار وزارة, لکنه قنع الآن بـ «نعم سیدی» یسمعها دائماً من اعضاء الاتحاد فی محلته, وبمتابعة شؤون الماء والازبال والکهرباء فی المنطقة, ولاریب انه کان منتفخاً جداً لأن العاملین فی مدرسة المحلة زاروه الى مکتبه. خطر ببالی کم کان جمیلاً ان یقنع کل الوزراء مثله, ویفتحوا وزاراتهم فی ازقتهم ومحلاتهم»
5ـ «... حتى لو کنت مدیر مدرسة, فعلیک ان تغلف شخصیتک وکبریاءک باوراق ملونة وتضعها على قبعتک حتى لا تتعفن, وتخیطها بقماش اخضر وتعلقها على صدرک حتى لا تصیبک العین. حتى لو اردت ان تکون معلماً زقنبوتیاً, ولِمَ تذهب بعیداً؟ حتى لو کنت فراشاً یقبض تسعین توماناً فی الشهر, علیک ان تغطّ فی الوحل الى أم رأسک ... فلن تکون مرتاح البال حتى هنا...»
6ـ «... وجدت انه لا فائدة من هذا, وعلیّ أن اطلب العون من شیء ما, من سلطة, أو منصب أو هندام, أو شیء آخر. اغلظتُ صوتی وقلت : «انا ...» اردت ان اقول انا مدیر مدرسة, لکننی ندمت فوراً. کان سیقول حتماً : وای کلب هو مدیر المدرسة ؟!»
7ـ «... ینبغی ان تکون مدیراً, أی تقف فی طرف الساحة وتنظر کل یوم وشهر لاصطفاف المعلمین والطلاب, حتى تفهم ما معنى شهادة الدبلوم او اللیسانس؟ معناها أن صاحب هذه الشهادة قضى 12 أو 15 سنة بکاملها یکابد ضغوط الفزع أربع أو عشر مرات فی کل سنة, طاقته المحرکة هی الفزع والفزع والفزع.»
8ـ «... قبل هذا لم یکن بمقدوری ان افهم کیف یمکن الوصول من ادارة مدرسة أو وظیفة بسیطة فی دائرة الى الوزارة, او کیف یمکن تمنی هذا الشیء اصلاً.»
«حفنة تواقیع جاهزة, کل واحد منها لشخصیة معینة, ثم نصف ذراع لسان لبق تسحب به الافعى من جحرها, أو تلحس به کل الاماکن, وشکل ممیز, لیس شکلاً واحداً, بل 12 شکلاً, کحزمة الملاعق, کل واحد منها لمهمة معینة.»
«مدیر المدرسة» روایة حافلة بالسخریة والنقاط الدقیقة وصور الشخصیات والاماکن وهی بمجموعها صورة للمجتمع الایرانی آنذاک والمتاعب والمآسی الفردیة والاجتماعیة.
صور آل احمد
لامراء ان جلال آل احمد اکثر الکتاب الواقعیین المعاصرین فی ایران مثابرة, واغزرهم تصویراً لصنوف الشخصیات فی المجتمع الذی عاش بین ظهرانیه وکتب کذلک عن اماکنه ومحلاته.
ولعل تعریف شخصیات قصصه على نحو السرعة, یستلزم بحد ذاته دراسة مستقلة. ولکن من أجل ان نکون قدمنا نموذج لتصویره الاماکن والاشخاص فی کتاباته, نعرض للقارئ المقاطع التالیة:
صورة امرأة :
«... السیدة نزهت الدولة ذات قامة طویلة وهذا لیس بالشیء القلیل. مع أن انفها رفیع جداً, الا انه مائل الى الیمین بعض الشیء. طبعاً لا تتصوروا انه اعوج, ابداً, فلو کان اعوج لسارعت واجرت له عملیة تجمیل بالجراحة البلاستیکیة لتعدّله. صوتها رقیق جداً. حینما تتکلم لا تعبس ولاتقطب اطلاقاً, وحاجباها وطرف فمها لایتحرکان اصلاً حینما تضحک. لایمکن اهدار خمسمئة تومان کلفة الماساج على ضحکة عریضة واحدة.
تصبغ شعرها مرة واحدة فی الاسبوع. یجب القول ان لها فکین عریضین حقاً. والاجمل منهما اذناها الصغیران والظریفان جداً. لکن المؤسف انها مضطرة للتضحیة بأحد هذین الاذنین الظریفین فی سبیل تموجات شعرها .... لف شعرها اکثر انتظاماً من تفریش اسنانها الیومی. وصحیح أن عنقها طویل بعض الشیء, لکنها تخفیه بمندیل زینة تلفه علیه مرتین او ثلاثاً, فلا یستطیع أحد ان یفهم شیئاً عن طول عنقها.»
عن کتاب «المرأة الزائدة»
صورة مکان :
«... تآکل اطراف السواقی, وضیق الازقة, والاسوء من کل شیء, الاحجار الکبیرة غیر المصقولة التی لا أحد یدری لماذا وضعوها فی بطن کل الجدران الطینیة عند کل عطفة, کانت المشکلة الاکبر فی هذه الشبکة من الازقة. وهو بائع جوال فی الازقة لا یستطیع بخرجه الثقیل هذا المرور عبرها بسهولة. فوق رأسه وعلى الارضیة الطینیة للجدار, وبعیداً عن ایدی المارة, ما تزال هناک بقایا کلمات قاموس طویل عریض مسحت امطار الربیع بعض اجزائها فیما مسحته من طین الجدار. وفوقها عند طرف السطح کوز مکسور معلق من ماسکه بحبل لابد انه طرف حبل غسیل یستعمله سکان المنزل.»
من قصة «الطلاء الوردی» فی مجموعة «سه تار»صورة معلم
«... معلم الصف الاول نحیف شدید السمرة, بلحیة خفیفة جداً و شعر قصیر ویاقة مقفلة, بلا ربطة عنق, یشبه الکتاب الجوالین عند ابواب البرید, بل ویبدو أحد الخدم. کان صامتاً ومعه الحق فی هذا. یمکن تخمین ان مثله لا یتجرأ على الکلام الا داخل الصف الاول, وهو لا یتکلم هناک الا عن حرف الـ (آ) ذی المدة فوقه, والحرف الوسطی وما الى ذلک. معلم الصف الثانی قصیر دحداح یصرخ بدل ان یتکلم. فی عینه احولال, ولم استطع منذ الیوم الاول أن افهم الى این ینظر حینما یتحدث مع احدهم. یقهقه عالیاً بعد کل صرخة قصیرة یطلقها, واضح انه مهرج ـ معلم.»
من روایة «مدیر المدرسة»
صورة صالة المدرسة وخارطة العالم على جدارها
«... بعده کان هناک صالة المدرسة. خالیة وکبیرة فیها عمودان ابیضان مربعان وفی اقصاها عدة مناضد ومصطبات محطمة. الجدار المقابل مغطى بصور الابطال والفتیان والعدائین السود و رافعی الاثقال المصریین «هدیة من علیمردان هندی للابتدائیة...»
«کعلامة للمصنع الذی انتجها کتبت فی اسفلها کلمات بخط ردئ, وازرق البحار یشبه ماء فم انسان میت و بحیرة الخزر بدت کأنها «بته جقه» و سکک الحدید کلها عریضة و عامة, تتجاوز حتى کرمان و جزر اندونیسیا ملتصقة کلها بسنغافورة, و کل قطعة من اسفل الخارطة لها لون مختلف وقد شکلت مجموعة الالوان بقجة مرقّعة, و کل قطعة صغیرة لها حدودها الدالة على استقلالها کبلاد ذات جیش و علامة وعملة وطوابع بریدیة وقیل وقال و سجون و القاء قبض و کل واحدة فی ید أمیر أو اقطاعی أو شیخ یقودها مع عائلته او قبیلته صوب طریق الحریة و الاعمار.»
من روایة «مدیر المدرسة»
صورة رجل دین
«... کنا نلوث السجادات والبسط بالثقافة ونسیر! یبدو انهم ألقوها على بعضها ثلاثةً ثلاثة... رجل دین بتبّان ابیض و خشتق واسع وقف یصلی. حینما رفع رأسه من السجود رأیت لحیته للحظة. جاء صاحب البیت لاستقبالنا بلهجة یزدیة واضحة... کان تاجر سجاد... و جرنا الحدیث الى سوق التصدیر الى أن جاء السید الحاج [رجل الدین] من! نهض و لبس سرواله امامنا و عدّل (....) و قال: مساکم الله بالخیر...»
من روایة «مدیر المدرسة»
وجه من الماضی
«... وصل واحد آخر بیده سماعة طبیة یرتدی البیاض و تفوح منه العطور بحرکات تشبه ممثلی السینما. ألقى السلام. حرّک صوته شیئاً صغیراً فی قعر ذاکرتی, و لکن لم تکن هناک حاجة للفضول و التحری. أحد تلامیذی قبل لا أدری کم سنة. عرف نفسه بنفسه: السید الدکتور (....) یا له من زمن! ألقیت کل قطعة من شخصیتک بحماقة من مخزن حماقاتک مثل ذرة فی تراب، وقد اخضرت الآن. وها أنت ترى انها لا تدل علیک ابداً.
تستطیع ان ترى لون مصانع الافلام على وجهه... فی حرکاته وسکناته وانبوب السماعة الملفوف حول یده... هذا الطفل المتمیع واطفال آخرون مثله لا تعرفونهم خرجوا کلهم من بیضة کانت فی یوم من الایام حدود شبابک التی یجب أن لا تتعداها, وقد تکسرت الآن وخلت. لم یبق أی شیء لأی منهم داخل هذه الجدران المحطمة...»
من روایة «مدیر المدرسة»
لا تقتصر اعمال آل آحمد على هذه المجامیع القصصیة. فرحلاته ومشاهداته التی تعد نمطاً جدیداً من کتابة الریبورتاجات صالحت بینها وبین کتابة القصة (احیاناً کان آل احمد یکتب القصة على شکل ریبورتاج) خلیقة بکل تدبر و تأمل, إذ یمکن کتابة الکثیر من مضامینها واسلوبها النثری وما فیها من تصورات فکریة واستعمالات ادبیة. کما ان ترجماته تدل بدورها على منهجه الادبی والفکری واحاطته بالادب الغربی.
من حیث تصویره لمآسی الناس وبؤسهم وهو ما یتجلى بأرقى صورة فی مجامیعه القصصیة «سه تار» و «الزیارات المتبادلة» و «المرأة الزائدة», یماثل آل احمد کتاباً روساً من قبیل مکسیم غورکی و دوستوفسکی.
على أن القمین بالملاحظة والاشارة هو الاستقلال الفکری الذی تمتع به آل احمد, وایرانیته المحضة وعدم انهزامه او انبهاره امام الحضارة الغربیة, و علامات الاصالة و المعنویة الشرقیة المتجسدة بکل جلاء فی کافة کتاباته.
کتابه «نزعة التغریب» مع انه لم یکن جدیداً فی مضمونه الذی یفضح مفاسد الحضارة الغربیة الصناعیة, حیث سبقه الى هذه الطروحات باحثون آخرون نظیر احمد کسروی فی «الطباع» و الدکتور فخرالدین شادمان فی «مأساة الغرب», بید أن بیانه الادبی و تصوراته المتهورة للتاریخ, اضفت على «نزعة التغریب» قیمة ادبیة و فکریة مختلفة, خصوصاً و ان آلاحمد ابدى عن نفسه بسالة منقطعة النظیر فی فضح مفاسد العهد السالف.
النثر الغاضب لآل احمد
لیس نثر آل احمد فی صراحة نثر «صادق جوبک» و لا بجزالة نثر «صادق هدایت» و لا ببساطة وعفویة نثر «بزرک علوی», الا انه یتحلى بفصاحة وقوة, وربما متانة وقاطعیة خاصة لا نلفیها فی نثر أی من اولئک الکتاب الثلاثة. وربما کان السبب هو أن آل احمد کان معلم ادب وملماً بالعربیة ویمکن اعتباره «أدیباً»
ثم ان نثره نضج فی الحقل الصحفی واشتد عوده فی کتابة المقالات, وصقل فی کتابة القصة. فأعماله مثل «نزعة التغریب» أو «قشة فی المیقات» بغض النظر عن مضامینها, لها قیمة ممیزة من حیث الاسلوب النثری, وحتى مقالته التی کتبها مبکراً فی ذکرى صادق هدایت تفصح عن قدراته الفنیة فی الصیاغة النثریة.
یکشف نثر آلاحمد عن وجه غاضب و عصبی لکاتب کأنه یمسک بیده سوطاً بدل القلم. و استطیع أن أسمی نثره «النثر الغاضب», نثر خلقت کل حروفه و کلماته و عباراته اعصابٌ متوترة.
قلما نجد کاتباً یکون فی کتاباته غاضباً وعصبی المزاج کما کان علیه آل احمد, الى درجة اننا نسمع احیاناً صوت اصطکاک اسنانه فی ثنایا السطور.
مخاطبة القارئ بصورة مباشرة واستخدام ضمائر المخاطبة من دون أیة رتوش أو مجاملات, بل و ببعض اللوم والعتاب احیاناً, مع انه ینم عن لون من الصدق والبراءة فی کتابات آل احمد و عن رفع کل الحجب بین الکاتب و القارئ, الا انه من جهة اخرى یضفی على نثره نمطاً من الفضاضة والشدة والصلف.
ومن السمات الاخرى لنثر آل احمد عدم الاتیان بالفعل فی آخر الجملة, أو حذفه من الاساس, واختصار الجمل بنحو ملحوظ بینما تکون المقاطع جد مطولة وتمتد احیاناً لتستغرق عدة صفحات. انها سمات تسبغ على نثر آلاحمد خصوصیته واصالته وتشی فی الوقت ذاته بغضبه و انفعاله.
اذا کنا نلاحظ جوبک فی اعماله شخصیة جادة و عابسة, ونلمح وجه علوی فی کتاباته یائساً حزیناً, فإن وجه آل احمد ینبسط تارة بابتسامة ساخرة, وتصطک اسنانه تارة اخرى من فرط الغضب, الا انه یبقى فی کل هذه الاحوال صادقاً طبیعیاً بلا أیة اقنعة, مضافاً الى کونه متمرداً ملعلعاً صاخباً...
فی سنواته الاخیرة, کانت سمرة وجهه قد ازدادت بفعل الشمس واکتسبت مزیداً من الصلابة والعزم یحکیان اصراره على مواصلة الطریق الذی سار فیه و کنت اتمنى دوماً ان یکون مصیره فی سوح الصراع الاجتماعی و السیاسی افضل من مصیر میرزا أسدالله فی کتاب «نون والقلم» فلا یقول مثله: «حسناً, سوف نأتی رغم علمنا اننا لن نداوی أی وجع من اوجاع الزمن»
فهو بخوضه فی الکثیر من المشکلات والاوجاع باقتدار وامانة وصدق, لم یؤد الواجب الرئیس للکاتب فحسب, بل وقطع الخطوة الاولى باتجاه المعالجة ایضاً.
فی کل واحدة من قصص آل احمد ثمة استعراض لأحد اوجاع المجتمع ومشکلاته. فمثلاً لو أراد شخص الاطلاع على متاعب المراجعات الاداریة والروتین القاتل والبیروقراطیة فی بلادنا, علیه قراءة قصة «دفتر الضمان» لآل احمد. وحتى فی کتاباته غیر القصصیة لم یفتأ یستعرض المشکلات والالام التی تعانی منها شرائح الشعب المختلفة.
وهو لا ینسى تحرى الالام حتى فی رحلاته ... وربما کانت الصحافة وملابساتها احدى اهم المعضلات الثقافیة فی مجتمعنا. و قد أصدر آل احمد عدة رسائل بعناوین «الصحف المزوّقة» و «ثلاث مقالات اخرى» تناول فیها هذا الهم الذی قلما اولاه أحد نصیبه من الاهمیة, و مع أنه جرح یتفاقم ویزداد قرحاً یوماً بعد یوم، الا ان البعض یخالونه ملیحاً کخال فی طرف الشفاه !
قروح الفؤاد
ربما کانت المرة الاولى التی شاهدت فیها جلال آل احمد هی تلک التی جمعتنی به فی صالة المحاضرات بالمعهد العالی: کان شاباً بخلاف ما آل إلیه فی سنواته الاخیرة, ابیض الوجه باسم المحیى ملیئاً بالحیویة والتوثب جلس فی الرتل الاول من الحضور فی الصالة التی کانت سیمین دانشور ـ مؤلفة «النار المنطفئة» و «سووشون» لاحقاً ـ تدافع فیها یومذاک عن رسالتها للدکتوراه فی الادب الفارسی.
کان آل احمد فی الرتل الاول من الحضور مرکزاً ذهنه واسماعه الى درجة اننی لم افهم هل هو غارق فی دفاعات دانشور عن رسالتها, أم أنه هائم فی سیمین دون ما تنطق به. بعد ذلک حینما تزوجا وشکّلا زوجاً ادبیاً معروفاً, ادرکت فی ای بحر کان قد غرق جلال یومها. والآن بعدما انقضت کل تلک السنین, یمکن سبر اغوار ذلک الهیام بصورة افضل.
بنفس الشوق الذی کان ینظر به جلال یومئذ لسیمین وهی تدافع عن رسالتها للدکتوراه, وبنفس نظرة الاستحسان النامة عن اعجابه بالفن والفنانین وعن اخلاصه للجماهیر الذواقة, کان دائماً فی قلق ممض على الفن والفنانین ومصیر الکاتب والکتابة فی بلاده. فی کل مرة کنت أراه, کان یبدی اسفه لضیاع عمری فی الصحافة, وفی المرة الاخیرة حینما سألنی عن مشروعی الحالی وقلت له اننی مشغول بتنظیم المثنوی حسب مضامینه, واشرت اثناء شرحی للتفاصیل الى عمق المثنوی فقلت ان المثنوی یجر الانسان الى الاعماق کما تفعل طحالب البحر العمیق حینما تلتف حول اقدام السابح, اعجبه هذا التعبیر جداً و اوصانی ان اکتبه فی عملی. کأنه استخدم کل عواطفه فی سبیل تحسین مصیر حریة الفنان و رسالة الکاتب الباحث عن الحقیقة.
فی قصة بعنوان «قروح الرمانة» صدرت فی «کتاب الشهر» نراه یتطرق مرة اخرى لرسالة الکاتب مما یعید الى الذهن ابیاتاً مؤثرة لـ «آلفرید دی موسیه» یروی فیها أن انثى طائر جارح حلقت یوماً بحثاً عن صید لفراخها, لکنها لم تجد شیئاً وعادت خالیة المنقار الى صغارها فی العش ولأنهم کانوا یتضورون جوعاً وما کان بمقدورها مشاهدة منظرهم على هذه الحالة, راحت تنقر صدرها وتدمیه لتستخرج شیئاً من کبدها تلقمه فلذات کبدها... أولیست هذه هی مهمة الکاتب الاصیل الذی یشعر بالمسؤولیة من اعماق ضمیره؟ ثم الیس ما یقدمه الفنان الحقیقی انما هو قطع مجتزأة من روحه وکیانه؟ ألا یصح القول أن نتاجاته انما هی قروح فؤاده؟
علی اکبر کسمائی
کاتب وناقد / توفی 1993